عقد في " دكار" عاصمة " السنغال " مؤتمر إسلامي كبير ،تحت عنوان «الإسلام والتجدد»، اشتركت فيه معظم الدول الإسلامية ، مثل لبنان فيه سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد ، وقد ألقيت فيه أبحاث هامة ومفيدة، ودارت فيه العديد من المناقشات والتعليقات. عند انتهاء أعمال المؤتمر في 7 من ذي القعدة سنة 1392هـ . ( 9 كانون أول سنة 1972م.) عهدت أمانة المؤتمر العامة إلى صاحب السماحة مفتي الجمهورية اللبنانية مهمة التلخيص والتعليق، بإسم الوفود جميعاً ، على ما دار في أعمال المؤتمر . كلمة سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم . وبعد أيها المسلمون ، إذا كان الله سبحانه وتعالى قد فرض على المسلمين من بين أركان الإسلام فريضة الحج إلى بيته العتيق ، «ليشهدوا منافع لهم » فإن على رأس هذه المنافع، ما يمكن أن يكسبوه من معنى هذا اللقاء العظيم ، الذي يرتبط به أنبل معنى من معاني التجرد لله ، ويتحقق فيه أجمل معنى من معاني المساواة بين البشر . وإن هذه المؤتمرات الإسلامية التي تعقد من حين إلى حين ، في هذا البلد أو ذاك ، إنما تستمد روحها من هذه الفريضة المباركة ، كأنما جاءت هذه الفريضة لتكشف للمسلمين عن منافع اللقاء ، وتنبههم إليه ، وتدعوهم إلى الإكثار منه ، وبذلك تكون هذه المؤتمرات الإسلامية ثمرة طيبة من ثمار الإسلام والتزاماً صادقاً بمبادئ القرآن ، الذي جاء فيه قوله تعالى « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ». ومما تجدر الإشارة إليه هنا أيها الأخوة المسلمون ، أن التعارف ليس غاية في حد ذاته إنما هو وسيلة إلى غاية أبعد ، أعني بها التعاون والعمل . قال تعالى « َتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ » . قال تعالى « وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ » . أجل ، ان المعرفة لا يمكن أن تنفصل عن العمل ، وإلاّ أصبحت شكلاً من أشكال الترف الفكري ، ومبرراً من مبررات الجمود والكسل ، والعمل لا يمكن أن ينفصل عن المعرفة ، وإلاّ أصبح ضرباً من ضروب الفوضى ، وسبباً من أسباب النكوص والتقهقر . وفي هذا المؤتمر الناجح الذي دعانا فخامة الرئيس السنغالي إليه ، نجد أن المعرفة والعمل فيه متلازمان ، وأول ما يمرّ في بالنا في هذا الصدد عبارة مخلصة سمعناها من الرئيس ليوبولد سنغور نفسه حينما قال في مقابلته لرؤساء الوفود الإسلامية :« إننا على استعداد لتنفيذ جميع ما تتخذونه من مقررات» . إن هذه العبارة المسؤولة تعبّر أصدق تعبير ، عن هذه النيّات الطيبة ، وذلك الاستعداد النبيل ، لجعل هذا المؤتمر مجدياً يعطي المسلمين في السنغال وخارج السنغال أطيب الثمرات وأنفعها . وبالفعل ، فقد استطاع المؤتمر الإسلامي الكبير أن يعطينا حتى الآن صورة صادقة عن المسلمين في السنغال ، كمفكرين اشتركوا بجدارة وإخلاص في أبحاث المؤتمر ، وزعماء روحيين تعلق الآمال على علومهم وجهودهم ، ومواطنين سنغاليين يتمسكون بإسلامهم ، ويتعلقون بوطنهم ، كخير ما يكون عليه المواطن المسلم أينما كان . وإنني في هذه العجالة التي عهدت بها إليّ أمانة المؤتمر ، لا بد لي من النظر إلى هذا المؤتمر نظرة جامعة ، لأن أبحاثه عقدت تحت شعار جامع هو « الإسلام والتكيف مع العصر » . إنني قبل