أصحاب السيادة والمعالي والسعادة أيها الأخوة والأخوات، يشرفني في هذا اليوم المشهود من أيام شهر رمضان المبارك أن ألتقي بكم في هذا البلد المضياف مرة أخرى بعيداً عن وطننا الجريح وشعبنا البائس وأجوائنا الملبدة بكل بواعث الأسى والحيرة والخوف. إن لقائنا هذا في شهر العبادة هو خيارنا لنخرج من تلك الأجواء الملبدة من حظيرة العيش المتنافس والمتخاصم، ولندخل، على الأقل لفترة، في الحظيرة التي اعتدنا أن نعيشها من قبل، وينبغي أن نعيشها دوماً، حظيرة التآخي والتعاون فيما يمكن أن ييسر لنا سبيل العودة إلى الأصالة. لقد أفسد لبنان وأورده موارد الهلكة والخراب التنافس والتخاصم على المادة، والتنافس والتخاصم على السلطة، والتنافس والتخاصم في كل شيء انطلاقاً من مطامع الذات ومصالحها وعلى حساب المصلحة العامة. ونحن هنا ننشد اللقاء في أجواء المحبة والتعاون والخير العام، أجواء الأخوة الوطنية المخلصة للوطن والحريصة عليه والمتفانية في بذل كل الطاقات لاستعادته منيعاً سيداً حراً انطلاقاً من مفهوم الإيمان بالله الذي نعظمه جميعاً ونكبره ونثني عليه ونستعين به ونستهديه. هذا الإيمان والمفهوم اللذين من أجلهما خلق الله السماوات والأرض والإنسان والكائنات كلها حسب قوله الرائع: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطمعون أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين». بل هما الأساس الذي ما كان ينبغي أن يتيه عنه الإنسان في كل ظروفه المعاشية مهما تنوعت واختلفت وتأزمت. ولكنه أخلد إلى الأرض، وغرّة الطمع كما خدعه سراب المادة وبهره بريقها فنسي تلك الحقيقة وعمي عن الحق والخير وسقط وأسقط معه الوطن الذي بات اليوم يعاني من محنة كبرى ومأساة طاقة... غمض عينيه عن النور الذي سلطه الله عليه ليرى من خلاله هذه الحقيقة فانحرف عن الخط الصحيح، وضل سبيله القويم، وخرج من الأجواء التورانية التي كانت تغمره وترشحه لسعادة الدنيا وأمنها ورخائها وتصرفه عن الشفاء فيها من ثم أسباب الشفاء الخطير في اليوم العظيم، والله تعالى يقول: «لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا » ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جنهم وبئس المهاد، أفمن يعلم إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أولو الألباب، الذين يوفون بعهد الله ولا ينقصون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلا نية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار. جنّات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار والذين ينقصون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار، الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وفرحوا بالحياة الدنيا، وما الحياة الدنيا في الآخرة الا متاع. إلى أن يقول الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب. أيها الأخوة والأخوات، إن محنتنا العسيرة التي تتحكم بنا اليوم لا سبيل للإفلات منها إل بالعودة إلى الأصالة الروحية التي عشناها من قبل، والجذور الأخلاقية التي انبعثنا منها قديماً وصغنا بها أعرافاً وتقاليد نشرت فوق مجتمعنا سحائب السلام والمودة زودتنا بأفضل الخصال التي نمت فينا روح التعاون والمحبة، وجعلتنا نحرص على الخير والحق ولو كان على أنفسنا ومصالحنا وبهذه الأصالة الروحية وحدها نهتدي إلى العمل الجاد في إصلاح ما فسد من أساليب معاشنا وظروف تعاملنا، ونتمكن مع الثبات والصبر من بناء مجتمعنا ومؤسسات وطننا بيد موحدة وموقف موحد ورؤية موحدة. ولئن كان لا يسع أحداً تجاهل تعدد الطوائف الذي يتركب منه لبنان، هذه الطوائف التي نختلف رؤيتها التي تركز عليها عقيدتها في الخالق والمصير، فأنه لا يجوز أيضاً تجاهل أنهم جميعاً في العمق والبعد يلتقون على أن ثمة إلاهاً خالقاً ، هو المبدأ وإليه المرجع والمآل حيث يكافئ المحسن على إحسانه ويعاقب المسيء على إساءته. ومن حقنا في خضم مثل هذا الواقع الذي وجدنا فيه أن ندعو اللبنانيين كافة إلى أن يدركوا هذه الحقيقة الأصيلة وإلى أن يعذر بعضهم بعضاً فيما اختلفوا منه إلى ان يقضي الله أمره ويحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون. ويلتقوا فيما عدا ذلك على حماية وجودهم وكيانهم والدفاع عن وطنهم ومؤسساته ومصالحه. إن لبنان وطننا، جباله الشامخة وأرضه الخصبة المعطاء وسماءه الصافية الزرقاء، وماؤه العب الخير ومناخه المعتدل الرضي وجماله الأخاذ الرائع كل ذلك لنا لأبنائنا وذريّاتنا من بعدنا، فهلم تتضافر قوانا وإرادتنا لتحميه وتحافظ عليه وتقيمه على الأسس التي تعزز لنا إخوتنا وتعاوننا وتفاهمنا وتصون كرامتنا وحرياتنا. أيها الأخوة والأخوات، ان لقاءنا اليوم الذي يوفر لنا هذا الأجواء الرضية السمحة هو لقاء نموذجي لحقيقة الأخوة الوطنية التي ننشد دائماً وهو لقاء هام ينبغي أن نستفيد منه ونخرج منه بأكبر قدر ممكن من القناعة بهذا الحق الذي يساعدنا على تدعيم بنائنا الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي بل والسياسي وينبغي أن نبذل ما أمكن من طاقتنا وما منحنا الله من وسائل الخير والبناء لنخفف ما أمكن من معاناة شعبنا ونساعده على مزيد من الصمود في مواجهة مختلف التحديات ليساعدنا بدوره بإمكاناته على توجيه إرادته وكل قواه نحو البناء والتماسك ليبقى وطنناً موحداً وسيداً حراً متعاوناً مع إخوانه العرب فيما يحمي قضايانا المصيرية المشتركة ويعزز مبادئنا الإنسانية السامية التي نعزز السلام في محيطنا بل وفي العالم كله. وستبقى مساعدتكم الكبرى له بأن تظلوا وأنتم في مغتربكم أكثر اعتصاماً بالله وإيماناً، بقدرته على أن يغير الأمور إلى الأفضل والأحسن إذا وجد لديكم الإرادة والعزم على التغيير إلى الأفضل والأحسن، وكذلك إذا تجاوزتم في كل الظروف والأحوال الأنانيات والأهواء والتصرفات والسلوكيات النابعة منها.
حفظ الله لنا لبنان ليعود القدوة والمثل للعيش الأخوي الكريم بين أبناء الأسرة الواحدة. وحفظكم ووفقكم لكل خبر وبر وكل عام وأنتم بخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |