المسلمون أسهموا في صنع كرامة لبنان بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد بن عبد الله ،الذي اصطفاه الله، وأرسله بالهدى ودين الحقن فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وزرع الرحمة في قلوب البشر، وصلاة الله وسلامه على من صدق قول الله فيه: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا» وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ». فالحمد لله على نعمائه المتوجة بنعمة الإسلام، المزينة بروائع القرآن، الداعية إلى عبادة الله الواحد القهار، لا لحاجة منه وهو الغني، بل لحاجة من الإنسان وهو الفقير، بهذه النعمة الكبرى يصلح الإنسان أمور دنياه، ويهذب روحه بإشراقات الحق ويتدبر شؤون آخرته بأسباب التقوى، وهكذا فإن الطاعة حاجة إنسانية يرتد خيرها على حياة الإنسان ذاته، وتعمّ بركاتها جوانب نفسه، إن الطاعة التزام هداية في طريق النور واختيار تلقائي لحقيقة الحياة، ينعكس جناه الخيّر على ذات المطيع، هناءه وبركة ونعمة: «الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» صدق الله العظيم. أيها الأخوة المؤمنون، إن عيد الأضحى المبارك هو خير ما يمكن أن نتذكر فيه جمال الطاعة، أو ليست الطاعة قد بلغت ذروتها في امتثال إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، لأمر الله الخطير الذي اخبر عنه المولى تعالى بقوله: «قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» ألم يجز الله تبارك وتعالى هذه الطاعة بخير الجزاء، عندما فدى إسماعيل بذبح عظيم... بلى، لأنه جل شأنه هو القائل: «إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ». إن هذا المخرج الذي منّ به الله تعالى على إبراهيم وإسماعيل لم يعد ملكاً لهما، بل، لأنه رمز لاستجابة الله لصدق الطاعة، وعنوان للتقدير العلوي لطهر القوى: فقد، أصبح ملكاً للإنسانية بأسرها ن تنهل من قيمة، وتتزود من معانية، التي تصر على أن قيمة الإنسان هي العليا بين هذه الكائنات. إن الإنسان العصر أصبح يعاني من أزمات خطيرة هي وليدة الأهواء والأنانيات التي منا تتولد الشرور والآثام، فتحرك فيه نوازع العدوان علي قيم الإنسان. لذلك فإن تذكرنا لهذا المخرج الإلهي، إنما يأتي في عصرنا تأكيداً على قيمة الإنسان، وإشارة إلى أنه لا يجوز في أي حال من الأحوال أن يكون الإنسان هو الضحية، فالحلول كثيرة والمخارج متنوعة وباب الله مفتوح، ورحمته وسعت كل شيء. فما على الإنسان إلا التجرد عن الهوى، والبعد عن الكبرياء، والتمسك بالحق، وخشية الله في السر والعلن قال تعالى: « وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا». أيها الأخوة المؤمنون، إن عالمنا اليوم مشحون بالأزمات الإنسانية ، ويتجه البشر في عكس الاتجاه الذي يفرض أن يسيروا فيه، فبدلاً من أن يبحثوا عن الحلول التي تحفظ للإنسان كرامته، وترفع مكانته وتخفف عنه المحن والآلام، فإنهم أصبحوا يضحون به، في سبيل تحقيق مزيد من مكاسب الدنيا ويهدرون قيم الإنسان ومبادئه على نصب المصالح والأهواء. والغريب أن القدوة السيئة في ذلك أصبحت تأتي غالباً ممن توفر له القدوة على ان