الإيمان في عالم اليوم
نيافة الضيف الكريم، أيها الحفل الكريم،
يسعدني في هذه الأمسية الطيبة أن ابداً كلمتي بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله». أبدأ بهذا الحديث الشريف لأن الفضائل الإنسانية السامية في مختلف أبعادها تتجلى فيه بصفاء في ناحيتين. أولهما: تساوي الخلق جميعاً في رعاية الله لهم، وعنايته بهم. وثانيهما: تفاضل الناس بنسبة ما يقدمون من عمل صالح لبيئتهم وبني جنسهم. إن هذا التفاضل وذلك التساوي يشكلان بحق دعامتين في إنسانية الإنسان، الدعامة الأولى لأنها منطلق للإنسانية والثانية لأنها مقياس لها. ولقاؤنا اليوم أيها السادة، ترحيباً بنيافة الكاردينال جان دانيالو في دار الفتوى هو من خلال هذه المعاني الإنسانية التي جاء بها الإسلام في دعامتيها، المنطلق والمقياس معاً. وهل هناك أفضل عند الله من الفكر ننفع به الناس، ونتوسل به لنوجههم إلى ما يفيدهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة على السواء؟ نقول هذ، ونحن نقدر كل التقدير النشاط الفكري الذي حفلت به حياة نيافة الكاردينال وما زالت، من خلال مؤلفاته وعضويته في الأكاديمية الفرنسية، ومن خلال مواقفه الفكرية والإنسانية في مختلف الحقول والمجالات. لهذا أيها السادة، فإننا نغتنم فرصة زيارة نيافة الكاردينال دانيالو للبنان لنؤكد نظراً لما له من امتياز شخصي وروحي، على أفضلية الفكر، وأولوية الإيمان، في عالم أصبح اليوم مأخوذاً ببريق المادة المزيف متناسياً اشراقه الروح الأصلية ، وفضلها في استقرار الإنسان وسكينته.
إن محاضرة «المؤمنون في عالم اليوم» التي ألقاها نيافته هذا المساء، بدعوة من الندوة اللبنانية، ستسهم، كما نتوقع، في تركيز دعائم الإيمان، وما يهدف إليه من معان إنسانية شاملة في مجتمعنا ، هذا المجتمع الذي ينزلق يوماً بعد آخر وراء تيارات الفكر والسلوك الضالة والزائفة. أيها السادة، إن الإيمان في عالم اليوم، بالإضافة لما هو مهدد به، أصبح مهدداَ أيضاً بخطرين رئيسيين:
1. خطر المادية العمياء. 2. وخطر الصهيونية في ما تحمل من استعلاء. الأولى انحدار بحياة الإنسان إلى درك المادة الميتة. والثانية انحراف بقيم الإنسان الى منزلق الاستعلاء اللابس لبوس الدين. وكلاهما ابتعاد بالإنسانية عن طريق الله سبحانه وتعالى، طريق الهداية والنور، طريق الحق والاستقامة. ويبدو لنا ان هذين الخطرين أصبحا في عالم اليوم متحالفين بأنانية محكمة الاغلاق للوقوف في مواجهة الإيمان والمؤمنين بقوة وشراسة. ان مادية المجتع الرأسمالي الظالم، ومادية المجتمع الملحد، والصهيونية المندسة في ثنايا هذه المجتمعات ، تقف كلها معارضة الإيمان والمؤمنين، مواتجهة ما يستلزمه الإيمان من معان إنسانية، تساوي ما بين البشر، وتربطهم بالله عز وجل . ان الإيمان في الإسلام أيها السادة يحرر الإنسان من عبودية المادة، ومن عجرفة الاستعلاء اللابس لبوس الدين، لأنه يحصر العبادة في الله وحده، يسوى بين أصحاب الرسالات السماوية جميعاً، يقول الله في القرآن الكريم: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ». وإذا كان الاكويني قد أكد على أن الإيمان لا يمكن أن يحد بالتعريفات، كما أشار إلى ذلك نيافة الكاردينال دانيالو في مقالة القيم في جريدة لوموند الفرنسية في عددها الصادر بتاريخه 9/1/1974، ومعقباً عليه بأن ذلك لا يمكن أن يعني ان الإيمان يتخطى القدرة العقلية، فإن الإسلام يؤكد، ومن خلال فكر الغزالي بشكل خاص، على أن الإيمان هو القدرة العقلية نفسها لأنه هو بالفعل هذه الغريزة العقلية المؤهلة للإنفتاح على نور الله، وخير الإنسانية، وجمال الكون. وإذا كان الغزالي قد لاحظ أن صبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على اليهود، وان صبيان النصارى لا نشوء لهم إلا على النصرانية، وان صبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام. وإذا تأملنا في هذه الملاحظة المستمدة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه» ادركنا بلا عناء فداحة الخطأ الشائع في احتكار الدين واعتباره ملكاً خاصاً لفئة معينة من المتدينين. ان تصحيح هذا الخطأ يكون على ما نعتقد بقلب مفهوم هذه القضية إلى عكسها لتصبح في ان الإنسان هو ملك للدين، وبعبارة أخرى ان الإنسانية كلها هي ملك لله. وإذا كنا أيها السادة نؤمن بأن الدين عند الله الإسلام فلأن الإسلام، بالإضافة لما يحمله من مبادىء وأسس، لا يفرق بين أحد من رسل الله . ان هذا المبدأ يمكن أن يوضح بحق هذا الاتجاه الواعي الذي حمل لواءه نيافة الكاردينال دانيالو في معارضته المخلصة لوثيقة الأساقفة الشهيرة، حينما أكد على خطورة ما ذهبوا إليه في خلطهم بين الصهيونية واليهودية، وبين المساواة الدينية والاستعلاء اللابس لبوس الدين عند أصحاب نظرية شعب الله المختار في عصرنا الحاضر. ان هذا التوضيح في عالم اليوم ما زال بحاجة إلى حوار ديني واع ومسؤول، بالروح المسيحي نفسه الذي يحمل لواءه ضيفنا الكريم، وبالروح الإسلامي ذاته الذي أمرنا الله تعالى به بقوله: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ». أيها السادة، إذا كان المجتمع اللبناني يتكوينه الروحي الإسلامي والمسيحي أقدر اليوم من غيره على مثل هذا الحوار، فإن المجتمع الفلسطيني الذي تدعو الثورة الفلسطينية اليوم إلى عودته إلى أرض فلسطين التي أغتصبها منه مجتمع الصهاينه، الاستعلائي، سيكون الأقدر في المستقبل على اقامة هذا الحوار، وعلى نطاق أوسع، بين الإسلام والمسيحية واليهودية على حد سواء وبشكل يؤكد تطلعات الإنسانية الهادفة إلى ارساء دعائم السلام بين بني الإنسان. وهنا نستطيع أن نقول: ان الثورة الفلسطينية اليوم تشكل بحق طليعة المسيرة الإنسانية والمستقبلية نحو سلام حقيقي ليس للمنطقة وإنما للعالم بأسره. وإننا في الوقت الذي نعتقد فيه أن ضيفنا الكريم يدرك بقلبه وفكره تمام الإدارك إنسانية هذه الثورة، نرجو من أجل تحقيق قيم العدالة والسلام على هذه الأرض. فأهلاً وسهلاً بضيفنا الكبير، وأهلاً بكم أيها السادة في هذه الدار وتحية منا لكل المؤمنين العاملين في طريق الله، من أجل خير الإنسانية وأمنها وسعادتها. |