أصحاب الدولة والمعالي والسعادة، أصحاب الفضيلة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
لا بد أنه قد صادف أحدكم يوماً بعض الطيور فرأى بعضها يتطاير أثر بعض لاستخلاص شيء ومن حطام الدنيا كان احدها قد احتملها بمنقاره. ولا بد أنه بعد ذلك استغرق بالتأمل والمقارنة بين هذا المشهد وما عليه في دنياهم من التنافس والتخاصم على متاعها الفاني وعرضها الزائن ، وقال في نفسه: ما الفرق بين هذا وهذا مما يتنافس عليه الناس ويتقاتلون؟ وقديماً وقف سليمان الحكيم أمام نملة وتعلم منها حكمة الجلد والصبر واثبات حتى الفوز والنصر. ولكن يبقى القليلون هم الذين يستخلصون العبر مما يرون ويستفيدون منها لحياتهم وأخراهم والأكثرون هم الذين يمرون عليها وهم عن آيات الله غافلون ، والله تعالى يقول:«اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا» . أيها الحفل الكريم، لقد تعلمنا بعد طول تجربة وتقلب للأمور ان النظرة للحياة من خلال المحسومات فقط، مهما كان عمقها واتساعها وأيا ً كانت دقتها وجلالها، نظرة تفقد الكثير من الحق ويزيلها كبر معناها الجميل وهدفها النبيل ، وتغرق صاحبها بحثاً لا طائل تحتها بالنسبة لما خلقت له الحياة وخلق له الانسان والله تعالى يقول: «اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ» ويقول: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» ولكن عندما يقع التوجه إليها من خلال الغاية من الخلق ، والمعاني التي فرض الله تعالى ان يلم بها من شاء له سبحانه ان يحياها في غدوة ورواحه، وسره وجهره، وتعامله العام والخاص مع كل ما حوله، فإنها تختلف، ويختلف معها المضمون ويختلف الحكم وتختلف الحصيلة والثمرة وعند ذلك يمكن فهم قوله تعالى في ختام الآية الأولى: «وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ». وبهذا نسلط بعض الضوء لنعرض بعض الأسباب التي تكمن وراء خطأ الذين يعيشون أيامهم عيشاً مادياً مقصوراً على التمتع بالأكل والشرب وجمع المال والمكاسب واكثار الذرية وتوسيع الجاه والسلطان ثم لا يفكرون في الآخرة وبالتالي لا يأخذون من دنياهم لآخرتهم ولا من يومهم لغدهم ولا من شبابهم لهرمهم ولا يعملون العمل الذي ينجيهم من سوء الحال وخاتمة المصير. وقد جعل الله تعالى ما على الأرض زينة لها ليعلم الناس كل الناس أيهم أحسن عملا، بل سراباً حتى إذا طلبه يوم يحين الأجل لم يجده شيئاً اللهم إلا ما يكون قد اقترن به من عمل صالح وعطاء مخلص ذلك لأن الغرض من خلق الإنسان وحياته هو أن يتوجه بكليته إلى التمسك بالفضائل والتجمل بالكمالات النفسية لترق أحاسيسه ويتسع أفق نظره وفكره ويشرق قلبه بما يحوزه من حكمة ومعرفة ترفع مقامه وتباعد بينه وبين الدنايا وتجعل تعلقه بربه فاتحة معين يمده بالنور ويفيض عليه بالهدى والتوفيق حتى يطمئن ويرضى. «قل أن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله إلا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب». وان سلوك الإنسان في الحياة يفرض فيه أن يكون سلوك اجتهاداً مستمر، للفوز بكل عمل أو درجة يقربه من رضى الله وهو مفهوم قوله تعالى :«فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ». ومن