أعز نداء إلى قلبي هو المحافظة على وحدة الوطن وقوته الحمد لله على ما تفضل وأنعم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد القائد الأكرم والمعلم الأعظم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى جميع إخوانه أنبياء الله ورسله. أيها السادة،
شاءت عناية الله تعالى أن يتحقق إجماع كلمة المسلمين على أمر من أمورهم في هذا الشهر العظيم، ولعل بإمكاننا أن نأنس من هذا خيراً، إذ نعلم أنه الظرف الذي نزل فيه القرآن الكريم وتوجت فيه التحركات الإسلامية الأولى بأعظم الفتوح. وبالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن إخواني وأبنائي في هذا البلد الطيب أحيي مكبراً ومجلاً البادرة النبيلة التي كلل بها سماحة سلفي الجليل الشيخ علايا إجماعكم المخلص بتنازله الكريم، ضارباً بذلك المثل الكبير بالتضحية، ومثبتاً للملأ أن المصلحة الإسلامية كانت دوماًً هدفه الذي يرخص في سبيله كل عزيز. وإني إذ أتوجه إليكم بصادق الشكر والمحبة، أعلن أن تفاضل الناس في الإسلام ليس في تسنّم ذرى الرئاسات، ولكن بالتقوى والعمل الصالح « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » خصوصاً وأن من إخواني العلماء والساسة والوجهاء والمثقفين من هو محل الأكبار علماً ورجاحة رأي. وسر نجاح ذوي القيادات من مختلف المستويات يرجع إلى إخلاصهم، ومدى تطبيقهم لمبدأ الشورى الذي أمرنا الله باعتماده في حل مشاكل الحياة واختيار السلوك إزاء تطورات الأحداث، وذلك في قوله تعالى: « وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ»، وقوله «وَأَمْرُهُمْ شُورَى». من هنا سيكون بإذن الله انطلاقنا في معالجة قضايانا الخاصة والعامة في جميع الميادين والمؤسسات، لتستقيم أمورنا ويعتز كياننا، ويستقر وطننا العزيز على قواعد من العدالة والحق والخير. ويقيني أننا معشر المسلمين لا تنقصنا حرارة الإيمان الدافع إلى العمل الخيّر، ولا القوة الإيجابية البناءة، ولكنا نفتقر إلى المعرفة الصحيحة لحقيقة أوضاعنا والتوعية المخلصة الصابرة، والتعاون الحثيث لإيجاد التخطيط المنظم الذي يضمن لأفرادنا وجماعاتنا ومؤسساتنا التقدم والسمو إلى مستويات آمالنا وأحلامنا.
إن الإسلام دين ارتضاه الله تعالى للناس، وجعله ديناً إنسانياً عالمياً خالداً، يقدم لهم ما ينفعهم، ويعينهم على بناء مجتمعاتهم الصالحة، ويحرص على أن تكون للأوطان عزتها، فهو بهذا دين تقدمي، يبارك حركات الإصلاح، ويجتهد في إقامة العدالة الاجتماعية بين الناس بحيث لا يبغي قوي على ضعيف، ولا يستأثر فريق بخيرات الحياة وثرواتها. ولهذا كان علينا واجب العمل المتصل لنأخذ بحظنا الأوفى من حقول المعرفة والآداب التي يشرف بها الإنسان، كل بحسب طاقته، حتى نكون عند قوله تعالى: « كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ». كل هذا ضرورة حتمية لخدمة وطننا العزيز لبنان ودفعه إلى الإمام ليكون قوة خير مؤثرة في وطننا العربي الكبير، يعين على تحرير بعض أجزائه من غاصبيها ظلماً، ويساعد على حسم المنازعات بين الإخوة. لقد سبق الإسلام الأمم جميعها إلى اعتماد السلم أساساً للتفاهم بين الشعوب والدول، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً»، وبهذا حمل أتباعه رسالة المحبة والخير واللقاء الإنساني في الإطار الكبير. وإسلامنا هو الذي علمنا بلسان نبيه الأكرم محمد صلوات الله عليه أن (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده) ففتح بهذا قلوبنا على الناس، من أي لون وجنس ودين، لتفيض حناناً، ورحمة وبراً، فالأديان منارات للخير، ومشارق للهدى، تنظف القلوب من الغل والحقد والطمع والأثرة، وتنتهي بالناس إلى التعاون والتواد والتعايش الآمن، قال تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ». وهو الذي يريد أن يجعل من كل واحد منا عنصراً اجتماعياً فاضلاً، يبني الأوطان ويثريها، ويخوض معتركها ولا يعتزلها، ويحبها ولا يكرهها. ولا عجب فإن حب الوطن من الإيمان، بل إنه كلما تعاقدت قلوب المواطنين على المحبة والعدالة بينهم كان الوطن أرسخ أساساً، وأرفع وأقوى بنياناً. وإذا كانت محبة وطننا لبنان تفرض علينا واجبات نؤديها له عن رضى وبسخاء، فإن لنا عليه وفيه حقوقاً نحرص عليها حرص القوي الواثق، الذي لا يرضى أن يعيش فيه مع غيره إلا على قدم سواء. إن الأوطان لا تشاد إلا على أسس من الحق، ولا ترتفع وتدوم وتعتز إلا بدعائم من الأخلاق السامية. وسلامة الأوطان لا تكون بصيانة حدودها وتأمين الآليات الحديدية لتقيها عدوان البغاة فحسب، بل تكون أولاً وقبل كل ذلك بوجيب المحبة يخفق في قلوب أبنائه فيشيع بين صفوفهم نوراً يضيء لهم الطريق، ويجمّع لهم القوي، ويدفع بهم إلى الإمام وفيما بعد لا يخشون عدواً. إن لنا عدواً مشتركاً يقيم على أسوارنا ويتربص بنا الدوائر، ويتحين بنا الفرص ليجوس خلال نفوسنا وديارنا دساً وخسفاً وتنكيلاً، فما أحلى أن تتلاقى فئاتنا في محبة وصفاء لنواجهه بحزم وقوة واعتداد! أيها الإخوة،
إن أعز نداء إلى قلبي هو المحافظة على وحدة هذا الوطن وقوته، وأن تعيشوا في ظلاله إخوة متلاقين، متحابين في السراء والضراء. وإن أكرم المواطنين على هذا الوطن الحبيب هم أولئك الذين يعيشون فيه معاني الحب ومظاهره، ويمدونه بالعطاء في العلم والعمل والبناء. ولا غرو، فالقيمة الحقيقية للمواطن هي بما يعطي وطنه من مواهب، لا بما يحقق لنفسه من مكاسب. حفظ الله لبنان منارة من منارة العدل والحق، وجمع قلوب أبنائه على المودة والسلام. هدانا الله لما فيه طاعته ورضاه. والسلام عليكم ورحمة الله. |