أن أمرّ بالموضوعات التي بحثت تحت هذا الشعار أرى لزاماً عليّ أن أتوقف قليلاً عند الشعار نفسه الذي ، عن غير قصد ، قد يوحي باتهام موجّه إلى الإسلام بأنه دين لا يساير العصر ، كما يوحي من جهة أخرى ، بأن العصر بمنجزاته العلمية الرائعة أصبح يتحدى الإسلام . إن المسألة في نظرنا جميعاً أيها الأخوة هي وهذا التصور الخاطئ على طرفي نقيض ، ذلك إن الإسلام لم يكن يوماً ،ولن يكون ، موضعاً لاتهام ، لأنه دين العقل الذي يجتمع عنده كل الناس ، بل على العكس فإن الإسلام اليوم هو الذي يتهم ، ولعل أول المتهمين في نظره هم المسلمون الذين ابتعدوا عنه . والإسلام ، كدين إلهي حضاري شامل لا يمكن أن يتحدى في أي عصر ، ومن أي علم ، ومن قبل أي إنسان ... لسبب واحد ، هو أن الإسلام إنما هو الذي يتحدى ، لأنه في الأصل دين التحدي ، لأي عصر ، ولأي علم ، ولأي إنسان، مهما علا وتشامخ ، ومهما أنجز وأعطى ، ومهما كبر واستكبر .يقول تعالى«إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ » . ويقول تعالى « وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ » . ولعمري ، فإن هذا التحدي الإلهي الإسلامي ، إنما هو المحرك الأول لعقل الإنسان ، ولتطلعه اللانهائي إلى معرفة ، ولانصرافه الجدي إلى العمل والعطاء . إن هذا التحدي الإسلامي لعقل الإنسان ، يحمل في ذاته صفة الديمومة ، فالإنسان تجاه هذا التساؤل المفتوح ، مطالب ، مهما تقدم ، ونمت معارفه ، وكثرت خبراته ، وعمقت فكرته عن الكون والحياة ، إنه مطالب في كل عصر ، بالأمس ، واليوم ، وغداً ، وإلى ما شاء الله ، أن يعمل عقله في ما يسأل الله تعالى عنه، أو يقرر فيه ن أو يشير إليه ، إن هذا التحدي الكبير يحمل ضمناً في ديمومته التي لا تتوقف معنى الدعوة المستمرة إلى التكيف مع العصر ، إنها دعوة إسلامية مطلقة ليجدد العقل الإنساني ذاته في كل يوم ، في ما يكتشفه من معرفة ، وما يقيمه من علم ، وما يربطه بالله تعالى من أسباب . المسالة إذن ليست بين الإسلام والتكيف العصري ، إنها على الأصح بين المسلمين والتكيف العصري. وبهذا المعنى يصبح الاتهام موجهاً للمسلمين ،كما تصبح تحديات العصر في مواجهة المسلمين وليس في مواجهة الإسلام. وإنه ليبدو لي أن هذا الشعار «الإسلام والتكيف مع العصر » هو الذي وضع معظم المحاضرين في موقف الدفاع عن الإسلام ، بدلاً من الوقوف موقف التحليل والنقد الذاتي لحياتهم وحياة المسلمين ، من أجل ذلك رأينا بعضاً من هؤلاء السادة المحاضرين يحلل بدقة وإخلاص التنظيم الاقتصادي ، أو التنظيم الاجتماعي أو التنظيم السياسي في الإسلام تحليلاً تاريخياً ، ليبين في النهاية كيف أن الإسلام قادر على استيعاب مشاكل الحياة كلها . وهذا ما فعله الأستاذ عمر صمب مدير المعهد التأسيسي بأفريقيا السوداء ، والسيد مصطفى سيسي سفير السنغال ، في جمهورية مصر العربية والأمين العام للاتحاد . ولقد كان لبحث « أثر الإسلام في الحياة اليومية للقارة الإفريقية» الذي قدمه السيد صمب كتي امبوب ، وبحث «الإسلام والزنوجة» الذي قدمه الشيخ أحمد تيجاني سي ، وبحث «تكون وإدماج الكوادر المثقفة باللغة العربية في الحياة الوطنية » الذي قدمه الأستاذ أحمد صمب . لقد كان لهذه الأبحاث الثلاثة طابع مميز حاول أن يبين ارتباط