كلمة سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين الشريعة الإسلامية هي وسيلة لتكوين الحضارة وتجديدها في حركة التاريخ نتوجه أولاً بالشكر إلى الله سبحانه وتعالى الذي وفقنا لهذا اللقاء ولما يماثله هذه اللقاءات التي تواجه مشاكلنا الحقيقية التي نواجهها في العالم الإسلامي على المستوى العالمي والإقليمي والوطني وفي اعتقادي أن على رأس المشاكل المشكلة التربوية خصص هذا المؤتمر المبارك لبحثها وعلاجها وعسى أن يوفق الله تعالى المؤتمرين ومن ثم يوفق السياسيين ليحولوا توصياته إلى حقائق في الحياة العامة اليومية للمسلمين. بعيداً عن مسألة التنمية في العالم الإسلامي وبعيداً عن المسألة السياسية في العالم الإسلامي أم المشاكل هي المسألة التربوية، تربية الفرد والعائلة والجماعة ومن ثم الوطن والأمة بعد ذلك، واعتقد أن بداية التخلف الإسلامي الكبير الذي حل بالمسلمين والذي لا يزال يفتك بهم حتى الآن ناشئ من طبيعة التربية التي يتلقاها الإنسان المسلم في كل وطن من أوطانه على مستوى العالم الإسلامي، من المنظور القرآني البحث الذي هو كتاب التربية الأساسي والأم للمسلم، والسنة التربوية الشريفة التي تحفل بالنماذج الأساسية في الإسلام وما هي فلسفتها التي تقوم عليها . هل التربية في المنظور الإسلامي هي وسيلة لإعداد الإنسان للعيش؟ هل هي وسيلة لإعداد الإنسان للغاية، لا هذا ولا ذاك. في الشعوب والأمم المتخلفة، التربية وسيلة لإعداد الإنسان أو الجماعة لكي تستمر في البقاء، في الفكر المادي، التربية وسيلة لإعداد الإنسان ليكون غالباً ومستعمراً، تربية القوة العمياء هي روح التربية التي يحفل بها الفكر المادي، في الإسلام منذ نزلت على رسول الله الآيات الأولى التي لخصت الموقف التربوي والحياتي للعقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية، وظيفة الشريعة بدأت منطلقة من إعداد الإنسان المسلم ليكون خالق حضارة ورائد حضارة ذات طابع إنساني منفتح وقوي. لم تكن هذه الحضارة حضارة عرقي وطني أو عرقي قومي، وإنما ذات طابع إنساني عام، هذا الدور الذي ينبغي أن تضطلع به الشريعة هو ما فقدناه وهو ما نبحث عنه، هو ما أمرنا الله بإتباعه ونهانا عن إتباع السبل التي تبعدنا عنه. إذاً الشريعة الإسلامية هي وسيلة لتكوين الحضارة وتجديدها في حركة التاريخ تتكون ثم تستمر في البقاء في حالة التجدد والتحرك. المسلمون الأولون كانوا يمارسون هذه المهمة دون أن يشيروا إليها ربما في دراساتهم لأنهم كانوا يعيشونها في حياتهم . أما نحن الآن حيث نعيش حالة الانفصام بين الواقع الحضاري المفروض علينا وبين التطلع الحضاري الذي نمتلكه من خلال قرآننا وسنة نبينا، فنعي هذه المشكلة وعياً كاملاً، مسؤولية القيادات التربوية والسياسية في العالم الإسلامي هو أن تتوجه نحو إنجاز هذه المهمة، بعيداً عن السياسات الوطنية لكل بلد، وبعيداً عن السياسات القومية لكل بلد أيضاً، في اتجاه ترسيخ مفهوم الأمة الإسلامية الذي يتضمنه القرآن الكريم، ترى هل تقوم التربية الإسلامية كما نفهمها من خلال القرآن والنماذج التطبيقية التي وردت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تتضمن هذه الفلسفة وهذه الرؤية، هل تتضمن تركيزاً على الفرد أو على الجماعة أو على المجتمع الوطني، أو تتجاوز ذلك كله إلى مفهوم الأمة! ترى إنها تتجاوز ذلك كله إلى مفهوم الأمة، من جملة الميزات الأساسية في التربية الإسلامية هي أن الإنسان المسلم إنسان عالمي لا ينتمي انتماءً نهائياً وحاسماً إلا إلى الأسرة الإنسانية، يتجاوز العائلة والعشيرة والقوم إلى العالم، إلى البعد الإنساني الكبير، الآن في حاضرنا ونتيجة للسياسات التربوية التي تعرضنا لها في عصر الاستعمار، التيار التربوي في كل بلد إسلامي يركز، كما نعلم جميعاً، على المجموعات العرقية وعلى المجموعات الطائفية، وعلى المجموعات الوطنية، وفي أحسن الأحوال يركز على المجموعات القومية في العالم الإسلامي ويهمل مفهوم الأمة إهمالاً كاملاً، وقد وقعت جميع السياسات التربوية في العالم الإسلامي، في كل وطن من أوطان المسلمين، وقعت في هذا الفخ، فينشأ الفرد المسلم وهو يحمل تاريخ وتراث منطقته الجغرافي، تاريخها اللاإسلامي وتراثها اللاإسلامي أكثر مما يحمل ويعي تاريخه الإسلامي الحي، ومن هنا نشأت المشاكل العرقية في داخل العالم الإسلامي، والمشاكل الطائفية والمذهبية، ومن ثم المشاكل الوطنية والإقليمية والقومية، داخل العالم الإسلامي. الآن مثلاً نجد ظاهرة ننبه إليها القيادات السياسية التي تحمل مسؤولية كبرى في هذا الشأن، أن جميع مظاهر التقارب التي تظهر بين الحين والحين، بين دول العالم الإسلامي، هي مظاهر تفرضها الضغوط الخارجية، والضرورات السياسية الخارجية دون أن تكون نابعة من رؤية داخلية واعية تكون المسلمين أمة واحدة، هذا أمر لا فضل لقيادات العالم الإسلامي السياسية فيه، لأنه في مثل منظمة الوحدة الأفريقية مثلاً، أو في مثل منظمة دول عدم الانحياز مثلاً، نجد أن سياسات التقارب التي تنشأ عن ضرورات سياسية خارجية، تفرض صيغ للتقارب والتعاون نابعة من الضرورات الخارجية بين أمم لا تنتمي إلى رؤية حضارية واحدة، لا توجد الآن في العالم الإسلامي نتيجة لهذا أية رؤية تربوية واحدة، داخل كل طائفة من طوائف المسلمين وداخل كل وطن من أوطان المسلمين أكاد أقول داخل كل مجموعات إقليمية من مجموعات الدول الإسلامية، توجد رؤية تربوية مختلفة تماماً عن الرؤى التربوية الموجودة في المجموعات الأخرى أو في الدول الأخرى لأنه لم يحدث أبداً أن عملت الجهود المبذولة لهذه السياسة العامة وهو القرآن لهو قادر على الاستمرار في الحياة، وليس في أن نعد الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة لتكون مسلمة بالمعنى التقليدي الذي طالما قلت عنه أنه ينظر إلى القبر، ينظر غلى أن تكون حياة المسلم سبيلاً إلى أن يكون قبره روضة من رياض الجنة وموقعاً من مواقع العزة والقيادة في العالم الحديث. حين نتحدث عن التربية الإسلامية لا نتحدث عن مذهب تربوي، إنما نتحدث عن خط تربوي داخل صيغة حياة شاملة هي الإسلام، وعن رؤية تربوية في صيغة حضارية هي الإسلام. من هنا ينبغي أن نقدر المهمة التي نواجهها حق قدرها، لسنا كما سمعتم في مواجهة بحث نظري، وإنما في مواجهة مشكلة حياتية حقيقية، نعاني منها على صعيد الفرد، وعلى صعيد الجماعة، وعلى صعيد السياسات العام للعالم الإسلامي، بالتأكيد المشكلة السياسية في العالم الإسلامي في أعمق جوانبها هي مشكلة تربوية، ويوجد الآن في حياتنا الإسلامية مظاهر محزنة دامية هي نتيجة لعدم وجود وعي تربوي إسلامي، لا على مستوى طلاب المدارس الابتدائية أو الثانوية، وإنما على مستوى القيادات العليا للعالم الإسلامي التي تملك بيدها مصائر المسلمين في هذا العصر. من هذا المنظور، نلاحظ أن التربية، المسألة التربوية، تشمل على نوعين من المقومات والعناصر، الأول هو ما نسميه الثوابت، العناصر الثابتة في كل توجه تربوي، هذه العناصر الثابتة في التربية الإسلامية القرآنية هي التي تعد الإنسان المسلم لدوره العالمي، دوره القيادي الذي عبر عنه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، بكونه جعل المسلمين شهداء على الناس، جعلهم في موقع الشاهد على حركة التاريخ « لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ». الشاهد يجب أن يكون منفصلاً تماماً عن المشهود عليه وأن يكون مراقباً تماماً للمشهود عليه. إذن دور الشاهد يعطي الأمة الإسلامية دوراً حضارياً في هذا العالم، حضارياً يكون منفصلاً عن هؤلاء وعن هؤلاء، يكون منفصلاً عن الخط التربوي السائد في العالم الآن الذي يقسم العالم إلى معسكرين، والذي يقيم وجوده دولاً وأوطاناً وأفراداً على مبدأ القوة والغلبة بأي شكل من أشكال القوة والغلبة، العوامل الثابتة العناصر الثابتة، في التربية الإسلامية هي التي تعد الإنسان المسلم ومن ثم الأمة الإسلامية إلى أن يكون قوة حضارية شاهدة في العالم. ومن هنا نقولها بكل شعور بالمسؤولية، السياسات التربوية الوطنية التي تنفتح بلا تبصر فتستباح من قبل التيارات والمذاهب التربوية التي ينتمي إلى إحدى القوتين العظميين في العالم هي هذه السياسات تدخل في صميم تكون الإنسان المسلم، ربما عناصر تعوق تقدمه لأنها لا تعده لدور الشاهد وإنما تعده لدور الشريك، ونحن نعرف من تجربة قرن كامل، إننا لن نبلغ حتى دور الشريك، كل السياسات الوطنية والإقليمية التي تدخل في بنية الإنسان المسلم الفكرية والروحية رؤى تختلف عن تكوينه العقيدي والتشريعي هي تخالف روح التربية الإسلامية وتخالف وظيفة العناصر الثابتة في هذه التربية، ترى هل ننغلق عن الآخرين، هل نغلق كل نوافذنا عن تجارب الآخرين، كلا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ورسوله الكريم في نته الشريفة، لم يأمرنا بذلك وإنما أمرنا بما يخالفه، أمرنا بأن ننفتح وأن نحاور وأن نأخذ من كل شيء أحسنه، ولكن متى، بعد أن نكون قد كونا موقعنا الخاص، وبعد أن نكون قد كونا شخصيتنا الخاصة، أما ونحن في ضياع ونحن في تيه نلفق هنا وهناك مذاهب تربوية فيها من الإسلام شكل باهت، وفيها من كل واد عصا، فهذا لا يسهم أبداً في إعداد الفرد المسلم، ومن ثم الأمة الإسلامية لأن تقوم بدورها التاريخي الريادي في هذا العصر، وهذه التربية التي ترسمها السياسات الوطنية في العالم الإسلامي، وكثيرون منا خبراء في كيفية تداخل الآخرين في صنع هذه السياسات، هذه السياسات التربوية هي التي عمقت إلى حد مؤلم ومحزن عوامل الفرقة والانفصال بين أجزاء العالم الإسلامي سواء دولة أو حتى على صعيد شعوبه، لولا فريضة الحج الشريف التي تقف سداً دون عوامل التخريب إلى حدٍ ما، ولا أدري إلى متى يمكن أن تقوم هذه العبادة بهذه الوظيفة. العناصر الثابتة في التربية الإسلامية هي أن تعد الإنسان المسلم لا لأجل أن يستمر في الحياة فقط، لا لأجل أن يدخل في العصر الحديث، لا لأجل أن يخلق مجتمع الرخاء وإنما لأجل أن يخلق عصره هو، ولأجل أن يخلق مجتمعه هو، لا لأجل أن يدخل في صيغة تعادل القوى السياسية في العالم، سياسات الحرب الباردة أو الوفاق الدولي لأنه سيكون أسيراً بالاثنتين معاً، وإنما لأجل أن يتحرر منهما معاً ليبني لنفسه خطه الخاص في رؤيته السياسية للعالم. هذه الثوابت هي ما يجب أن يركز عليه وأن نبعثه، ليس الأمر أمر سنوات، ربما يكون أمر عقود من السنين ونحن نستقبل هذا القرن المبارك الجديد، الذي نرجو الله أن يمكننا من العمل، لا الرجاء السحري ألإعجازي، أن يمكننا من العمل لنجعله قرن الانبعاث الإسلامي، بدون تعقيد، وهذه فكرة ألمحت بها الآن عرضاً، ولعل من الخير أن أوضحها تماماً، بدون تعقيد لو سأل أي منا نفسه الآن في هذه القاعة، هل نحن نعيش في سنة احدى وأربعمائة وألف هجرية، أو نحن نعيش في سنة احدى وثمانين وتسعمائة وألف ميلادية؟ الجواب اعتقد أننا نعيش في العصر الثاني في احدى وثمانين وتسعمائة وألف ميلادية؟ لا بما لها من مدلول مسيحي، وإنما بما لها من مدلول حضاري مادي غريب مرتبط بمعالم الغرب بشقيه الرأسمالي والشيوعي. انتماؤنا الحضاري الآن ليس انتماء لعصرنا، نحن لم نخلق عصرنا بعد، خرجنا من عصرنا وتهنا والقوى العظمى تريد أن تدخلنا في عصرها، وظيفة التربية الإسلامية هي أن تخلق للمسلم عالمه الخاص وعصره الخاص وصيغته الخاصة، الضياع يكون، والهوية هي ليست بالانتماء إلى عصر الآخرين وعالمهم، وإنما بالانتماء إلى العصر الذي ينبع من داخل الذات، ومن داخل التكوين الثقافي. إذن العناصر الثابتة هي ثابتة منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا وستبقى. أما العناصر المتغيرة في التربية التي تغيرت منذ الأيام التي نؤرخ بعهد الأرقم في مكة، إلى عهد الاضطهاد بعد انتهاء الثلاث سنوات الأولى من بعثة الرسول، إلى عهد الهجرة الشريفة، إلى عهد الانبعاث الكبير في العالم في عهد الفتوح الكبرى أيام الراشدين، رضي الله عنهم، إلى عهد القلق الذي حارت فيه القيم الإسلامية أمام ردة الجاهلية، إلى العصور التي تلت حتى عصر الانحطاط الإسلامي إلى أيامنا هذه، نجد متغيرات في المسألة التربوية الإسلامية يتضمن القرآن وسنة رسول الله، يتضمنان أمثلة لحقائق وعناصر متغيرة تواجه كل حالة بما يستحقها، في عصرنا هذا حيث نجاهد من أجل أن نستعيد ذاتنا ودورنا وهويتنا في العالم، في عصرنا هذا حيث نجاهد من أجل أن نستعيد ذاتنا ودورنا وهويتنا في العالم، في عصرنا هذا نحن نواجه مشاكل كبرى لعل أحداً من المسلمين لم يواجهها في أي عصر سابق، في مقدمتها قضية استلاب فلسطين وما يماثل استلاب فلسطين في كل بلد من بلاد المسلمين حيث يجاهد المسلمون أمام القوى التي تريد أن تسلبهم أرضهم ووجودهم، إلى حالة التفكك الداخلي في العالم الإسلامي بالرغم من الوعي الكامل للتهديد، إلى حالة خلق المخاوف في داخل كل جماعة وطنية إسلامية، من الجماعات الأخرى، تربية هذا الجيل الذي ننشئه الآن في المدارس الابتدائية والثانوية، الجيل الذي سيرث الأرض ومن عليها بعد جيل من الزمن بعد 30 أو 40 عاماً، ينبغي أن ينشأ جيل مسلم يفهم هذه الحقائق الثابتة ويواجه المتغيرات بالعناصر المستفيدة في البنية التربوية الإسلامية، المهمة التي نواجهها جميعاً من خلال هذا المؤتمر ومن خلال العمل الوطني في كل بلد إسلامي وخاصة وزارات التربية والتعليم واللجان التي تعنى بتخطيط المسألة التربوية وأكثر من كل شيء السياسيون الذين يقودون العمل السياسي في العالم الإسلامي يتحملون مسؤولية عظمى أمام الله تعالى وأمام الأمة كلها في تحقيق هذا التغيير الأساسي في العملية التربوية للمسلمين في هذا القرن. درجنا كلنا في عصرنا هذا بشكل خاص على أن نتعامل مع المسألة التربوية تعاملاً نفعياً شخصياً أو ذاتياً، الفرد يفكر في المسألة التربوية من منطلق تحسين وضعه الخاص، وضعه المادي والمعيشي الخاص، الجماعة، الدولة، الشعب يفكر هكذا، لم نفكر أبداً في حدود علمي وأخلاقي على مستوى الرسالة، على مستوى إعداد الفرد ليكون جزءاً من حركة تاريخية داخل الأمة، ربما ليكون جزءاً من حركة تاريخية داخل الجماعة أو داخل الطائفة أو داخل الوطن، أما داخل الأمة فلم نفكر في هذا إطلاقاً، بل على العكس من ذلك، ويعرف المشتغلون في شؤون التربية سواء على الصعيد العربي، وهذا أمر نعرفه جميعاً فيما اعتقد ، أو حتى على الصعيد الإسلامي وهذا أمر يعرفه كثيرون منا، ربما في بعض الحالات استخدمت المسألة التربوية لأجل التفريق بين المسلمين ولأجل خلق حالات العداء والشك بين المسلمين لأجل ترسيخ الانفصال الجغرافي والتاريخي بين المسلمين، هذا أمر تقوم التربية فيه بتخريب الإسلام بدل من أن تقوم فيه بإعادة بناء الإسلام في قلب المسلم وعقله ومن ثم في جعل التربية جزءاً من المصير السياسي للمسلم في العصر الحديث. لا أدري إن كان ما قلته يتصل بفلسفة التربية، فعلي أن أعتبر أن هذا العنوان وضع أمام اسمي تطوعاً من اللجنة الكريمة هذه هي الأفكار التي أرى أنها ذات أهمية بارزة في توجهنا نحو بحث مشكلة التربية الإسلامية. أشكر الله تعالى وأسأله أن يوفق هذا المؤتمر ليحقق تقدماً حقيقياً في نظرتنا واكتشافنا للمشكلة التربوية في العالم الإسلامي، وأن يوفق السياسيين الذي سيسألهم الله سبحانه وتعالى عن مصير المسلمين، أن يوفقهم ليستمعوا القول فيتبعون أحسنه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ************ كلمة الشيخ الدكتور صبحي الصالح مزية الإسلام في المسألة التربوية هي مزية العقل الجمعي في مواجهة الفردانية منذ أكثر من عام، في يوم ميمون أغر كيومنا هذا، تألفت اللجنة العليا للقرن الخامس عشر الهجري بقرار من سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد نص على ما يلي: تنشأ في دار الفتوى لجنة عليا لاحتفالات القرن الخامس عشر الهجري، مهمتها الإعداد والإشراف على تنفيذ الأنشطة والاحتفالات الخاصة بهذا القرن في جميع المناطق اللبنانية على مدى خمس سنوات. ولقد التزمت لجنتنا كجميع اللجان الوطنية المماثلة لها في العالم الإسلامي بقرار عام يشتمل على شرطين بمثابة هدفين: أولاً : العمل على توحيد كلمة المسلمين ونشر الوعي الإسلامي الصحيح وبث الدعوة وإيضاح دور الإسلام والمسلمين الروحي والحضاري والعلمي والثقافي، وبيان أوجه قوة الإسلام والمسلمين للتمسك بها ومواجهة تحديات العقائد المخالفة للإسلام وعناصر التفرقة والضعف بين صفوف أبنائه. ثانياً: ألا تشتمل ترتيبات مطلع القرن الخامس عشر الهجري أي بدعة أو عمل مناف لروح العقيدة السمحاء. ومن هذا المنطلق عقدت لجنتنا في هذه القاعة بالذات في قصر الأونيسكو لقاءات إسلامية شاملة سعت خلالها إلى توحيد الصف الإسلامي، وتطهير التعاون المثمر بين أبناء المذاهب الإسلامي جميعاً، متخذة لنفسها شعراً قرآنياً في ضوئه تهتدي وتسير:« إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ». أيها السادة، إن مؤتمر التربية الإسلامية الذي يعقد اليوم هو ثمرة من ثمرات النشاطات التي أخذت اللجنة بها نفسها، واعتزمت القيام بها، مخلصة لله، راجية رضاه، وهداه، وإنه ليسعدني في مستهل هذا المؤتمر الإسلامي أن أرحب بكم جميعاً أجمل الترحيب، وأن أشكركم أجزل الشكر وأوفاه لا باسم لجنتنا وحدها، بل أولاً وقبل كل شيء باسم جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت التي لم يتم هذا اللقاء إلا بتعاونها معنا، وثقتها بنا، فاسمحوا لي بأن أتوج احتفالنا بتحية التقدير والإكبار لمؤسسة المسلمين الكبرى، المتعاونة مع دار الفتوى، وفي مقدمة الجميع دولة الرئيس صائب سلام رئيس اتحاد المؤسسات التربوية الإسلامية في لبنان، واسمحوا لي أيضاً باسمكم جميعاً بأن أشيد إشادة خاصة بهذه النخبة الكريمة من صفوة رجال الفكر الذين شاركوا من لبنان ومن بلاد عربية شتى في أعمال مؤتمرنا، ليجددوا مناهج الفكر التربوي الإسلامي، ويبرزوا وجه الإسلام الحضاري وينموا معنا علاقات المسلمين بأبناء الديانات الأخرى في وطننا وفي العالم كله. أيها السادة، إن إسهام هذه النخبة الكريمة في ندوتنا التربوية،وتعاطف الشعب اللبناني كله معنا، واهتمام المواطنين قاطبة بما وسعنا تحقيقه من لقاءات إسلامية شاملة تهدف إلى ترسيخ الوحدة بين جميع مذاهبنا وتمهد للوحدة الوطنية المنشودة في بلدنا، إن هذا كله قد شد من عزائمنا، وأغرنا بإقامة مؤتمرنا، لا لنبحث المسألة التربوية بحثاً نظرياً دراسياً حول مائدة مستديرة أو من وراء ضياع الهوية وذوبان الشخصية وقابلية نفسية مؤلمة في ظروفنا الراهنة لتشتت الفكري في جميع الميادين. ولئن كان ضياع الهوية نتيجة شبه حتمية لغربة الروح في أنحاء العالم جميعاً، فإن مخاطر هذا الضياع في المجتمع الإسلامي المعاصر لا ينالها العد والإحصاء، فعلى رغم قيام عدد كبير من مؤسساتنا التربوية الإسلامية إلى جانب دور العلم الأجنبية التي لا يقض مضجعها إلا تمسكنا بتراثنا واعتزازنا بأصالتنا، بدأنا نحس إحساساً عميقاً بفداحة المخاطر التي تعرضنا لها تهاوننا بالتعليم الديني، وسوء اختيارنا للكتاب المدرسي، وافتقارنا الشديد إلى المعلم الصالح وضعف اتصالنا بمناهج الفكر التربوي الملائمة لشخصيتنا وقيمنا، فلك يكن بد من مواجهة هذه المخاطر بشجاعة فكرية نادرة المثال، ومواجهة التحديات بالأفعال لا بالأقوال، وأبرز الوجه الحضاري لثقافتنا وفكرنا ومناهج التربية عندنا حاضرنا بماضينا ، ونرى غدنا في ضوء يومنا. أيها السادة، إن مزية الإسلام في المسألة التربوية هي مزية العقل الجماعي في مواجهة الفردانية، ولن يتيسر للعقل أن يكون جميعاً إلا إذا أعددناه إعداداً كاملاً لينطلق ويفكر بطريقة متناسقة مع الشخصية الإسلامية للجماعة، مصداقاً لقول خاتم الأنبياء:«لا عقل كالتدبير، ولا روع كالكف، ولا حسب كحسن الحلق». وتربية العقل على هذا النحو تورث الفر د المسلم شعوراً داخلياً عميقاً بالاتساع والرحابة، أما الاتساع ففي تفهم الأصول التاريخية للأمة التي تذكر الفرد بأنه خلية في بناء الجماعة، وأما الرحابة ففي النظر إلى القيم والمعايير من خلال مصلحة الجماعة العليا التي ترخص في سبيلها كل مصالح الأفراد، بيد إنما نسجل هنا أنه ليس من طبيعة التصور الإسلامي التربوي لارتباط الفرد بالجماعة أن يسلب أباء النسب أو أباء الفكر والروح، باسم الدين، كل مقومات الأبناء الذاتية، وليس من طبيعة التربية الإسلامية أن تتحول طاعة الوالدين سيطرة من الأم على ولدها لأنها أرصعته طفلاً، أو سيطرة من الأب على ابنه لأنه أنفق عليه وعلمه ورباه، ولا أن يتحول المعلمين أباء الفكر والروح سيطرة من الأساتذة على الطلاب، فلا شيء يقنع الشباب بمثل هذه الطاعة العمياء القائمة على تصنف المراتب الاجتماعية على أساس السنين والاعمار ولا سيما إذا لاحظنا أن مفهوم الانقياد الأعمى يحرم الشباب من ثمرات الاستقلال الفكري ومن مزيد الإنتاج والعطاء، بل في وسعنا أن نؤكد أن مثل هذا التصور الخاطئ يغاير المعيار الإسلامي الحقيقي للقيم والمعايير والأشخاص، فالقرن الذي يقول للولد في بر أبويه:« وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا» هو الذي يقول له بلهجة حاسمة « وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا » ولقد أطلق الرسول الكريم صلوات الله عليه مبدأً عاماً في ذلك حين قال: « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وعندما نجد في نصوصنا تعظيم العلماء، في مثل قوله تعالى: « يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ » ، وفي مثل الحديث النبوي المشهور: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم رجلاً، لا نلبث أن نقرأ وصية الرسول للعلماء والمتعلمين: «تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والحلم، ولا تكونوا من جبابرة العلماء. وإذا صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: « خاطبوا أولادكم على قدر عقولهم، فإنهم ولدوا لزمان غير زمانكم» فإن أبسط ما نستلهمه من هذا القول الرائع الحكيم أن علينا في منهجنا التربوي الإسلامي أن نتفهم نفسيات أبنائنا وبناتنا وطلابنا وطالباتنا،و أن نتعرف إلى كل المعضلات التي يمرون بها وأن نعني بإيجاد الوسائل الكفيلة بتوظيف طاقاتهم، وإغرائهم بتعزيز القيم الذاتية والفكرية والفنية والروحية، بأساليب موحية غير مباشرة تجعلهم على يقين بأنهم بأنفسهم ينقذون أنفسهم من ا لتيه والركام وضياع الهوية، وذوبان الشخصية وانكفاء الذات عن الإنتاج والعطاء، مصداقاً لقول الرسول الكريم في إحدى خطبه: «فيأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشباب قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت». إننا بهذه المبادئ الأولية لا نريد أن نستبق الحديث عن المعضلات الفكرية والاجتماعية التي سوف يتناولها بالدرس والتحليل كبار المربين المختصين بهذه الأبحاث، ولسوف نستمع ونستفيد حين نصغي إلى أولئك الإعلام يحدثوننا عن التربية والتعليم في ظل الإسلام، وعن طبيعة العلاقة بين العالم والمتعلم في الفكر التربوي الإسلامي، وسنرى ذلك بوضوح في كتاب العالم والمتعلم أبي حنيفة على سبيل المثال، وعند الحديث عن فلسفة التربية الإسلامية في تربية وتكوين المواطن الصالح، سنلقي مع باحثينا نظرات فاحصة على التربية الاجتماعية عند الشيخ الفاضل أبي هلال، وحين نمضي إلى التربية عند المسلمين بين الأصالة والتجديد، سيتاح لنا أن نرى في الماضي كيف كان التعليم في الدولة الأموية، وسوف تلوح أمامنا المعالم المدرسة في المغرب حتى أواخر القرن التاسع الهجري في ضوء كتاب نموذجي ككتاب المعيار للونشرييسي، وإذا نحن ننتقل إلى العصر الحديث لنواجه الغزو التربوي الغربي والمركزية العربية والتعريب الثقافي في بعض أقطار العروبة والإسلام، فنستعيد مقومات الشخصية الإسلامية، ونتابع مختلف التحديات التي يلقي بها في وجوهنا التسارع التكنولوجي الحديث، وتتكامل بين أيدينا التيارات التربوية الحديثة في ضوء تقاليدنا التربوية الإسلامية ثم ننتهي إلى التربية الإسلامية في لبنان، فنتقصى في بلدنا اتجاهات الحداثة والمقاومة في التعليم الإسلامي، ونشهد النطاق الذي فيه يدور التعليم الديني في مدارسنا الرسمية، وفي نهاية المطاف نقرر الوقائع الراهنة متسائلين عن التربية الإسلامية في لبنان بين الواقع والمرتجى، ومع هذه التساؤلات نختم مؤتمرنا ونحاول أن نستخلص النتائج قبل أن نخرج بما سنتفق على إصداره من التوصيات والاقتراحات لمستقبل تربوي إسلامي أفضل يتناغم وروح حضارتنا الرحيبة الأفاق. أيها السادة، منذ اللحظة المباركة التي فكرنا فيها متعاونين مع المقاصد مؤسستنا الإسلامية الكبرى، بإقامة مؤتمر للتربية الإسلامية في لبنان، لم يساورنا الشك بأن موقفنا الإسلامي هذا يتخطى الطائفية إلى الإنسانية، لأننا في الأجواء التي غلبت على لغة المنطق لغة السلاح أردنا أن نغلب على شرعة الغاب شرعة الصلاح. إننا إذا على يقين إن إسهامنا مع ضيوفنا المربين الكبار في صياغة جديدة لمنهجنا التربوي الإسلامي في لبنان يرادف أولاً وآخر مشاركتنا الفعالة في توجيه المواطنين جميعاً إلى انتهاج سياسة تربوية إنسانية وطنية واحدة تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تخرب، وتنطلق بالإنسان نحو الكرامة التي لا تتجزأ تلك الكرامة التي بها وحدها يصان الإنسان في لبنان وغير لبنان، تلك الكرامة التي لا تتسامى إلا بمكارم الأخلاق وصدق نبينا العظيم عندما قال : «إنما بعثت لأتم مكارم الأخلاق». ************ |