هنا فإنه لا يجوز في مطلق الأحوال أن يكون المؤمن ناصراً للباطل ورجاله ولا يجوز أن ينحرف عن الحق ولا أن يتحدى رجاله مهما كانت المكاسب الآنية ومهما حل في سبيل ذلك من متاع الحياة وزخرفها. وإذا كان هذا مطلوباً من الفرد فهو من الجماعة والأمة أوجب لتضمن فيما تنشده الإصلاح والتقدم وتحقق ما يصون كرامتها ويحفظ لها مكانتها بين الأمم. فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا. والأمة التي يحرص القادة فيها على تعزيز الفضائل والقيم في ناشئتهم ونشر الخصال الحميدة فيهم، أمة جديرة بالحياة والمجد. ولقد كان الدكتور صبحي المحمصاني رحمه الله من القادة في مكان الصدارة، فأخذ بنصيب وافر من العلم واجتهد فيه فأخرج العديد من الأبحاث وبخاصة في التشريع الإسلامي مما أغنى به المكتبة الإسلامية وشارك في الأطلال به على الفكر والقانون الدولي. ولقد اشتغل في القضاء فبلغ المقام الرفيع وكان مثلاً حازماً في صون حقوق العباد من أن يتجنى عليها او يتلاعب بها، وشارك في العمل السياسي وكان ان يبلغ فيه أعلى المستويات وكان محامياً صادقاً ومحاضراً موفقاً في الجامعات شرقاً وغرباً وأستاذاً أصيلاً وزائراً وحكماً محلياً ودولياً بارعاً. وكان يصدر في ذلك كله عن إيمان مشرق وسماحة مؤثرة وخلق متين. وكان مجاهداً في إيضاح الحق وإعلاء شأنه وحمل راية العدل والإنصاف وبذل الوسع في تقريب تراثنا الفقهي العظيم إلى ناشئتنا وإلى العالم بصورته الفضة ورؤيته الشاملة السمحاء وهدفه الإنساني النبيل. أفليس من واجبنا اليوم في وطننا لبنان ونحن نكابد أشد الصعاب من محنتنا المزمنة ونعاني في مجالات الحوار السياسي الكثير للوصول إلى ما يخرجنا منها بسلام وبوفاق أن نذكر الدكتور صبحي المحمصاني وأمثال الدكتور صبحي رحمهم الله جميعاً من رجالنا الكبار في عالم السياسة والفكر والعلم والقانون والتشريع اللذين كانوا ملء مجتمعنا يمنحونه حبهم وإخلاصهم ويزودونه بعطائهم الكبير. أفليس من واجبنا ذلك ونحن نرى غالب معشرنا قد استمر التلهي بالقشريات والجزئيات الهامشية من دنيا الناس ومن حاجاتنا عن مطالبنا المحلية الأساسية والملحة واستغرق بنزعات قومية وحروب الأشخاص وبخلافات الفصائل والمنظمات والأحزاب التي ضلت في غالبها عن أهدافها التي نصبت نفسها من خلالها لصون الحق واسترجاع الأرض والثأر للشعب الذي غلب على أمره وشرد في الآفاق عن قضايانا القومية المصيرية الكبرى التي في رأسها تماسك الأمة وقوتها والتصدي بموقف جامع وموحد للتحديات الضخمة التي تجابهنا من قضية فلسطين ومشاكل الشرق الأوسط فضلاً عن مشاكلنا الإيديولوجية والتنظيمية التي باتت تهدد كياننا وتنذر بأوخم العواقب وأسوأ المصير. أيها السادة لقد رحل صبحي المحمصاني عن هذه الدنيا الفانية وسبقه في ذلك أو لحق به أنداد من المتفوقين والقادة المصلحين ولكنه سيبقى حاضراً في القلوب كما بقوا وسيبقون بثمراته الفكرية والتشريعية وبذريته الصالحة وبآثاره الحميدة الشاهدة في مختلف الحقول الخيرة التي ضرب فيها بخط وافر وجهد طيب مشكور.
رحم الله الدكتور صبحي المحمصاني وطيب ثراه الجنة مثواه وجزاه عنا بما عمل وأفضل خير ما يجزي به المؤمنون ويكرم العاملون المخلصون الصادقون. |