الحياة الإفريقية بالإسلام واللغة العربية ، كما حاول هذا الطابع أن يلقي الضوء على ما للإسلام من أثر منتظر في تطوير هذه الحياة الإفريقية الناشطة في ما ينفع المسلمين في هذه المنطقة من العالم . أما بحث «الإسلام والأديان السماوية» الذي قدمه السيد عمر ، قال : «فقد جاء ليعرض لنا بشكل موفق هذا النمو الروحي الذي مرّت به البشرية عبر التاريخ ، حيث جاء الإسلام تتويجاً للحركة الروحية في هذا العالم . وأما بحث « الإسلام والعلم » للدكتور الحاج سرالي لي فقد بين بشكل موفق كيف أن الإسلام هو دين العقل وبالتالي فهو دين العلم ، وأن الآيات التي جاءت في تنبيه الإنسان للظواهر الكونية حملت للإنسان في الوقت نفسه الدعوة إلى البحث العلمي ليصل إلى ما ينفعه ويحقق له السعادة في هذه الحياة من غير إغفال للغاية الإلهية القصوى الكامنة في العلم نفسه . وإننا لنستطيع أن نضيف إلى ما جنيناه من فائدة عظيمة قدمها لنا أصحاب هذه الأبحاث وما تبعها من مناقشات اشترك فيها أعضاء الوفود ، تلك الفائدة التي أصبناها من تعرفنّا على القادة الروحيين في هذا البلد الكريم ، وما أطلعنا عليه من أوجه النشاط في مختلف مرافق الحياة العامة ، بشكل عزز اعتقادنا في أن القائمين على التوجيه العام ، سيصلون بإذن الله بهذه البلاد الطيبة ، إلى ما يرضي الله ، ويحقق المصلحة المرجوة للجميع ، ما دام الإسلام طريقهم ، ورضوان الله هدفهم ، وخدمة الإنسانية غاية أمانيهم . وبعد : فإن الأبحاث التي ألقيت علينا ، والمناقشات التي دارت بيننا ، والتعليقات التي صيغت حولها ، يمكن أن نخلص منها إلى الأفكار التالية : أولاً : الاتفاق على أن الإسلام هو الدين الصالح لكل زمان ومكان. ثانياً : إن المشكلة العصرية ليست قائمة بين الإسلام والعصر بل هي «بين المسلمين وتحديات العصر». ثالثاً : إن المسلمين يستطيعون بالتأكيد قهر هذه التحديات ليس بتجديد الإسلام ، فالإسلام دين متجدد بذاته ، أبدي ثابت ، إيجابي ومعطاء ، بل بتجديد فهم المسلمين للإسلام ، والتزامهم بتعاليمه . رابعاً :إن أولى خطوات الفهم العصري للإسلام تكون بالاستجابة العلمية لدعوته الصريحة للأخذ بأسباب العلم المؤدية لاكتشاف ما خلقه الله تعالى من قوانين وعوالم وأكوان ، واستخدام هذه الاكتشافات لمصلحة الإنسان وسعادته . خامساً: ضرورة الانتقال من الاكتفاء السلبي بنظريات الإسلام إلى حيز الالتزام العلمي بهذه النظريات ، بحيث يصبح الإسلام حياً في سلوك كل فرد ، وفي نظام كل مجتمع ، وفي سياسة كل دولة . أيها الأخوة أعضاء المؤتمر، إن هناك مشاكل معاصرة تتحدانا نحن المسلمين في كل مكان ، وعلينا أن نجدد فهمنا لإسلامنا ، لنتحداها ، فنذللها عن طريق الإسلام ذاته . إن هناك قرنين من التخلف يفصلان المسلمين في آسيا وأفريقيا بشكل خاص عن البلاد المتقدمة . ولعل من نعم الله تبارك وتعالى ، أن الأرض التي ظهرت منها أكبر قوة روحية في هذا العالم ، ونعني بها الإسلام ، هي الأرض نفسها التي ظهرت فيها بعد حوالي أربعة عشر قرناً من الزمان أعظم ثروة مادية انتشرت في طول المنطقة وعرضها ، وأعني بها البترول ، وكثيراً ما تكون المادة سبباً مساعداً في نشر القيم والمبادئ . إن في هذه الثروة التي وهبها الله لنا ما يشجع على استثمارها والاستفادة منها في رفع مستوى المسلمين في شتى أنحاء الدنيا ، وإنني لأعتقد بأن إخلاص قادة هذه البلاد ووعيهم لجدير بتأكيد خطواتهم التي بدأوها في جعل هذه الثروة التي ظهرت في ديار الإسلام توظف في خدمة المسلمين ودين الإسلام . إن هذه الفوارق الزمنية الهائلة بين المسلمين والأمم المتقدمة لا تنتهي إلاّ بعنصرين أساسيين : العلم والسرعة . العلم ينبغي أن يحرك العمل ، والسرعة ينبغي أن تضاعفه . حتى نواكب عصرنا ينبغي علينا أن نسلك هذا الطريق ، مع التمسك بقيمنا الروحية والأخلاقية التي هي في النهاية غاية وجودنا ، ومنتهى مطافنا . وإني لا أستطيع هنا إلا أن أعرب عن تقديري الكامل للرئيس «ليوبولد سنغور» في ما ذهب إليه عند اجتماعنا به من أن: الحضارة الغربية سوف تبقى على الرغم من إنجازاتها العلمية الهائلة ، عاجزة عن حل الأزمات الروحية والأخلاقية والإنسانية ، التي تعتمل فيها من الداخل . أجل ، إن هذه الحضارة قد عجزت عجزاً كبيراً عن إقامة التوازن بين العقل والوجدان ، بين العلم والإيمان ، بين الجسد والروح ، بين المادة والفكر ، فطغى الأول على الثاني ، وبذلك تقدمت التكنولوجيا على حساب الإنسان . إن على رأس قضايانا المعاصرة التي ينبغي أن تكون شغلنا الشاغل لتغيير فهمنا للإسلام والحياة ، هي طريقتنا في الفكر والحياة ، ألم يعتبر الفيلسوف الفرنسي ديكارت «الطريقة» وحدها جوهراً للفلسفة . وإنني لأرى بصدق أن تجديد فهمنا للإسلام ينبغي أن يتناول طريقنا في معالجة الأمور ، وتعاطي أسباب الحياة ، إننا نقول دائماً : إن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان ، هذا صحيح وبديهي بالنسبة لإيماننا ، إلا أن المشكلة هي أن أحداً لم يقل لنا بعد كيف يمكن أن نجعل من هذه القاعدة أمراً يمكن تطبيقه على المسلمين في مكان بعينه ، وزمان بعينه. إن المسألة تتعلق بالإجابة عن سؤالنا : :كيف ؟ وهو السؤال الذي يطرحه العلم . ومن خلال الإجابة العلمية على هذا السؤال ، سوف تتبلور أزمات المسلمين في مشاكل اجتماعية تحددها الدراسات الموضوعية ، وتعبّر عن حقيقتها الكميات العددية ، فتصبح مشاكل المسلمين لها أطول وأحجام ، ترى بالعقل قبل العين . ويتضح فيها موطن الصواب ، وينكشف فيها مكان الخطأ بشكل يسمح لنا أن نتحرك باتجاهها خدمة وإصلاحاً وعطاءاً كما أمر رب العالمين . إن المسألة ، كل المسألة ،على ما تبدو لنا الآن ، هي إذن في طريقنا في النظر إلى مشاكلنا والتعامل معها ، وأول خطوات هذه الطريقة هو دقّة الموازنة بين طرفي الوجود ، بين الدين والدنيا ، والعقل والوجدان ، بين العلم والإيمان ، والجسد والروح ، بين المادة والفكر إن روعة الإسلام أنه وازن بدقة بين هذين الطرفين ، ولا أحسب أحداً منكم إلا عالماً أكثر من علمي ، عن مدى الدقة في هذه الموازنة في القرآن الكريم ، والحديث الشريف . إن كثيراً من المسلمين يضيعون اليوم أما في الانصراف إلى الروح من دون المادة أو الانصراف إلى المادة من دون الروح . وإني لأكاد أرى أن معظم مشاكلنا المعاصرة تعود في الأصل إلى الإتعدام مثل هذه الطرقة لدينا ، خذ مثلاً الدعوى الإسلامية ، فهي ما زالت حتى الساعة تعتمد طريقة الوعظ من على المنابر ، ومخاطبة عواطف الجماهير بأحلى الخطب في الوقت الذي أصبحت فيه أصوات