يكون قدوة للخير، وأن القدوة الحسنة أصبحت تأتي من الذين يفتقرون إلى العطاء. بهذا المعنى أصبحت الدولة الأقوى هي الأكثر ظلماً بني البشر، وأشد عدواناً على حرياتهم وحقوقهم وكراماتهم، وأصبحت الدولة الأضعف هي الدولة الأكثر تقديراً لمثل الإنسانية، ولقيم العدالة، ومفاهيم الإخاء بين البشر. في هذا التقابل العجيب تبرز الدول الإفريقية اليوم عقب المساعي الخيرة التي قام بها القادة العرب والمسلمون، وفي مقدمتهم جلالة الملك فيصل، وسيادة الرئيس معمر القذافي، وفي هذا التقابل تبرز الدول الإفريقية كأضعف الدول حقاً، ولكن في الوقت نفسه كأشرف ما تكون عليه صورة الدول المتمسكة بقيم الإنسان، أما الطرف الآخر، من هذا التقابل، فإن بعض الدول الكبرى تطل اليوم على العالم كأقوى الدول حقاً ولكن كأبشع ما تكون عليه صورة الظلم والعدوان. إن هذه الوقفة المشرفة من الدول الإفريقية التي قطعت مؤخراً علاقاتها مع إسرائيل المعتدية، إنما تشكل في الوقت نفسه صرخة احتجاج مرتفعة تطلقها في وجه الدول الكبرى الواقفة خلف إسرائيل، لتوقظ ضميرها، وتنبهها إلى خطورة ما تمارسه من ظلم وعدوان، ليس في شرقنا العربي فحسب، وإنما في الشرق الأقصى من هذا العالم كذلك. أيها الإخوة المسلمون، إن عيد الأضحى المبارك ينبغي أن يوحي لنا بتقديم المزيد من التضحيات للدفاع عن ديننا وأرضنا وشعبنا وحقنا في الحياة، في هذا العيد المبارك يلتقي مئات الآلاف من المسلمين عل الأرض المقدسة ليكبروا ويذكروا اسم الله، ويشهدوا كما قال تعالى منافع لهم. فلتكن لنا أيها المسلمون رؤية جديدة في ما ينبغي أن نشهد من منافع للمسلمين، ولتكن تعبئة الطاقات البشرية والمادية أول هذه المنافع التي نشهدها من أي اجتماع يكون لنا، حتى على أرضنا المقدسة لنوظف هذه الإمكانات في خدمة أمتنا وديننا وأرضنا، وندفع بها عدوان المعتدين وظلم الظالمين. لقد هزت أعماقنا التضحيات التي قدمتها سورية العزيزة في الأيام الأخيرة وهي ترد العدوان، ولقد أخذتنا العزة لما أظهره رجالها من بطولات في مصاولة العدو. إلا أن وقوفنا عند حدود هذا التأثر يؤكد بألم أننا ما زلنا بعد دون مستوى المعركة، لأن المشاعر ما كانت يوماً بقادرة على إنقاذ مصاب، ولا كانت البيانات كافية ساعة لرد عدوان. إن الموقف يقتضي منا ترجمة العواطف النبيلة إلى سلاح يدفع الأذى، كما يقتضي منا تحويل الكلمات الجميلة على مداميك صلبة ترتفع بها جدران المصانع. إننا لا يمكن أن نفهم إلا أن تكون الإمكانات العربية والإسلامية على سعتها قادرة على تحقيق النصر على الأعداء، إذا نحن وظفناها كلها من أجل المعركة. وإننا لعلى يقين من أن القيادات العربية المؤمنة خليقة بأن تعمل على التغيير، فتنقلنا من حالة القلق والانتظار إلى مرحلة البناء والانتصار. ولبنان اليوم أيها المؤمنون مطالب كغيره من الدول العربية بأن يكون في مستوى المعركة التي ليست في نظرنا مع العدو فحسب، بل هي أيضاً مع الذات. إن من أولى ضرورات المعركة في لبنان، النضال من أجل كرامة المواطن، ومن أجل المساواة بين المواطنين، ذلك أننا لا نستطيع أن نكسب المعركة مع العدو إلا إذا كسبناها مع أنفسنا أولاً، بإشاعة العدالة بين الناس، وتطهير الصفوف من عناصر الاستغلال وتنقية الحياة الاجتماعية والخلقية من أسباب الفساد. إن المسلمين، أيها البناء، كانوا على امتداد تاريخ هذا البلد يعملون بصدق على تحقيق العدالة في لبنان، التزاماً منهم بسماحة الإسلام وتمسكاً منهم بتعاليم القرآن بل كانوا فوق ذلك وقبل ذلك لا يترددون لحظة في تقديم أجل التضحيات لتراب هذا الوطن، ونحن هنا لسنا نريد أن نمنّ في موقف الالتزام بالواجب، إنما نريد أن نؤكد عزمنا على الاستمرار في هذا الطريق، بما يكفل للشعب وحدته ، وللوطن سلامته، وللبلاد استقرارها وازدهارها. إلا أن المسلمين، أيها الأحبة المواطنون، أصبح يعز عليهم وهم يقدمون كل مرة ما يقدمون من تضحيات على صعيد الحقوق، وعلى صعيد المناصب، أصبح يعزّ عليهم أن تمتد هذه التضحيات إلى صعيد الكرامة الإسلامية، إننا نقولها صراحة: إن المسلمين الذين استطاعوا أن يسهموا في صناعة كرامة لبنان قادرون أيضاً على صنع كرامتهم بأنفسهم. إننا عندما طالبنا باعتبار يوم الجمعة عيداً رسمياً في لبنان، لم نرد كما توهم البعض أن نهدم مدماكاً من مداميكه، بل إننا أردنا أن نضع في بناء لبنان مدماكاً آخر جوهره الإيمان، والأخلاق، والمحبة. إننا عندما طالبنا باعتبار يوم الجمعة عيداً رسمياً في لبنان لم ندع كما كان واضحاً لدى الجميع إلى سلب أي حق من حقوق الآخرين، بل دعونا إلى تكريس حق شرعي من حقوقنا. وإننا لنسائل المترددين في التجارب معنا في هذه الحقوق: متى كان حق المسلم خسارة على المسيحي؟ أو متى كان حق المسيحي خسارة على المسلم؟ اللهم إلا في العهود التي يراد فيها أن تتحكم الطائفية العمياء. وإننا لنجيب، بروح وطنية صادقة، إن أي خسارة تقع على المسيحي في هذا البلد هي خسارة تقع على قلب المسلم، وإن أي خسارة تصيب المسلم في هذا البلد تصيب في الوقت ذاته ضمير المسيحي: لأن كلا منهما جزء من هذا الوطن اللبناني الواحد. وإنها لمناسبة أخرى كريمة تطل علينا لنعيد فيها على مسامع لبنان: إننا بدافع من إخلاصنا لمعاني الوحدة الوطنية في هذا البلد ، نطلب أن يكون يوم الجمعة بكامله عيد المسلمين عيداً للبنان. إننا نعيد هذا القول ، ونتمسك به ، بدافع خالص من إيماننا ، بعيداً عن سوق المزايدات السياسية محذرين الجميع أن أي استغلال سيء لهذا الطلب ، وأي انحراف به عن طريق العقل والهدوء إنما يعرض وحدة هذا البلد التي هي المطلب الأول لدينا على خطر نحرص على دفعه بصدورنا. أيها الأبناء المسلمون، لقد حملنا هذا المطلب إلى جميع المسؤولين في الحكم ، على امتداد الفترة الواقعة بين العيدين، وكان الأخوان الجليلان صاحبا السماحة الشيخ محمد ابو شقرا، والإمام موسى الصدر معنا في الحرص على مطالبة المسؤولين بتكريس هذا العيد رسمياً في لبنان، وقد حدث أن دولة رئيس مجلس الوزراء أكد في لقاءاته معنا التزامه بالوعد الذي قطعه أمام المسلمين بشأن التعطيل يوم الجمعة. وإن اجتماعنا إلى معظم المسؤولين في الحكم أكد أيضاً تجاوبهم مع هذه الفكرة ، إلا أن المسؤولين هؤلاء الذين أعربوا عن ضرورة التجاوب مع هذا المطلب شاءوا أن يبقى التنفيذ إلى وقت أحطنا علماً بأن الظروف لا تسمح لهم بتحديده. إننا ونحن نثق بإخلاصهم، نذكرهم بالعهد الذي قطعوه على نفسهم: «إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً» اللهم أشهد أني قد بلغت، اللهم أشهد أني قد بلغت، اللهم أشهد أني قد بلغت. إلا أن هذا، أيها المؤمنون لا يمكن أن يعني أنني أعفي نفسي لحظة عن الإلحاح الصادق على هذا المطلب وتذكير المسؤولين المحترمين في حدود واجباتنا وصلاحياتنا الإسلامية بما كانوا قد تعهدوا به أمام الله، وأمام رؤساء المذاهب الإسلامية الثلاثة. أيها الأبناء المسلمون، إن إصرارنا على جعل الجمعة عيداً رسمياً في لبنان، ينبع لدينا من اعتبارات وطنية خالصة، لأننا نرى فيه وجهاً من وجوه المقاومة الإيجابية للطائفية العمياء في هذا البلد: ذلك أن الطائفية في مفهومنا تعني هذا التمييز في معاملة الطوائف بتفضيل طائفة على طائفة أخرى لتحقيق غاية غير وطنية بالنتيجة. إن المساواة بين الطوائف هي إذن الخطوة الإيجابية الضرورية، والخطوة الوطنية الأولى للقضاء على الطائفية. إننا نعتقد بصدق أن المساواة في الحقوق والواجبات والفرص لدى الطوائف في لبنان، تأني في طليعة الأسباب التي تزيد في ثراء هذا الوطن، وتساعد على نموه الروحي، وبالتالي تساعد على إمكانية العطاء فيه. إن رسالة لبنان اليوم هي رهن بهذا النمو الإيجابي لحركة الروح. إن رسالة لبنان بهذا المعنى ذات اتجاهين خطيرين: الاتجاه الأول تجاه المقاومةـ والاتجاه الثاني اتجاه بناء.
في الاتجاه الأول: تبدو رسالة لبنان الروحية، قائمة قيما يمكن أن يحمل الحوار الإسلامي المسيحي الحقيقي من معنى المقاومة لوجود إسرائيل باعتبارها الدولة العنصرية الدينية التي ترفع التحدي في وجه الإسلام والمسيحية معاً . وفي الاتجاه الثاني تبدو رسالة لبنان الروحية قائمة فيما يمكن أن يحمل هذا الحوار الديني نفسه من معنى البناء بالنسبة للعالم العربية نفسه، إن أهمية هذه الرسالة تقوم في اعتبارنا على أهمية العمل بزخم هذا اللقاء الروحي الذي على أرضنا، للعودة الإنسان المعاصر إلى ينابيع الحياة الروحية الأصيلة المتفجرة من شرفنا بالذات، ذلك لأننا نلاحظ أن المدنية الغربية قد أصبحت أسيرة لتسلط المادة، وأن الإنسان المعاصر فيها أصبح يدور في دوامة الآلة مبهوراً بوهج الانجازات العلمية الهائلة ، لدرجة أنه لم يعد يستطيع أن يرى أبعاد الحقيقة الروحية وجمالها أمام عينيه. هذه الحقيقة الروحية التي ينبغي أن نحملها إليه قوامها معرفة الله، والالتزام بتعاليمه والدعوة إلى المساواة بين الناس، ونشر المحبة حتى تعمر قلوب البشر، والكشف عن جمال الأخلاق حتى تعمر صدور المؤمنين وينتشر السلام في أقطار الدنيا.
وبعد أيها المسلمون، فإن الأعياد في الإسلام هي مواسم القرب من الله، ونحن عندما نفكر في مشاكلنا ومشاكل الإنسان في كل مكان ثم نتصور لها الحلول على ضوء من قيم الإسلام ومعانيه، نرجو التقرب من الله عز وجل والالتزام بمبادئ كتابه الكريم الذي قال فيه: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ». أعاد الله عليكم هذا العيد، وأعاده على لبنان والعالم أجمع وهو ينعم بمزيد من العدل والخير والسلام. |