الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لهن واشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله بعثه الله بالهدى للناس على فترة من الرسل ليخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم صراطاً مستقيما... أما بعد، فإن الصبيحة التي نشهدها اليوم هي بفضل الله من الصباحات المباركات لأنها تشهد مئات ألوف المؤمنين الحجيج إلى بيت الله الحرام، وقد أفاضوا من عرفات يذكرون الله عند المشعر الحرام مهللين مكبرين بقلوب واجفة وأبصار خاشعة ونفوس منكره ضارعة منتشرين في سفوح منى وعلى سفوح روابيها وذراها يسعون لرمي الجمرات طامعين بعفو الله وغفرانه ورحمته ورضوانه. إنها صبيحة ما أروعها وأجلها تجللها سحائب الرحمة وتحفها الملائكة وتتخللها نسائم الود والمحبة والسلام وتغمرها فيوض السماحة والعطاء وتجوب آفاقها أنوار ما زالت قلوب الملايين متشوقة إلى الفوز بها لتغسل ما ألمّ بها من درن الإثم وعلق بها من آثار الذنوب والمعاصي. ولعل من أبرز ما تتذكره القلوب في مثل هذا المقام استجابة إبراهيم عليه السلام لأمر ربه بذبح ابنه إسماعيل، ثم اجتهادهما برفع القواعد من البيت وهما يدعوان الله تعالى ويقولان: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم» وذلك ليسجلا إذ ذاك أن أعظم الربح والفوز للعبد السعيد أن يخلص في عمله وأن يتقبله الله ويرضاه ولا يهم بعد ذلك ما قد يلقاه من عنت أو يصيبه من نصب، أو يواجهه من خسارة أو حرمان، ويذكرنا هذا بمقالة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه ربه ومناجاته، يوم أغرى سادات الطائف به الصبيان فرموه بالحجارة حتى أدموه وآذوه: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكنلي؟ إلى بعيد يتجهمني أم على عدو ملّكته أمري إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك». وكأن مثل هذا الفهم والسلوك من الرسول الكريم، ينبغي أن يكون لنا درساً بليغاً نعي معه حقيقة شأننا الدنيوي وندرك ظاهره وباطنه، ونعلم أن الفلاح كل الفلاح في مدى عمرنا القصير مهما طال ليس بالانشغال بعرض الدنيا وزينتها من مال وبنين وزوج وجاه وسلطان فهذه كلها لا يجوز أن تكون لدى الإنسان الحكيم غاية لذاتها، بل وسيلة إلى غاية وسيلةً إلى طاعة الله إلى عمل صالح، إلى جهادٍ باطل ومكافحة شر أو فساد، على مزيد من العطاء يرفع صاحبه درجة عند الله أو ينيله رضى وقبولاً لديه... ومن أجل هذا نجد لدى مراجعة سير الأنبياء والمرسلين وتواريخ عظماء البشر من المفكرين والقادة والمصلحين إنهم تفانوا في التضحية والإيثار وتقديم الخدمات للناس لا يسألونهم عليها جزاء أو شكروا واستبسلوا في نكران الذات والتجرد عن الأهواء ومحاب النفس ورغائبها فعلوا ذلك عن معرفة وفتوح انكشفا لهم فلم يعطوا الحياة الدنيا أكثر مما تستحق وسابقوا في ميادين الشرف وساحات التنافس المثمر فبروا كل قرين، وأمثلة ذلك كثير ويكفي في هذا المقام أن نذّكر بما نبه الله تعالى إليه المؤمنين في كتابه المنزل على رسوله توضيحاً أو تلميحاً كقوله: «وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ، وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ، وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ» وقوله: «وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» أيها المسلمون، إذا كان الأنبياء والمرسلون والقادة والمصلحون السابقون قد تجردوا عن الأهواء ومحاب النفس واستعذبوا المشاق بل الآلام في سبيل تثبيت الفضائل والقيم وتعزيز الحق والعدل والخير في المجتمعات للفوز بمرضاة الله، فإن المطلوب في هذا الزمن من الناس عامتهم وخاصتهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم وأقوامهم وأوطانهم الشر والضرر والفساد ويرفعوا عنهم سيف الظلم والقهر ويعملوا مجتمعين فيما يحفظ لهم كرامتهم ويذود عن مصالحهم ويرد لهم اعتبارهم ويكشف عنهم الذل والهوان. ونحن هنا في لبنان بعد العذاب الشديد الذي ما زلنا نعاني منه منذ أربعة عشر عاماً ونتجرع كؤوسه في كل بيت وناد، في مجالات العمل والسعي وراء الرزق في كسبنا وأولادنا في مؤسساتنا من كل لون حريون اليوم بأن نبادر إلى العمل الجاد بكل الإمكانات المتوفرة لدينا أدبياً أو مادياً مجردين من مصالحنا وأهوائنا لخلق أحسن مناخات في الأيام القليلة القادمة لتمكين الاستحقاق الرئاسي من أن يمر بسلام ، مفوتين الفرص على المفسدين والمخربين وهواة اللعب بالنار على حساب الآخرين لاختيار رئيس وفاقي صاحب قلب رحيم وفكر حكيم رئيس يرى عهده في لبنان الوطن العربي همّه الأوحد ليجتهد في إنقاذه من أزمته وإراحته من همومه وأشجانه نعم لاختيار رئيس يحمل آلام كل اللبنانيين في قلبه ، ويعرف آمالهم ومطاليبهم ووسائل علاج وضعهم يأتي عهده وليساعدهم لترسيخ مبادئ الوفاق على أسس من العدالة والمساواة وتحقيق الإصلاحات الدستورية وليضع حداً لأسباب الانفلات الأمني الذي تسبب بالغلاء وانخفاض القيمة الشرائية لليرة اللبنانية والذي أضاع هيبة السلطة وفتح الباب على مصراعيه للمخربين الذين استباحوا الحرمات وتاجروا حتى بأموال الآخرين ومصالحهم وأرواحهم وأشاعوا الرعب والخوف في كل مكان ، كل ذلك لينقلنا إلى أجواء التعايش الوطني الآمن المطمئن في ظل شرعية عادلة وسيادة شاملة راشدة تحمي الحقوق والأعراض وتصون الحريات والكرامات. أيها اللبنانيون، إن ساحة الشرف هي مقامات مقاتلة العدو الصهيوني وعملائه سواء داخل الأرض العربية المحتلة في لبنان أو في غيره أو داخل فلسطين وليست ساحة الشرف في شوارع المدن والقرى الآمنة وتحديداً في المخيمات الفلسطينية أو أي جزء من الوطن العربي والإسلامي. وقد آن لنا أن نكشف ما يجب الرؤية الصحيحة عن أبصارنا ونقبل صفاً واحداً وموقفاً واحداً نجمع جهودنا وقوانا وندعم قرانا الصامدة في الجنوب وفي الشريط الحدودي أبناء العرقوب أولئك الذين ما يزالون يلقون أشد العنت ويجابهون بصبر وجلد أغنى صروف الظلم والتعسف حتى نفوز بإخراج إسرائيل من أرضنا ، ونضع حداً نهائياً لتقاتل الأخوة وأبناء القضية الواحدة في المخيمات وسواها ليوفروا سلامهم وأموالهم وقواهم لليوم العصيب الذي بدأ أبناء الانتفاضة يشقون لهم الطريق إليه، وما هو عنهم ببعيد، ويحضرونهم فيه لأخطر الاستحقاقات وأعظم الخيارات ذلك لأنهم بتقاتلهم على أرض المخيمات لا يهدرون قدراتهم وكراماتهم ويسفكون دماءهم دونما طائل ويرجعون بغضب الله والناس، بل لأنهم يمثلون من حيث لا يدرون دور المدمر لقضيتهم التي يتفانون من أجلها ولحركة الانتفاضة المجيدة التي باتت ترعب إسرائيل على أرض فلسطين وتفتح لهم آفاق المجد والشرف والنصر والعز وينقلبون عامل تدمير على الناس وعلى القضية وعلى كل العاملين من أجلها. أنا ونحن نشجب هذا النوع من التقاتل لا يجوز لنا أن نهيب بقادة الدول العربية والإسلامية أن يبادروا بالتعاون مع سوريا إلى بذل مزيد من السعي والجهد المخلصين لمنع تجدد هذه الفتنة في المخيمات، وللعمل على توحيد القوى والبندقية في إطار إستراتيجية التصدي العربي لإطماع إسرائيل ومخططاتها، كما نهيب بالقادة المسلمين والعرب بمضاعفة مساعداتهم ودعمهم للانتفاضة المباركة التي تكتب بدماء الفتيان والشيوخ والنساء والأطفال تاريخاً رائعاً لأمتنا ومجداً جديداً من أمجادها في ميادين الكرامة والشرف. هذا وإننا لا ننسى بهذه المناسبة أن نذكر بالتقدير والثناء الكبير الخطوة الرائعة التي قامت بها الجزائر مع شقيقاتها المغربيات نحو إقامة إتحاد مغاربي جديد تجتمع فيه كلمتهم وتلتقي مواقفهم ويكونون صفاً واحداً في مواجهة مختلف التحديات المصيرية المعاصرة آملين أن تتجه قلوب الأخوة القادة العرب في المناطق المختلفة الأخرى إلى مبادرة سريعة شبيهة بهذه المبادرة ومن بعدها إلى مبادرة شاملة تجمع الجميع في مظلة الإتحاد الكبير الذي سيكون بإذن الله المنطلق الحديث لانبعاث الأمة من المحيط على الخليج، انبعاثاً جديداً يحقق أمانيها ويعزز مكانتها ومهابتها بين الأمم. أيها المسلمون، يطل علينا هذه العيد المبارك لأول مرة منذ ثمانية أعوام وقد تعززت الآمال برقت سفك دماء المسلمين في منطقة الخليج العربي بعد أن وافقت إيران على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 الذي ينص على وقف إطلاق النار وإنها لمناسبة نرجو الله تعالى أن يجعلها قاعدة لانطلاق موكب التضامن الإسلامي من أجل مواجهة مختلف التحديات المعاصرة وبخاصة مواجهة العدو الصهيوني الذي يسيء إلى مقدساتنا ويحتل أرضنا وينتهك حرماتنا ون جميع قادة الدول الإسلامية وحكوماتها في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي وخارجها مدعوون إلى التحرك بسرعة وجد لتوظيف هذا التطور الإيجابي الهام ووضع حد نهائي وحاسم لسفك دماء المسلمين واستنزاف قدراتهم ولتنفيذ إستراتيجية إسلامية موحدة لتحرير القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين والله تعالى يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ». أيها المسلمون، لا يسعنا في هذه الصبيحة التي يلتقي فيها مئات الألوف من إخواننا المؤمنين على عبادة الله في مكة وما حولها أن ننسى ما تقدمه المملكة العربية السعودية من جهود مباركة وما تبذله من سهر عظيم لتوفير كل أسباب الراحة وتأمين كل المرافق الضرورية بيتمكن الحجيج من تأدية فريضة الحج في الأرض المقدسة وفي رحابها من طمأنينة وأمن وسلامك وليعودوا من بعد إلى ديارهم وقد فازوا بحج مبرور وسعي مشكور. هذا وإنكم تعلمون أن إخوانكم أتوا من كل فج عميق على متون الطائرات والبواخر والسفن وفي السيارات وعلى ظهور الدواب وسعياً على لأقدام، وتركوا وراءهم كل ما جمعوه من حطام الدنيا ومكاسبها، تركوا الأبناء والأزواج والأموال والأعمال لا يلوون على شيء، ساعين إلى وقفة تضرع وذلة وانكسار بين يدي الكبير المتعالي يردّد بصوت واحد: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك». وإن هذه الوقفة وهذه الكلمات لينبغي أن تعيدنا على الحق والصواب وتردانا إلى وعينا وضمائرنا في لبنان وفي كل مكان من عالم العروبة والإسلام، وتفتحا لنا الطريق السوي على الأمان والسلام والعزة، طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، طريق العاملين المخلصين الذين باعوا أنفسهم لله، لترسيخ القيم والفضائل التي تعلي قدر الإنسان وتصلح المجتمعات فذكرهم الله وأعانهم وثبت أقدامهم ونصرهم وأعز بهم الحق وأقوامهم. يقول الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» أيها المسلمون، تقبل الله منكم عبادتكم وطاعاتكم وجعل عيدكم مباركاً وميموناً ، وحقق لكم آمالكم بالاستقرار والطمأنينة والسلام. |