الجائعين والضعفاء أقوى من أصوات الخطباء والأئمة ، وتراكمت فيه مشاكل المسلمين فصارت أعلى من القباب والمآذن ، وإني لأرى أن طريقة الوعظ الجديدة إنما ينبغي أن تبدأ من حيث يبدأ علم الخدمة الاجتماعية في البيئة ، وتنتهي مع ما نريد لها أن تنتهي إليه ، من رفع لمستوى معيشة الإنسان ، عن طريق الإنتاج والعمل ، وربط ذلك كله بالمعاني الخلقية والدينية ، بشكل يتحقق فيه رضا الله ، ويترسخ فيه قيمة الإنسان . إن الحوار الحقيقي ليس ذلك الذي يكون بين شخص وشخص ، إنما هو الذي يكون بين فكرة وفكرة ، بين طريقة في التفكير ، وطريقة أخرى في التفكير ، وعن هذا الطريق بحدث التفاعل ، ويتجدد العطاء ، وتنمو جوانب الفكر جميعاً. لذلك ، فإن الحوار بين الفكر الإسلامي والفكر العلمي أصبح ضرورة ملحة ، لأن مثل هذا الحوار خليق ينمي كلا الطرفين معاً : فبالعلم تنكشف الحقائق عن قدرة الخالق ، فيترسخ الإيمان ، وبالإيمان تصفو حوافز والأبحاث العلمية وتنشط ، فيتقدم العلم . وبالعلم يدور دولاب العمل ، وبالعلم يتزايد الإنتاج ، وتسمو قيمة الإنسان ، وتتحقق سعادة بني البشر . وإذا كان الحوار بين الإيمان والعلم ضرورة إسلامية عصرية ، فإن الحوار بين الفكر الإسلامي والفكر المسيحي ، أصبح يشكل ضرورة روحية وعالمية . قال تعالى : « قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، إلاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباًُ من دون الله ، فإن تولوا ، فقولوا أشهدوا بأنّا مسلمون » . وإني لأعتقد أن غياب مثل هذا الحوار قد أدى إلى نتيجتين خطيرتين في تاريخنا المعاصر. أولاهما : إن الحضارة المادية في العالم المتقدم أصبحت تسيطر على جوانب الحياة الإنسانية بأسرها .حتى غدت المقاييس المادية هي المعيار ، وكان هذا على حساب الجانب الروحي من حياة الإنسان بشكل عام . وثانيهما : أن الصهيونية العالمية استطاعت أن تجسد العنصرية الدينية ، المناهضة لكل دين ، على أرض طردت أصحابها منها ، وأقامت دولة فوقها ، ثم راحت تمارس التوسع والعدوان ، وكان هذا أيضاً على حساب الجانب الروحي بشكل عام ، وعلى حساب الإسلام والمسيحية على حد سواء. إن الحوار الإسلامي المسيحي ، الذي نمارسه جيداً في لبنان ونجني ثماره الخيرّة كل يوم ، إن هذا الحوار هو الذي تجلى في جوهر الكلمة التي ألقاها علينا السيد محمد توفيق عويضة رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في جمهورية مصر العربية ، إن مثل هذا الحوار الذي نرى شكلاً من أشكاله المضيئة اليوم في السنغال ، لجدير أن ينشط ويمضي قدماً إلى الأمام ليعطي هذه الحضارة المادية روحها الذي تستحق ، ويرسم للصهيونية المعتدية حدّها الذي ينبغي أن تتوقف عنده . ايها الخوة ، لا يسعني في نهاية كلمتي إلا أن أكرر باسمكم جزيل الشكر للسنغال ، رئيساً وحكومة وشعباً على هذه الفرصة النادرة والمفيدة التي أتاحوها لنا ، وهذه الأفكار التي أفدنا منها ، كما أشكر باسمكم جميع العاملين الذي تفانوا وأخلصوا لإنجاح المؤتمر والوصول به إلى الغاية التي وصل إليها ، متمنياً للجميع سلامة العودة إلى بلادهم ، سائلاً المولى عز وجل أن يسدّد خطى الجميع إلى ما فيه خير البشر وسعادتهم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته |