أيها السادة، يهمني وقد أنهى المسيحيون في مشارق الأرض ومغاربها، صيامهم منذ أسابيع قليلة أن أفتتح حديثي بالتوجه إليهم بأرق مشاعر الود وأخلص التهاني والتقدير كما يسرني أن أجدني واقفاً مرة ثانية بينكم في مطلع شهر رمضان المبارك شهر الصوم والعبادة والتقرب إلى الله بمختلف وجوه البر والإحسان ، داعياً الله أن يتقبل منا صيامنا وعبادتنا ودعائنا وأن يلهمنا العمل بما نوجه إليه فريضة الصوم من معان سامية في التضحية والإيثار والترفع عن الأهواء في سبيل حياة أفضل وعيش أكرم في ظل طاعة الله وفي إطار التسامح ومزيد من المحبة والتعاون.
وإنها لمناسبة أود ان أشير فيها إلى حقيقة دينية هامة، وهي أن الدين عند الله واحد، وأنه أرسل المرسلين وسن الشرائع للتأكيد على وحدانيته، ولتبصيرنا بالحق وحضنا على نتهاج سبيل كرامتنا ورفعتنا في الأرض وفوزنا في الآخرة برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم. وإننا كلنا ننتسب إلى أب واحد وأم واحدة، أضلنا وأبّرنا أكثر عملاً للخيرات والصالحات والله تعالى يقول:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا» ويقول «يَا َيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» وإننا كلنا نؤمن بإبراهيم أبي الأنبياء وبل إن عقيدتنا الإسلامية تؤكد بأن إيمان المسلم لا يكتمل إلا إذا آمن برسالات السماء كلها وبالملائكة والكتب والنبيين، وأن الحق واحد، والذين جاءوا به منذ بداية الخليقة حتى ختام الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم أمة واحدة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى» ومن هنا فإني أقول إن لبنان كان رمزاً كريماً للتفاهم البشري وللتعايش السمح والمنفتح بين أتباع الأديان وأصحاب المذاهب المختلفة، وإن أهميته تكمن في أنه مثّل رغبة الإنسانية، فكان مسرحاً ينبض بالحياة الحّرة يتلاقي كل الناس على اختلاف عقائدهم وأفكارهم ليكون مثلاً رائعاً يبرز لضمائر كل الشعوب والدول في الشرق والغرب. ولقد كان الثمن باهظاً عندما تمكن البعض بإرادات شيطانية من العبث بهذه الصورة كمحاولة لتشويهها وإفقادها معناها الجميل، ولكننا نؤكد بأنها هي وحدها ستبقى الطريقة المثلى للتعايش الإنساني، والمدخل الوحيد إلى السلام الذي ننشده جميعاً. لست الآن بحاجة لن أضف لكم مدى المصيبة التي ترزح على كاهل الشعب اللبناني وتنهك البلاد والعباد اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً نتيجة ثلاثة عشر عاماً من المحنة والبلاء، بل إن هذا الوضع المأساوي المفجع هو الذي حملني إليكم في العام الماضي وهو الذي يحملني إليكم مرة ثانية هذا العام ، ولقد كان تفهمكم لهذا الواقع المخيف وتجاوبكم الكريم في لقائنا الماضي معكم بأعطياتكم السخية بلسماً كفكف جراح الآلاف من إخوانكم المعذبين الذين انتقلوا فجأة بفعل المأساة من عز إلى ذل ومن الاكتفاء على العوز، ومن حالة الاستقرار والأمان إلى حالة القلق والرعب. أيها السادة، لقد أنشأنا صندوق الزكاة، وهو مؤسسة اجتماعية أوصى بشأنها الإسلام لتكون مهمتها حض الأغنياء على بذل فضول أموالهم لتعطى إل الفقراء والمساكين على اختلاف حاجاتهم وذلك حسب أمر الله الذي يقول «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». إن الأغنياء حينما يخرجون هذه الأموال يخرجونها كحق عليهم في أموالهم ما داموا يعيشون معهم ويكسبون أموالهم على أعينهم، وفي هذا يقول الله تعالى «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» بل إنهم عندما يقوّمون لأصحاب الحاجة يطهّرون أموالهم مما يكون قد أصابها من درن وفساد التعامل، ويطهّرون أنفسهم من آثار الحسد والحقد الذي قد ينتاب بعض نفوس المحتاجين من الفقراء والمساكين ، فضلاً عما في إخراجها من فتح الفرص لإنمائها ومضاعفتها لأصحابها حسبما جاء في وعد الله تعالى الذي يقول «وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ». وإن صندوق الزكاة فضلاً عن أنه أصبح مؤسسة كبرى تتحمل مسؤوليات ضخمة في خدمة المجتمع اللبناني وبنيه من الفقراء والمساكين من الحقول الاجتماعية المتنوعة هو أيضاً مدخل لطيف ورفيق إلى قلوب اللبنانيين لتأليفها وتقريب بعضها من بعض الأمر الذي يساعد بشكل واضح على تخفيف الأحقاد ونزع فتائل الغل والحسد التي قد تغمر القلوب ليحل محلها الحب والود والتعاون وهو ما نفتقر إليه اليوم كثيراً لإعادة التواصل بين الجميع ونشر أجواء الأمان فيهم. ولا يسعنا ونحن نتكلم عن صندوق الزكاة ومهمته في لبنان إلا أن ننقل إليكم صورة موجزة عن الآثار الطيبة التي تركتها مساعداتكم التي قدّمتموها له من السنة الماضية لقد أعان الصندوق ما يزيد عن ألف عائلة براتب شهري معدله ثلاثة الآف ليرة لبنانية شهرياً حيث قارب العدد الإجمالي من يوم إنشائية حتى تاريخه الأربعة الآف. ولقد قدّم الصندوق مساعدات مقطوعة لما يقارب ثلاثة الآف حالة من الأفراد والأسر تتراوح قيمة المساعدة مابين الخمسة والعشرين ألف ليرة والمائة ألف ليرة لبنانية تناولت العلاج والكساء والأقساط المدرسية أو ترميم بعض البيوت أو المساعدة الإنتاجية، بالإضافة على المساعدات المالية الكبيرة التي قدمها الصندوق على بعض المناطق المتضررة بسبب السيول أو لبعض القرى لإيصال مياه الشرب إلى أهاليها أو لبعض المؤسسات الاجتماعية والتربوية والعلمية بسبب ما من جراء عدوان بعض الميليشيات عليها بما فكان مجموعة الثلاثين مليوناً من الليرات اللبنانية. وإن هذه المساعدات على اختلافها في إطار العائلات أو الأفراد أو المناطق أو المؤسسات وفي مختلف المجالات زادت من مسؤولية هذا الصندوق، ومن الأعباء التي ينتظر أن يتعرض إلى حملها في الفترة القادمة بسبب الظروف القاسية التي ما زالت تحيط بالناس وتهيمن على الأجواء بصورة عامة، وأن كنا نؤمن من صميم قلوبنا بأن الأوضاع بشكل عام أمنياً وسياسياً تسير سيراً نحو الأفضل والأحسن بفضل رغبة الجميع وإن الأيام المقبلة ستكون بإذن الله أكثر استرخاء وأحسن حالاً، وبخاصة إذا ما داومنا الضغط المخلص في اتجاه التخلص من أجواء التشنج والانفعال ومن محبات التفاؤل التي نحس في العمق إنها انحسرت بنسبة كبيرة وأحل مكان أجواء مشجعة على الحوار الإيجابي والتفاهم الوطني البناء والتعاون المخلص لتعزيز السلطة الشرعية وسيادتها على الأرض والشعب في ظل العدالة والمساواة. أيها السادة، إننا نشكر لكم بإسم كل الفقراء والمعوزين، تعاونكم، ونشكر لكم سخاءكم الذي انعكس على الآلاف من الأفراد والأسر ارتياحاً وسكينة وطمأنينة، وندعوكم إلى مزيد من العطاء والسخاء رحمة بالضعفاء والفقراء والمهجرين والمعاقين والمصابين في شهر الصوم شهر الإحساس مع الضعيف وذي الحاجة والمحروم والمسكين، راجين الله تعالى أن يحفظكم ويحفظ أحبائكم ويردكم من غربتكم على الوطن وأنتم في كمال الصحة وموفور الكرامة والعز. |