الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد، فقد كان شهر رمضان مع تطاول الأزمة اللبنانية يتخولنا بالزيارة عاماً بعد عام فيبلسم جراحنا ويكفكف أحزاننا وهمومنا وينشر فينا مناخات روحية طيبة تساعد على ردنا إلى أصالتنا الإنسانية والدينية. فلا جرم أنه ظرف زمني اختاره الله ليكون لأرواحنا مثابة ومناً بعد أن طالت معاناتها على مدار كل سنة باستغراقها في شؤون دنياها ومشاكلها اليومية نجتهد فيه بإقامة شعائر كل العبادات التي أمر بها الله من صلاة وصوم وزكاة، وبالإقلاع عن سيئ العادات، وما نهى عنه من الممارسات وأنواع السلوك، ونحاول السمو في مراقي الفلاح بفعل الطاعات والصالحات حتى نبلغ ما كتب الله لنا من شفافية روحية وحلاوة إيمانية. انه دوما بمثابة دورة تربوية تخرجنا من دوامة السعي الدنيوي، نشارك فيها كل عام لنحسّن علاقاتنا بالله ونجدّد العهد معه، ونغني من خلال تطبيع علاقتنا مع الناس، كل أنواع السلوك التي تجعل منا عباداً للرحمن، نمشي على الأرض هونا، ونقول للجاهلين سلاماً، وننفق مما أفاء الله علينا دونما إسراف ولا تقتير، ولا ندعو مع الله إلاهاً آخر، ولا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا نزني ولا نسرق ولا نكذب ولا نغتاب، ولا نم ولا نغش ولا نختال، ولا نخادع ولا نفعل أي شيء حرمه الله تعالى، ونقيم من أنفسنا أصدق وأخلص رقيب عليها ونحضها على تحرى محاب الله واتيانها، لتفوز برضوان الله ومحبته وعونه في الدنيا، وبجنات النعيم والفوز العظيم يوم الفزع الأكبر يوم تأتي كل نفس لا تكلم إلا بإذنه. وكما تذهب النار خبث الذهب وزبده، يفرض في الصوم الصحيح أن يذهب خبث النفس وأذاها، ويخليها من الصفات الذميمة والتصرفات الموبقة، ويحليها بكل جميل وحميد من القول والفعل والشمائل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «الصيام جنة، فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم» والقائل «من لم يدع قول الزور والفعل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». وان الفوز بمثل هذه الثمرات السلوكية الرفيعة في شهر رمضان المبارك يمنح فكرنا صفاء، ونفوسنا نقاء وطهراً، ويهب نظرنا عمقاً وشمولاً، ويفتح لنا آفاقاً مشرقة بضياء الحق، تبصرنا بكثير مما عمي علينا من حقائق الحياة وأسرارها، وتعيدنا إلى التفاعل معها، في الحدود التي لا تسمح بالغفلة عنها، والانشغال بأعراض زائلة وزين فانية ومظاهر بالية. وقد كشف الله تعالى هذا المعنى في كتابه العزيز فقال: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» وقوله:«اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ». ان الرسول صلى الله عليه وسلم ليركز في نصحه وتوجيهه على ثمرات العمل الصالح والترقي بالسلوك والتجمل برفيع الخصال فيقول: «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لله أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها». والطهور الذي هو التطهر من الدنس الحسي والمعنوي نصف الإيمان لأن كمال الإيمان هو بالعمل الصالح. والإيمان بدون العمل يفقد الكثير من محسنانه وموجبات صدقه إذا لم يتعرض لما يشكك به ويضعف من قيمته، والرسول صلى الله عليه وسلم أوضح هذا المعنى بأحاديث كثيرة منها قوله: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها أماطة الأذى عن الطريق » وقوله : « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» وقوله: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا إيمان لمن لا عهد له» وقوله: «آية المنافق ثلاث إذا حدث وإذا وعد اخلف وإذا ائتمن خان». وفي لفظ مسلم «وان صام وصلى وزعم أنه مسلم». وإيمان القلب يظل إيمان مستخفياً لا يعلمه إلا الله ولا ينكشف إلا بالإيمان الظاهر الذي هو الأعمال التي أمر الله بها وهو الذي يفرق به بين المسلم والكافر والمحسن والمسيء وان عمود هذه الأعمال الصلاة يزينها التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل التي تثقل موازين العبد بالأجراء والثواب. وان قلب العبد المؤمن اذا ما صبر على هذه الطاعات فلم يضيع فرضاً لم يعتد على حد من حدود الله ، ولم ينتهك حرمة من حرماته استضاء بنور الله وزالت من وجهه حجب الشيطان وصوارفه وفواذله وكانت له الحجة القاطعة باستحقاق رضوان والفوز بنعيمه المقيم. وطوبى لأولئك الذين لم تصرفهم رغائبهم وميولهم الدنيوية عن الحق والهدى ، وويل لأولئك الذين يلعب بقلوبهم الهوى واستدرجهم الشيطان بألاعيبه وبادروا للاستجابة له. وان الصوم نصف الصبر لأنه على ناره الدافئة الوئيدة يرقق المشاعر ويجلو صدأ القلوب ويذكر الله ويحركها لتنبعث إلى اقتحام الصعوبات إلى فعل الطاعات واكتساب الحسنات . وأن في رأس الحسنات بعد إقامة الفرائض الدينية أن يتقي العبد ربه، فلا يقسو في معاملة أخيه ولا يخذله ولا يحقره ولا يظلمه، بل يكون به باراً وله وفياً، ولا يسمح لنفسه بأن يطمع فيما لديه أو يبسط سلطانه عليه فضلاً عن أن يبتزه أو ينال منه كما هو شأن الكثيرين من الأفراد والشعوب والدول بعضهم مع بعض حتى انقلبت في العديد من المجتمعات الموازين وشلت المعادلات وتحولت الحياة فيها مشارح مفتوحة تطبق فيها شرائع الغاب ويأكل فيها القوى الضعيف. أيها الأخوة والأبناء، ان وطننا لبنان وشعبنا اللبناني قد نالهما الكثير من ذلك وأنا ونحن على عتبات شهر رمضان، نأمل أن نستلهم جميعاً من مناخاته الحافلة بالنور، الكثير مما يزيدنا هدى وخشوعاً، ويردنا إلى أجواء السكينة والسلام، ويحبب إلينا توحدي الجهود وتكثيفها للإفادة من المتغيرات الدولية والإقليمية بدعم مسيرة الوفاق وتسريع الخطى لإنهاء الأزمة. وإن مصلحتنا العليا لتحتم علينا أن نعمل مخلصين لإزالة كل العقبات القائمة في طريق المساعي النشيطة التي تبذلها الشقيقة سوريا مع الولايات المتحدة خاصة، ومع غيرها من الدول الصديقة لبلورة صيغة تعايش يتوافق عليها اللبنانيين، لفتح صفحة جديدة من التعاطي الوطني البناء والعيش المشترك الكريم. ولئن كانت الجهالة في الماضي قد أضاعت علينا فرصاص كثيرة بسبب الأطماع والأنانيات فإن علينا أن لا نسمح بإضاعة مثل هذه الفرصة التي نأمل أن تسفر عن نتائج وفاقية إيجابية تمكن من إجراء انتخابات الرئاسة المقبلة ف يجو هادئ يدعمه التعاون ويواكبه الشعور الكبير بالمسؤولية الوطنية. وإن من أولى واجباتنا اليوم أن نتوجه بالشكر إلى كل الذين ساعدونا من الدول الشقيقة والصديقة على مواجهة أزمتنا الاجتماعية والاقتصادية التي انعكست بسوئها على كل المرافق والمصالح الخاصة والعامة، وبخاصة الكهرباء والتليفون والطرقات والمؤسسات الصحية والتعليمية والاجتماعية وأن نعمل بوعي وبكل إمكاناتنا لإنقاذ وضعنا المتدهور حتى لا يتحول الشعب اللبناني المعروف بالمروءة والعفة والنجدة إلى مجموعة من المهجرين، وإلى واحد من أفقر شعوب العالم، بعد أن كان يرفل ببلهنية العيش والازدهار الحضاري، وأن نحث الخطى باتجاه كل تفاهم ووفاق يعزز سيادة لبنان ووحدة شعبه مؤسساته متجاوزين العصبيات الطائفية والانفعالات المذهبية والمحلية التي استغلت أسوأ استغلال وأساءت إلينا أفدح الإساءة على مدى سنوات المحنة الطويلة. أيها الأخوة والأبناء، إن الجنوب الذي ما انفك منذ بداية العهد الاستقلالي ساحة تشهد أروع وقائع النضال وقصص المقاومة البطولية في وجه إسرائيل، خاضها أبناؤنا من الجنوب ومن بيروت والشمال والبقاع، وما يزالون ، لن نسمح بأن يتحول ميداناُ يتصارع فيه الأخوة ، وأن البندقية الصالحة لا ترفع إلا في وجه العدو المغتصب الذي يجتاح الأرض ويهتك الحرمات ويعتدي على المقدسات ويفتك بمصالح الشعب في أرض الوطن وفي الأراضي العربية المحتلة بما فيها الضفة والقطاع، وبعد أن استهان بكل العهود والأعراف والمواثيق، وجرد كل أنواع أسلحته ليجهض الانتفاضة المباركة في كل فلسطين دفاعاً عن الأرض وذوداً عن العرض وصوناً للحق السليب وثأراُ للكرامة المهدورة. وإن على جميع القوى والجهود ان تتضافر وتتحد لمواجهة هذه التحديات الخطيرة بمواقف إيجابية تعزز الجنوب وأهلنا فيه وتشد أزر أبنائنا في الضفة والقطاع وفي كل فلسطين الذين يجاهدون بأنفسهم وبكل غال وثمين وتنبذ الخلافات جانباً، موفرين كل جهد وطاقة لليوم العصيب الذي قد تفرضه علينا الظروف المستقبلية، وأنا لنهيب بالمجتمعات الدولية والعالمية إلى فعل أقصى الضغوط وأكثرها تأثيراً على إسرائيل ومن يساندونها للانسحاب من الجنوب ومن ثم من الأراضي العربية ومن الضفة والقطاع والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وسيادته على أرضه. أيها المسلمون إن شهر رمضان المبارك يطل علينا اليوم في أجواء جديدة تحف بها آمال مثقلة بتباشير تفاهم وشيك يحتمل معه وضع حد للأزمة اللبنانية التي طال أمدها وافتتاح عهد جديد من التعاون البناء، وأنا لنسأل الله تعالى أن يعجل بالفرح وإزالة الكرب وأن يعيد للبنان وشعبه الأمن والاستقرار، كما نسأله تعالى أن يجعل منه شهر البركة والرخاء واليمن والسلام وأن يقبل فيه صيام الصائمين ودعاءهم وطاعة المتعبدين والمتصدقين والخاشعين والقانتين وتوبة التائبين والمستغفرين إنه سميع مجيب. |