بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي العربي وعلى آله وصحبه وسلم. فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية، دولة رئيس مجلس النواب، دولة رئيس مجلس الوزراء، أيها الحفل الكريم،
يسعدني أن أرحب بكم أجمل الترحيب في هذه الدار، في ذكرى مولد سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه.
وإنها لذكرى عابقة على الدهر بطيب المحبة، غنية بأسباب العطاء، دفاقة في مجالات الخير، ذلك أن الرسالة العظمى، التي حمّلها الله تعالى رسوله الكريم، ليبلغها للناس كافة، هي رسالة خير للإنسانية في كل زمان ومكان، لأنها تتناول جميع جوانب الحياة الإنسانية، وتنظم علاقة الفرد بالفرد، وعلاقة الفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالجماعة، ثم علاقة هؤلاء جميعاً بالله تعالى مبدع الكون الذي له الأمر وإليه المصير.
وعلى الرغم من ان صفة الشمول في رسالة صاحب الذكرى، تجعل من الصعب على المحب لها أن يتحدث عن جانب واحد من جوانبها، لأنها كل لا يتجزأ، تماماً كما هي الحقيقة، في وحدتها، في تماسكها، فإن حياتنا المعاصرة أيها السادة تستدعي بالضرورة أن نتذكر في هذه المناسبة العزيزة قوله تعالى لرسوله الكريم: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ». وقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ففي مساق قوله تعالى يبدو التدين خلقاً عظيماً، وفي قول الرسول الحبيب تبدو الأخلاق تديناً كريماً، ولا غرو فالدين والأخلاق كلاهما مطابق للآخر في مبدئه وفي غايته. ومهما قيل في الإسلام من تعريفات، تختص بتنظيم حياة الفرد، أو بالتركيز على نظام سياسي، فإن الإسلام فوق هذا وقبله، يبقى في مبدئه نظاماً أخلاقياً عاماً شاملاً، ولأنه أخلاقي في تربية بنيه، حتى وفي تنظيم إقتصاد مجتمعه، وفي إشاعة العدالة والمساواة بين الأفراد والجماعات في دولته، لأنه أخلاقي في تنظيم سياسته، فلقد قال الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». أيها الحفل الكريم، لقد كان الإسلام من السمو بحيث ارتفع بأخلاق الفرد، كما ارتفع بأخلاق الأسرة، وبأخلاق المجتمع والدولة الى مستوى واحد هو الأرفع، أعني به مستوى الطاعة لأمر الله تبارك وتعالى، ومستوى الدخول في محبته، ثم مستوى الفوز برضاه، ولهذا فإن الإسلام كفيل بفلسفته الأخلاقية الشاملة أن ينتزع البشرية من براثن التخبط والضياع، التي وقعت بالفعل فريسته لها، نتيجة لصراع المذاهب التربوية والإقتصادية والسياسية وما إليها، هذا الصراع الناتج عن تعدد الغايات بين هذه المذاهب وإختلافها إختلافاً أخلاقياً في النهاية. إن وحدة الغاية في الإسلام التي تتمثل بمجتمع أخلاقي وإنساني واحد، في ظل إله واحد كفيلة بالقضاء على هذا الصراع، وتحضير مجتمعنا المعاصر لحضارة روحية ومادية معاً، جديرة بإنسانية الإنسان وما يتطلع إليه من خير ويمن وسعادة. ومبادئ الإسلام أيها السادة، ليست وقفاً على العرب ولا على المسلمين وحدهم لأن الإسلام ارتضاه الله تعالى للناس كافة، يثبت هذا قوله تعالى: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا». ومن هنا كانت دعوة محمد دعوة فيض وعطاء، ولم تكن دعوة إنحسار وتملك. أيها السادة، إننا من هذا المنطق الأخلاقي ننظر الى حياة المسلم في لبنان على انها حياة منفتحة على الناس جميعاً، على تنوع مذاهبهم ومعتقداتهم، انفتاح تعاون ومشاركة ومودة. وفي إطار هذا المعنى يصبح التواد الإسلامي المسيحي في وطننا أول ثمرات هذا العطاء الخلقي الذي يمكن توظيفه في سبيل بناء لبنان أفضل، على أسس مشتركة من الخير والحق والعدل والسعادة للجميع. لذلك فإن إشاعة العدالة والأمن والمساواة بين المواطنين ليست مطلباً وطنياً فحسب، وإنما هي واجب ديني وأخلاقي أيضاً. وإذا كان توفير ذلك في لبنان اليوم ما زال يفتقر الى المزيد من العمل، فليس معناه إستحالة في نقل هذا الواقع المتخلف الى رحاب الممكن الأفضل، إذ ليس في الحياة من شيء بشري لا يقبل التغيير نحو الأسمى، وإلا كان ذلك تكريساً للجمود، ورضوخاً للموت في إطار الحياة، وهذا مخالف لإرادة الله في تكريم الإنسان، وتحريره من دواعي الطغيان، وإطلاق يده في أشياء الكون تعديلاً وتبديلاً، وتسخير مادته لإرادته تكييفاً وتغييراً، إنسجاماً مع ما يحمله من المسؤولية وما يترقبه من الجزاء، ولعل هذا هو الذي عناه الله تعالى بقوله: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ». إن إرادة التغيير في لبنان ينبغي أن تبدأ من هذا المنطلق الروحي الأخلاقي في أوسع معانيه، لتشمل لبنان في جميع مقومات وجوده، وأساليب بنائه، ودواعي إستمراره. وإذا كانت المساواة في الإعتبار البشري هي إحدى ظواهر أخلاقنا الاجتماعية السياسية التي تتمسك بها، فإن مبدأ الشورى هم من أسمى جوانب هذه المساواة بالذات. هذا المبدأ الذي قام الحكم في الإسلام على أساسه التزاماً بقوله تعالى «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ». ويسعدنا من خلال هذا التأكيد أن نحيي باردة صاحب الفخامة في الإلتزام الكريم بهذا المبدأ، كما نحيي بتقدير كلي، كل باردة تصدر عن فخامته في المستقبل في هذا السبيل. ذلك أننا نعتقد أن تطبيق هذا المبدأ، على أساس من المشاركة الشاملة في سياسة الحكم، من شأنه أن ينقل مفهوم الوحدة الوطنية من مرحلة الشعارات الصوتية الى مرحلة الممارسة المسؤولة. وإذا كانت أخلاق الإسلام توجب علينا تركيز دعائم الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والإخوة الوطنية في لبنان، فإن هذه الأخلاق نفسها توجب علينا الالتزام بهذا الواجب بالنسبة لمجموعتنا العربية. وإن مبادئ هذه الأخلاق تدعونا بإلحاح بل وتستحث ضمائرنا بشدة، للتمسك بأسباب التسامي عن دواعي الفرقة والانقسام بين أبناء العائلة الواحدة. إننا ونحن نمر في أخطر تجربة مصيرية نعاني من آلامها اليوم، ينبغي ان نعي تمام الوعي ان الاختلاف العربي في الاجتهاد لا يجوز أن يأتي لأي سبب كان على حساب المبدأ وسلامته. بل ينبغي بالضرورة أن يأتي دائماً لصالحه وتدعيمه. وفي قضيتنا العربية اليوم مبدآن ينبغي ان تتحول مختلف الاجتهادات العربية لصالحهما وسلامتهما بالضرورة. أولهما: مبدأ الإخوة العربية، الذي يشكل الإتحاد العربي الثلاثي اليوم نواته الأصلية. والثاني: مبدأ الإصرار على الحق الفلسطيني كاملاً وأوله حق النضال الذي تشكل المقاومة الفلسطينية المسلحة جبهته المتقدمة. وإنطلاقاً من هذين المبدأين نرى أن أية ممارسة سياسية في سبيل حل القضية الفلسطينية لا تأخذ بعين الإعتبار والمسؤولية هذين الأمرين، مكتوب لها الفشل الذريع، الذي سوف ينعكس أثره المخيف لا على المنطقة وحدها، وإنما على العالم بأسره. وبعد، أيها السادة، فإن المجتمع الدولي يعيش اليوم بالرغم من تقدمه، في ازمة أخلاق سياسية وإجتماعية تنذر بخطر شديد، فلقد غرب عن بال الغرب أن العلم والأخلاق وجهان متلازمان بالضرورة للبناء الحضاري، لان العلم بلا أخلاق تحويل لقدرة الإنسان نحو الشر والباطل. والأخلاق بلا علم تحويل لقدرة الإنسان نحو سراب حضاري قائم على الفقر والعجز. لقد كانت مأساة بناة الغرب فيما مضى أنهم أخذوا من علومنا وتركوا أخلاقنا، فجاءت حضارتهم اليوم مهددة بغلبة الشر وطغيان الباطل وها هي مأساتنا اليوم تعبر عن انعكاس الآية: إذ أخذنا من أخلاقهم وتجاهلنا علومهم فوقعنا فيما نحن واقعون فيه من تخلف وعجز وضياع! إن الأمل بالله كبير، وإننا لا نزال ننتظر منه المعجزة، تلك المعجزة التي ننتظرها اليوم في عقول البشر، وتتحرك في ضمائرهم، وتتفجر من سواعدهم. إن المعجزة التي نتطلع إليها، تكمن في أن تعي البشرية اليوم حقيقة ذاتها. وإنها قادرة على فعل أي شيء إذا إستطاعت أن تجمع بين العلم والأخلاق. إن رسالة العرب في هذا السبيل رسالة شاقة والطريق امامهم وعر طويل ولكنه الطريق الوحيد على ما نرى، وللبنان العزيز في ذلك الدور الكبير بما نقل أخلاق الشرق للغرب ونقل علوم الغرب الى الشرق على أيدي بني لبنان، فلعل الخير والسعادة وعناية الله تشمل الجميع. أيها السادة، لقد قال صاحب الذكرى محمد بن عبد الله صلوات الله عليه: (صنفان إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسدوا: العلماء والأمراء). وفي هذا الحديث الشريف دعوة صريحة لتعاون السلطة الروحية مع السلطة الزمنية، على أساس من الإدراك والوعي الكامل لأوليات هذا التعاون. ومن أوليات هذا التعاون قيامه على بديهية أخلاقية واضحة أساسها التمييز بين تدين السياسة من ناحية وتسييس الدين من ناحية أخرى، والجانب الاول من هذه البديهية هو تحرير للعقل السياسي ليتمكن من إكتشاف معاني الحق والخير والمحبة، أما الجانب الثاني من هذه البديهية فهو تسخير العقل الديني لمنزلقات الصراع في سبيل المصالح والنفوذ. إن هذا اللقاء المبارك اليوم ليؤكد وعي الجميع ولله الحمد، كما يؤكد حرصهم على التمسك بمبدأ تدين السياسة، الذي على أساسه تفتح القلوب، ونهيئ السواعد ونجند الطاقات، لتكون جهداً متواضعاً، يسهم على قدر المستطاع في بناء لبنان المستقبل. وفقكم الله، وأعاد عليكم هذه الذكرى الكريمة وأمتنا في أحسن حال، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |