النفوس المؤمنة تشعر بدفء العبادة
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الرسول الأمين وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين. أيها المسلمون، يطل علينا شهر رمضان الكريم، بروحانيته وصفائه، وخيره ونعمائه، لأنه شهر القرآن الذي أنزله الله هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان، وان النفوس الصادقة المؤمنة لتترقب بشوق هذا الشهر المبارك، لتنعم بدفء العبادة، وتحظى بأصل السعادة، التي لا تتأتى إلا لمن اتقى ربه، فيما نهى عنه أو أمر به، من بعد عن الهوى، وتمسك بالعقل، ونفاذ بالبصيرة إلى حقيقة المعنى من هذا الوجود، ووصول بالقلب على شرف الغاية من مسألة الخلق.
«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».
إلا إن العبادة أيها الأبناء لا يمكن أن تتوقف عند التأمل، و تكتفي بالدهشة، أو تكتمل بمجرد الإعجاب بما خلق الله وصور من نفوس وعوالم وأفلاك، إنما العبادة الحق هي أن يتخطى الإنسان فيها كل ذلك، بما ينسجم معه، من عمل يتحرك في المكان بما بنفع الناس، ويمكث في الأرض، ويظل البشر أجمعين في ظل من العدل والرضا والرحمة. وإنها ظاهرة خطيرة تلك التي نلاحظها في أغلب المجتمعات المؤمنة، وهي ظاهرة الانفصال بين الإيمان والعمل، ترى إنساناً يعبر لك بلسانه عما يعتلج في صدره من حرارة الإيمان بالله، وينفعل ويثور، ويدافع وتعصب، ويسخط ويتبرم بما يحيط به من شر وفساد، وما يتهدد مجتمعه من انحراف وتقهقر، ويظل كذلك، حتى إذا ما جاء دور العمل، وتبين ما يطلب منه من واجب، أحجم وتردد، واستثقل أن يضيء شمعة في ظلمة الليل، واستكثر أن يدافع لقمة في فم جائع، واستكبر عن أي يزيح عائقاً من درب مظلوم. ومن أخطر الأمور في عالمنا أن تشمل هذه الظاهرة المجتمعات والدول، ترى أكثر الدول تعلن على العالم أنها تؤمن بالله، تتمسك بقيم السماء لكنها تؤلب الشعوب وتخوض الحروب، وعندما تواجه موقفاً تفرضه العدالة، تتهرب منه، بل وتتألب عليه لتحقق مصالحها وتمد سيطرتها على حساب المضطهدين والمعذبين في الأرض. عن الإسلام أيها الأخوة المؤمنون لا يفصل بين الإيمان والعمل، بل هو يقرر بحزم، لأن لا إيمان لمن لا عمل له ن فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً خرجوا من الدنيا لا حسنة لهم وقالوا نحسن الظن بالله ن وكذبوا على الله، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل» أو كما قال. فالمسلم المسلم هو من آمن بأركان الإسلام وعمل بها بصدق وإخلاص وتبصر، وأنها لفرصة للمسلم المؤمن أن يمد الله في عمره عاماً في أثر عام، يطل فيه على مناسبات للعابدة كريمة، يستظل فيها الطاعة، وينعم بالرضا، ويسعد بالمحبة، ورمضان المبارك هو فرصة أخرى من كرم الله ن يشرع اليوم أبوابها أمام قلوبنا وبصائرنا، ويدعونا فيها إلى تصديق الإيمان بالعمل. وما أكثر مجالات عمل الخير في رمضان الكريم. وإنه مما يكثر من هذه المجالات، ويستحثنا على عمل الخير، ما نراه بيننا من تفاوت كبير في أسباب الرزق، ومن سمه من عوز لدى الكثيرين، وما نعلمه من أخطار تهدد أوضاع بعض مؤسسات الخير. إن الزكاة أيها البناء المؤمنون، هي خير عمل فرضه الله علينا، بها تزكو النفس من عفن الأنانية، ويتطهر القلب من شوائب الأثرة، ويصفو المجتمع من الإضغان والأحقاد. قال تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا» وإني لأتوجه مخلصاً بهذا التذكير للأبناء المؤمنين الأغنياء بوجه خاص، الذين يخافون بعضاً من المبادئ والنظم التي تهدد أموالهم، وتهز أرزاقهم، وتخص مكاسبهم، فنراهم يتمسكون بنظام هذا البلد، ويدافعون عنه، لأنه يوفر لهم الحماية، ويحيطهم بالرعاية، بالشكل الذي يرغبون فيه ويتمنون. إلى هؤلاء أقول إن هذه المبادئ التي منها تخافون على ما تخافون عليه، لن ترتفع على أرضنا الطيبة ان لم تجد تربة خصبة، منها تتغذى وعليها تعيش ن وليست تربة هذه المبادئ سوى إمساك الغني عن العطاء، وغفلته عن البلاء، وانصرافه إلى ذاته من دون الآخرين. انه يبدو لنا أن مثل هذا الغني يريد من نظامنا اللبناني أن يكون غطاء لأنانيته أبداً، إن أحداً لا يقبل بأي حال أن يظل النظام الذي نرتضيه قناعاً جميلاً لوجوه بشعة، وأنانيات متحجرة، تكون سبباً في جر الويلات والمغارم على نفسها، وعلى هذا البلد المطمئن الآمن. فلا تكونوا أيها الأغنياء هذه التربة التي تخافون من نبتها البرى، ولا تدافعوا بأنفسكم إلى ما تحرصون على أن لا يدفع بكم غيركم إليه. وأعلموا أن الزكاة فريضة من الله تبارك وتعالى، فرضها الله على عباده المسلمين في إطار نظامنا الإسلامي الأمثل بهما يتماسك المجتمع، وتنتشر المحبة بين الأفراد، ويتحقق الكفاية لدى جميع الناس. إننا نصل حقيقة على هذا المستوى، إذا نحن دفعنا الزكاة بصدق، والتزمنا بها بعناية، وتابعناها باستمرار وتنظيم. ان المسلمين وهم طائفة رئيسية في لبنان، ينبغي أن يعوا، وهم يعلمون على تدعيمهن هذه الحقيقة الإسلامية الاجتماعية تمام الوعي، ويعلموا بها أفضل العمل، ويتخطوا دائرة المنافع الشخصية والمغانم الفردية ن إلى مصلحة المجموع الإسلامي، وبذلك يصبح المسلمون الطائفة القدوة في الالتزام بمبادئ الدين من هذا المفهوم نعلن أننا نريد للبنان العزيز طوائف ملتزمة تتعايش فيما بينها بروح الإيمان لا بروح المنافع والمكاسب. أجل: إننا نريد تعايش الالتزام ونرفض تعايش المنفعة، ذلك أننا إذا كنا نرضى لهذا البلد أن يكون مجالاً طيباً لتعايش الطوائف، بما يتمسك به من محبة للخير، فإننا لا نرضى بأية صورة أن يتحول هذا التعايش، كما نرى، على تعايش بين المنتفعين بما يسعون إليه من مكاسب ومغانم، باسم هذه الطوائف وحقوقها وشعاراتها وامتيازاتها. فلنتجرد عن كل ذلك، ولنخلص لله العمل، وليكن لرمضان الكريم في نفوسنا منزلة تليق بتقديرنا لمعانيه، ولتدخل بهجته على كل بيت، ولتشمل بركته كل مؤمن.
وإني لأتوجه إلى جميع المسلمين بأن يحتفلوا ما استطاعوا بقدوم هذا الشهر، وإحياء لياليه، بما يدخل الأنس بالله إلى القلوب، ويخلق السرور بالطاعة لرب العالمين، خصوصاً بالنسبة لأطفالنا الصغار، لترسيخ العادات الإسلامية في تصرفاتهم، وزرع الأخلاق الإسلامية في صدورهم، فإن هؤلاء هم عدة المستقبل، ومعقد الرجاء، في عصر بات الاستهتار بالقيم مسيطراً فيه على كل شيء، وطغت المادة فيه على كل تفكير، ودخل الإلحاد فيه إلى كل مجتمع. إن إعداد أطفالنا وشبابنا وليتسلحوا بأخلاق الإسلام إلى جانب العلم ، سيؤهلهم ليكونوا درع لبنان الحقيقي في وجه إسرائيل المعتدية فإن أخطر ما يتهدد مجتمعاتنا في عصرنا الراهن هي إسرائيل بأعمالها العدوانية، وأطماعها التوسعية، التي تتأكد عملياً يوماً بعد آخر، فتنتهك حرمة أرضنا في الجنوب وتشرد شعبنا، وتوقع بجيشنا الخسائر، والجيش يصمد ويضحي بشرف وبطولة. عن قلوبنا وأصواتنا وأيدينا، ينبغي، أن تكون مع أبنائنا هناك، وإن أي صوت أو جهد ناشز إنما يخدم مصلحة العدو وأهدافه. إننا نفهم رسالة المواطن المسؤول على أنها مساندة واعية لمسؤولية الحكام، ومعايشة مخلصة لمشاكل الشعب، وإخلاص غير محدود لتراب الوطن، لا سيما في ظرف تكون فيه البلاد بحاجة ماسة على مثل هذا العطاء والواجب، فليحم الله لبنان جيشاً وشعباً ومسؤولين، وليعوض الله على أبناء الجنوب الصامدين البررة، وليهدد الله منا من يزل أو يضل إنه هو السميع القدير. أيها المسلمون، إن خير ما نستقبل به رمضان، هو التخلق بأخلاق القرآن الذي أنزل فيه، وإن خير ما نودع به رمضان هو الالتزام بالبقاء ما بدأنا رمضان به، وفقكم الله، وجعله شهراً مباركاً على الجميع، أعاده الله على العرب والمسلمين وهم على خير مما هم عليه، من نصر وسؤدد واطمئنان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |