عيد الأضحية ... خير مناسبة للتعبئة الشاملة أبنائي وإخواني، ما أكثر معاني التضحية التي يوحي بها عيدنا الأكبر! من الأضحية اشتق اسمه الجميل، وبالتضحية يذكر ما ينحر من أضاحيه، وعلى حادثة الفداء قامت الأضحية والتضحية فيه، وما أحسب مؤمناً يجهل أن حادثة الفداء التي إليها أشير هي الحادثة التاريخية الدينية التي امتحن الله بها إيمان إبراهيم، إذ رأى في المنام أنه يذبح ولده، فسحق عاطفته، ولم يتردد في امتثال أمر الله، وكاد يذبح ابنه لولا أن فداه الله بذبح عظيم، وما دام عيدنا الأضحى مقترناً بتلك الذكرى التاريخية، فلا غرو إذا سميناه عيد الفداء والتضحية.
وها نحن أولاء نستقبل عيد التضحية والفداء في ظروف عصيبة نحن فيها بأمسّ الحاجة إلى كل تضحية وإلى كل فداء، لنواجه التحديات الصهيونية ومخطّطاتها الاستعمارية التوسعية، بعد تلك النكسة الأليمة التي أصابتنا جميعاً في الصميم.
ومن المؤسف حقاً أننا ما نزال رغم ما تفرضه المعركة المستمرة من بذل التضحيات وحصر الطاقات في مواصلة النضال، نجد مجتمعنا المريض في تفكك خُلُقي مروّع، ينطبق به انحراف مفهوماتنا واضطراب مقاييسنا، وتضاؤل إنتاجنا، وضعف شعورنا بالمسؤولية الفردية والاجتماعية، ودوران أقوالنا وأعمالنا حول (الأنا) والأهواء الشخصية، بينما العدوّ جاثم على الأرض العربية، يترصدنا على الأبواب ويحرق لنا المعابد والمقدسات. إن واقعنا المرير ليؤكد تناقضاً معيباً في الخصائص الإنسانية، ولا سيما في هذه الفترة الحرجة من تاريخنا، وإن هذا التناقص ليهدد تناقصٍ مماثل في مستوى الذكاء، وانهيار في الأعصاب، وانتكاس في قوى العقل والروح، وتدمير للمجتمع بكل من فيه، مصداقاً لقوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا» وقوله تعالى: «وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ». إن عيد التضحية والفداء هو أفضل مناسبة لتعبئة أنفسنا تعبئة كاملة: روحية وخلقية وتربوية وسياسية واقتصادية وعسكرية، ففي أيامه الجميلة نجدد نشاطنا، لنتحفز بعده إلى استكمال عدتنا في جميع الميادين، ولنعيد إنشاء أنفسنا في تمام شخصيتنا الإنسانية التي حطمتها الحياة العصرية بمياعتها شر تحطيم. ولن يتم لنا شيء من ذلك إلا باعتماد إرادة التغيير، فالله لا يغير ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا، و هو القائل تبارك وتعالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ». ألا وإن المنهج الرباني لمعالجة هذا الانتكاس الخلقي المروع بات معروفاً للجميع: إنه التوازن النفسي والاجتماعي الذي لا يمنع الناس من الاستمتاع بما يتجدد من فنون الحضارة، وما يخترع فيها من أسباب الدعّة والسكون، مادام هذا كله يؤتي باعتدال معقول، لا يفسد خلقاً، ولا يمزق وجداناً، ولا يعارض مبدأ أصيلاً نبيلاً، مصداقاً لقول الله الكريم: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» . إن نقدنا الذاتي لأنفسنا ومجتمعنا يؤكد أن مشكلتنا خلقية قبل كل شيء فلا بد لنا أن نرتفع إلى مستوى الأحداث أفراداً وجماعات، ولا بد لنا أن نعي وعياً عميقاً حقيقة النكسة وأبعادها، ولا بد لنا أن نجزم بأن المعركة أكبر من ذواتنا وأشخاصنا جميعاً، وإنما يكون لنا ذلك إذا أوجدنا التوازن بين قوى الجسد والروح، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وآثرنا التوسط في كل شيء، سواء في ذلك المسلك الفردي والمسلك الاجتماعي، وحرصنا على إطلاق جميع طاقاتنا المادية والروحية، والفكرية والفنية، من غير إفراط ولا تفريط، وعرفنا كيف نوزع التبعات والمسؤوليات على الجميع بالقسطاس المستقيم، عملاً بقول خاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام (كلم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في بته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية فيبيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ولكم مسؤول عن رعيته). إن الدين في جوهره ووجوده الفعلي، لكي يكون «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» كما يقول القرآن، جديرٌ أن يواجه الحياة بهذه النظرة الواقعية الإيجابية، وليس من الواقعية في شيء أن يكون الدين مقصوراً على التعبد وإقامة الشعائر وأداء الصلوات والإكثار من الصيام والصدقات، بل هذا تضييق للدين، وحصرٌ لتعاليمه، وسلخٌ له عن واقع الحياة! والدين، لكي يواجه الحياة بتلك النظرة الواقعية، يعمق في الفرد الصالح شعوره بأنه خليةٌ في بناء جماعة صالحة متوازنة، وشعوره هذا ينبئ في نفسه إحساساً بقيمة الحياة، وقيمة الزمان، فلا يبدد شيئاً من وقته غلا فيما يقوّيه على عمل الخير، وأداء الحقوق كاملة لله ولعباد الله. فما أحكم الوصية النبوية التي تقول: اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك. أبنائي وإخواني، ما أجدرنا في عيد الفداء والتضحية باحترام الإنتاج والإيجابية، وبذل التضحيات السخية، وتحمل تبعاتنا أفراداً وجماعات، ما أجدرنا في هذا العيد أن نؤمن بأن قيمة المرء ما يحسنه، وما ينتجه، وما يقدمه للمجتمع الذي يعيش فيه من أعمال صالحات، ما أجدرنا أن ندرك اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن تحمّل التبعات، هو الأساس الذي يعوّل عليه في التفرقة بين المؤمنين والمنافقين، فالمنافقون شيئاً، ولا يتحملون تبعة، أما المؤمنون الصادقون فيخوضون كل معركة، ويؤدون كل أمانة، ويجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة اللائمين: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ». إننا من هنا، من لبنان الحبيب، إشادةً بمعاني الفداء التي يوحي بها عيدنا الأكبر، نحيي إخواننا الأبطال المجاهدين الصامدين، الذين يفْدون بأرواحهم أرض النبوات والرسالات، ونؤكد لهم أنهم ليسوا وحدهم في ميدان الكفاح، فنحن معهم بالبذل والتضحية ونحن معهم بالجهاد المتواصل، والله معهم ومعنا ما دمنا ننصر الحق، وندعو إلى الخير: «إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»، «وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |