بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد : أيها المسلمون: إن الإسلام دين التوحيد : توحيد الله جلّ وعلا ، وإفراده سبحانه بالألوهية وحده ، والعبودية مناله. « إ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ». وهو في حقيقته : دعوة موجهة إلى العقل البشري تستحثه للنظر البعيد في الكون والإنسان والحياة ، ليتعرف إلى آيات الله الشاهدة بوحدانيته ، يقول تعالى :«أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ». ويقول :«أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ *وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ» ويقول بشكل عام : « وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ». أجل إن في الأرض آيات للموقنين الذين يتوفر لهم اليقين ، ويترسخ العلم بقيام الوحدة بين أطراف الكون والإنسان والحياة ، وتدفع بها جميعاً في خضوع وتسليم وانسجام في طريق الله الواحد القهار القائل :« تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ». أيها المسلمون ، إننا والحمد لله مسلمون موحدون له ، ولذلك فإننا موقنون بأننا لا يسعنا تحقيقاً لسعادتنا الدنيوية والأخروية إلاّ أن نسلك هذا الطريق : طريق التوحيد فيما نفكر وفي كل ما نعمل . لم يعد يليق بنا أن تبقى مؤسساتنا تسير في طرق شتى ، هذه مشرقة وأخرى مغربة ، وكثيراً ما تتنافر وتتصادم وتضيع في تياراتها قوانا وجهودنا ... لقد جاء الوقت الذي يجب أن تلتزم فيه مؤسساتنا الإسلامية بمبدأ العمل الجماعي ، الذي هو توحيدي شكلاً وموضوعاً ، انسجاماً مع منطلقنا العقدي ومرتكزنا الديني ، فإن صياغة تفكير مشترك واحد لمصلحة هذه المؤسسات وتقدمها ، هو في الحقيقة ونفس الأمر سعي مخلص في طريق توحيد الله ومرضاته. أيها المسلمون، إن موضوع تطوير المؤسسات الإسلامية تطويراً عصرياً ، الذي تفضل مشكوراً بالتوجيه بطرحه مجلس الإفتاء الاستشاري ، هو التجربة الأولى لعقد المؤتمرات الإسلامية في لبنان ، وإني لعظيم الثقة بأننا سنكون في حرصنا وتعاوننا بإخلاص على إنجاحه في مستوى دين التوحيد العظيم الذي ننتمي إليه . وإني لأرجو أن يكون واضحاً منذ اللحظة الأولى في هذا المؤتمر الإسلامي اللبناني الأول ، الذي هو حلقة من سلسلة الحركة الفكرية الضرورية لدار الفتوى ، أن الآراء التي ستطرح فيه تعبر عن قناعات أصحابها وحدهم ، الذين تحملوا مشكورين عناء السهر والتفكير والكتابة لتطوير مؤسساتنا المختلفة ... ودور الإفتاء هنا ينحصر في إتاحة الفرصة للفكر الإسلامي اللبناني الذي يشهد واقعنا الاجتماعي المسلم ، ليدرس هذا الواقع ويعالجه ، ويلتمس له طريق التقدم والنمو والتطور ، معبراً في كل ذلك عن ذاته في حرية تامة ... ومن خلال مفهومه للإسلام العظيم . وإذا كان بعض المفسرين يقول في توضيح قوله تعالى : « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » أي ليعرفوني فإنّا نجيز لنفسنا القول بأن مفهوم هذه الآية يصبح في نظرنا : وما خلقت الجن والإنس إلا ليتفكروا في خلقي وينظروا في آثاري ، فيتعرفوا علي عن طريقها فيعبدوني حق العبادة ، ويتحرروا حق التحرر: ذلك أن إفراد الله تعالى بالعبودية هو في الحقيقة والواقع : رفض للعبودية لأي كائن سواه في الأرض أو في السماء ، وتحرر مأمون من سلطات النفس الأمّارة بالسوء ... وهكذا فإن عبودية الإنسان لله وحده ، هي طريق حريته وخلاصة من القيود الأثيمة ، ولن تكون له حرية عزيزة مجيدة بدونها أبداً . إن أخطر العبودية المعاصرة هي عبودية الإنسان لأهوائه وشهواته ، التي أهبطت مستواه الخلقي والاجتماعي والحضاري ، وعبوديته للأفكار الجاهزة المستوردة ، المدفوعة بوسائل الدعاية المغرية التي عطلت طاقاته الفكرية والمعنوية أو جمدتها على الأقل ... ولقد حضنا القرآن الكريم والسنة المطهرة على التفكير الدائم في كل لحظة وفي كل ساعة ، وفي كل يوم ، في كل شيء فقال تعالى :«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ». ويقول السري السقطي : ( تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة). إن هذا الحض هو في الحقيقة دعوة لإعادة النظر في كل أمر من أمورنا حتى لا نقع اسارى الهوى والشهوات والعادة والعرف والتقليد ، ولمحاسبة النفس في كل لحظة من قول وفعل ، في ضوء مقايسة مخلصة تكون منا بينها وبين الحدود التي رسمها لنا الله تبارك وتعالى في كتابه العظيم ، وسنة نبيه الكريم ومن هنا كان قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : « حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا». وهكذا أيها السادة : فإن العبودية لله التي هي طريق التحرر الإنساني ، تصبح قضية الإسلام الأولى المفروضة علينا في كل زمان ومكان ، وهي تحرر في نفوسنا وأفكارنا وأعمالنا ومؤسساتنا في إطار حدود الله ، وبإتجاه مرضاته التزاماً بتوجيهات كتابه العظيم ، وسنة نبيه الكريم . وتأكيداً لمعنى الحرية ، فقد تركت اللجنة الإعدادية للجان في هذا المؤتمر الحرية في أن تضم إلهيا من تشاء من المسلمين ، للمشاركة في صياغة التوصيات والمقررات التي ستكون وحدها نتيجة البيان النهائي ، ونتعهد بإذن الله بالتعاون مع جميع المؤسسات الإسلامية المعنية على العمل ، لوضعها موضع التنفيذ . وبعد فإني أرجو أن أضع بين يديكم من جهتي ، توصيات آمل أن تعيروها في محاورتكم حول موضوع تطوير مؤسساتنا كل اهتمامكم . أولها : تقوى الله ومراقبته سراً وعلناً في كل ما تقولون وما تعملون. ثانيها : الإهتمام بالجوانب المشتركة التي تهم المؤسسات الإسلامية كافة ، وتتفق عليها وعلى الجوانب الخاصة ، ولا سيما التي يمكن أن تكون سبب الخلاف والفرقة بين المسلمين ، فآمل أن تمسكوا عن البحث في أي موضوع تظنون بأنه قد يسيء إلى بعض الجهات ، أو بعض الأشخاص ، وآمل أن تكون روح البحث والحوار لدينا واضحة كل الوضوح، فهي روح الإخلاص لتحقيق التعاون الإسلامي البناء مع كل جهة مسلمة ومع كل مسلم في هذا البلد . ثالثها : أوصي بأن تكون رؤيتكم من خلال أبحاثكم شاملة تأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الإسلامية العامة ، متمنياً أن تتجنبوا أي موضوع أو أسلوب أو صياغة من شأنها إثارة الحساسيات الطائفية ، حتى لا تقعوا في أنانية أو سلبية وطنية يرفضها جميع المخلصين في لبنان . رابعها : إن هذا المؤتمر وهو الأول من نوعه يعقد في لبنان، سيعبر دونما ريب عن مدى ما تمثلون من كفاءة فكرية ومعنوية وإنجازية ، فآمل أن يحمل لكم الشهادة الكاملة اللائقة بمقامكم العظيم ومكانتكم السامية . وبعد ، فإنه يسعدني أن أعلن باسم الله افتتاح المؤتمر الإسلامي اللبناني الأول ، لتطوير المؤسسات الإسلامية تطويراً عصرياً . فعلى بركات الله والله من وراء القصد ، وهو يهدي السبيل . الختامية ختم المؤتمر الإسلامي اللبناني الأول المنعقد بدار الفتوى ببيروت أعماله مساء الاثنين 20 جمادى الأولى سنة 1349هـ ، وبعد أن أعلن الأمين العام للمؤتمر الأستاذ حسين قوتلي قرارات وتوصيات المؤتمر. ارتجل سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد هذه الكلمة الختامية ، حيا فيها الحضور ، ورحب بهم ، وبين أن هذه المؤتمر كان فرصة سانحة لأولي الفكر والرأي والمسؤولية من رجالات المسلمين ، للتداول والنقاش في أعلى مستوى من الأهمية والوعي والتفكير في أمور المسلمين ، وهي محل تطلعاتهم وآمالهم . وقال سماحته : إن المؤتمر . بلا ريب ، قد عمل في جد وإخلاص ، وتجرد وموضوعية . ولقد انفتح المجال أمام جميع الأعضاء لإبداء آرائهم والتعبير عن أفكارهم . وظهر ذلك عن طريق أبحاث المحاضرين ، واستفسارات واقتراحات المدعوين، ثم بالحوار الهادئ البناء حول أهم الموضوعات التي تشغل بال كل مواطن . ولقد لمستّم الجوّ الأخوي الجدي الذي تحلى به الجميع وأهمية هذا المؤتمر مما جعل كل فرد يحث على وجوب تكرار هذا المؤتمر لدراسة قضايا المسلمين على هذا الشكل المنظم . أيها الاخوة ، لا شك أننا عندما فكرنا بعقد هذا المؤتمر ودعونا إليه ، كنا نتخوف من أن لا تلتقي الأفكار وأن يقع ما يحول دون تحقيق الأهداف . ولكن المؤتمر بفضل الله قد تجاوز هذه العقبات وقد نجح شكلاً ، وأرجو أن ينجح موضوعاً ونسأل الله أن يحقق لنا ما نتمناه من هذا المؤتمر . لقد رأيت أن المؤتمر قد توصل إلى تحقيق لمسات فكرية وتوجيهية دلت على مكامن الخطأ وجوانب الضعف الذي نعاني منه في جميع الأصعدة . وإني لأعتقد أن هذا المؤتمر هو بالنسبة إلى مسلمي لبنان خطوة تحولية في طريق معالجة قضاياهم . لقد كانت قضاياهم يتحكم فيها أفراد ، وتخضع غلى قرارات وأعمال ارتجالية في أغلب الأحوال ، ولكن هذا المؤتمر غير الصورة ، فأخذ المسلمون يغيرون بأسلوبهم ، ويبدأون عهداً جديداّ منظماً ، عهداً يدرس ويخطط ولا يرتجل، عهداً نرجو أن يحقق الله فيه الخير الكثير ، ونحن في هذا المؤتمر ، نؤكد على أن الإسلام ليس دين ارتجال بل دين تبصر ودراسة وتفكر وتدبر ، ونحن نسير في ظل هذا المبدأ ، وتلك أول خطواتنا نحو واقعنا إلى ما فيه الخير والمستقبل الأفضل . أيها الاخوة، إن لبنان هو بين البلدان العربية والإسلامية بلد يتمتع بثقافة واسعة ، وحضارة مستنيرة مجدية ، ولقد لمسنا هذا من خلال زياراتنا إلى بلدان كثيرة من العالم ، فرأينا نظرة هذه البلدان إلى لبنان يما يتمتع من سمعة حسنة وسمعة تاريخية ، فهو بلد الحضارة والإشعاع والنور ، وإن أجداده العرب هم الذين نقلوا الحرف إلى العالم ، وساهموا في بناء الكثير من المدنيات والحضارات في العالم . إن لبنان لن يستطيع أن يحافظ على هذه السمعة إلاّ إذا تضافرت جهود بنيه لصيانة القيم والمحافظة على الأخلاق الكريمة ، وتعزيز الآداب التي جاءت من السماء ، والسير جميعاً في خط واحد ، ونكون مثلاُ يحتذى في التعاون والتعامل والحقوق والواجبات . أيها الاخوة ، كل واحد مسؤول عن لبنان : كلنا يحمل تبعة هذا البلد الصغير في مساحته والكبير في فعله ومحتواه، نحن جميعاً علماء ومفكرين وأدباء وأساتذة وكتاب ورجال أعمال ، كلنا ينبغي أن يحمل مسؤوليته بإخلاص وتجرد ويحافظ على لبنان في طريق التقدم والازدهار ، والتعاون مع الدول الإسلامية والعربية ورفع راية العروبة والإسلام ، خفاقة في العالم أجمع . أيها الاخوة ، إننا درسنا واقعنا وتطلعنا من خلال هذا الواقع إلى أفكار وتطلعات فيها الخير بإذن الله . هذه التطلعات التي سنجعلها بفضل الله حية في واقعكم ومجتمعكم . ولا يسعني أن أترك هذا المنبر .. إلا أن اشكر جميع الذين عملوا في هذا المؤتمر ، وخططوا له ، وساعدوا على إنجاحه من المحاضرين ورؤساء الجلسات والمقررين . كما لا يسعني أيضاً إلا أن أشكر الذين أحيوا هذا المؤتمر بوجودهم وجعلوه بعلمهم وفكرهم وإخلاصهم مؤتمراً نابضاً بالحيوية والنجاح . وأشكر أصحاب السماحة والمعالي والفضيلة وجميع الإخوة من مسؤولين ومثقفين . ثم لا بد أن أشير إلى أن أمامنا قضية مصيرية وخطيرة ، إنها قضية فلسطين التي تطلب جهوداً وفكراً وحلاً وسعياً من أجل السير في طريق تخليصها لنؤمن لأنفسنا الأمن والسلام والمستقبل السعيد ، وهذه القضية لا نستطيع أن نصل إلى المستوى اللائق بها ، إلا إذا تكاتفت الجهود ، وخلصت النيات ، وكنا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وكنا مع الله يكون الله معنا . لقد استمعتم إلى المقررات والتوصيات التي تلاها الأمين العام للمؤتمر ، ولا شك أن الكثيرين منكم سُرَ وأعجب بما تتمتع به من بعد النظر وواقعية وحكمة، ولكن اعتقد أن هذه التوصيات والقرارات إذا لم يكتب لها التحقيق والتنفيذ فكأنها ، لم تكتب ولم تقرأ . وهذه المقررات تظهر للملأ أن المسلمين في لبنان هم أهل لكل تطور وكل تقدم ، في أن تنتقل من أن تكون مكتوبة على الأوراق إلى واقع التنفيذ والفعل . وأخيراً وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه الخير ، وهدانا لما يحبه ويرضاه ، وسدد في الخير خطانا ، وهو ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . |