معنى المحبة أيها المؤمنون، في هذه الأعياد المباركات، التي توالت على لبنان والعالم، بدءاً بعيد الميلاد المجيد وانتهاء بعيد الأضحى المبارك، نفحات من الخير طيبات، ولمحات من السمو الروحي متصلات، ذلك أن تواصل الأعياد يوحي إلينا، وفي هذا الوقت بالذات بما نفتقر إليه من معاني المحبة التي حملها عيسى رسول السلام وكملها محمد عليه الصلاة والسلام بما نسجه لها من أنظمة، تفيض خيراً وعدلاً وبراً. أيها المؤمنون، لقد خلق الله الإنسان، وأودع في قلبه بذور المحبة لتنمو باتجاه السماء، فإذا بها في قلوب الناس مع الأسف، تضرب باتجاه التراب في أضيق الحدود ولا تتخطاها، وتتوقف عند أولى العتبات ولا تتعداها. وإذا بالمال أو السلطان أو الجاه، وإذا بالولد أو السكن أو التجارة هي الحدود النهائية لمحبة الإنسان، والعتبات القصوى لانشغال قلبه بغير الرحمن. وإذا بدرجات المحبة، ميلاً كانت الدرجة ، أو تعلقاً، أو شغفاً أو هوى، أو حتى عبادة قد ظلت عند هذه الحدود الضيقة، وعند هذه العتبات الدنيا، حتى صدق في الناس هؤلاء قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ...». أيها المؤمنون، يقول عز وجل: «قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. في هذا تحذير خطير تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ومحبته. إن المحبة في الإسلام أيها المؤمنون ، أياً كان موضوعها أماً، أخاً أم زوجاً، أم ولداً أم عشيرة، أم مالاً، أم تجارة أم مسكناً، ينبغي أن تكون غايتها الله عز وجل، أعني وسيلة للدعوة إلى سبيله، والعمل على مرضاته، والسعي لإعلاء كلمته بين الناس. فإذا انقلبت وأصبحت غاية في ذاتها، كحب المال بذاته، وحب الولد لذاته، والتجارة لذاتها، والعلم لذاته والفن لذاته، فإن الإنسان معها يكون سالكاً لغير طريق الله، فلا بركة في ما يجمع، ولا خير في من يلد، ولا بقاء لما يعلي من البنيان، ولا جدوى مما يكشف أو يحصل أو يبدع في ميادين العلم والفن والحياة. إن ذلك هو ما علمنا إياه القرآن، ومن خلال قصة إبراهيم بالذات، صاحب هذا العيد، مع ولده إسماعيل عليهما السلام. فإبراهيم كانت السن قد تقدمت به إلى مرحلة الشيخوخة واليأس من أن يكون له ولد، فلما كان له ما لم يكن ينتظره وولد له إسماعيل عليه السلام، وما كاد قلبه المؤمن يفرح به، حتى أراد سبحانه أن يمتحن حبه له، ولم يكن الامتحان في مال، ولا في تجارة، ولا في مسكن ولا في زوج ، إنما كان امتحان الله لإبراهيم في موضوع حبه الأكبر في هذه الدنيا، في ابنه إسماعيل عليه السلام، زينة حياته، وأنيس بقائه «فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني اذبحك... فانظر ماذا ترى؟... قال يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما اسلما وتله للجبين وناديناه ان يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا انا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين». ويجتاز إبراهيم البلاء الأكبر، مؤكداً على أنه كان من المحسنين، وإن محبة الله في قلبه، كانت خلال طاعته له، أكبر بكثير من محبته ولده. ويقتاد الشيخ فلذة كبده، يريد ذبحه تنفيذاً لأمر الله، فتتدخل رحمة الله الواسعة في اللحظة الأخيرة بعد تثبتها من طاعة إبراهيم، وتمسك بيد الشيخ المحزون، وتكافئة على محبته لله، بفداء كريم مصداقاً لقوله تعالى «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ». إن معنى ذلك أيها المؤمنون أن الإنسان إذا قابل الله سبحانه وتعالى بأقسى محبة في قلبه، فاتبع أوامره، وانتهى عن نواهيه، فإن الله جل شأنه، وهو أكرم الأكرمين، لا يمكن إلا أن يقابل الإنسان بمحبة أكبر، لا تخطر له في بال، ولا يتسع لها قلب، ولا تعرفها جارحة، فيكون معه في كل حال يداً وفكراً وعيناً وقلباً ويكون عند حسن ظنه وآماله «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ». لذلك، أيها المؤمنون، أن أعلى درجات المحبة في الإسلام هي العبادة، وهي خاصة الله سبحانه وتعالى، يتفرد بها في قلب العبد المؤمن دون سواه، لذلك فإن سيدنا إبراهيم عليه السلام، كان من خلال محبته لله العابد المؤمن يقول تعالى بعد سرده قصة إبراهيم مع ولده «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ،سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» ويقول تعالى في موضع آخر: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً». وما الحج أيها الأخوة المؤمنون، إلا شكل آخر وفرصة سنوية أخرى للإنسان لتبادل المحبة مع الله تعالى كيف لا والعابد المؤمن المسلم يتخلى عن كل ما يحب ، من مال ومتاع وأهل وولد ، ليهاجر إلى المحبوب الأكبر ، ليقف بين يديه، ويتوسل بقلبه. في هذه الحال، عندما تخلص النفس من أدرانها وتصفو القلوب من كدرها تجد الله تواباً رحيماً وقريباً مجيباً أليس هو القائل: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» ولا يمكن إلا أن يقابل العابد المؤمن بمحبة أكبر قوامها المغفرة، وغايتها الطمأنينة، لأن حبيب الله علمنا «أنّ من حج ولم يرفث ولم يفسق... رجع كيوم ولدته أمه». إن جوهر الدين في الإسلام يقوم إذاَ على هذه المحبة المتبادلة بين الله والعبد في حركة لا تنتهي، لم لا، والله تعالى يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». أيها المؤمنون... ومع تفكرنا بقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ندرك من غير عناء أن محبة الله هي الأساس الخلقي في شريعة الإسلام الخالدة. إن قوام الأخلاق في الإسلام أيها المؤمنون ليس إذاً بأي حال في امتلاك ما نحب بل هي التضحية بما نحب في سبيل ما يحبه الله ويرضاه . وفي ذلك يقول تعالى : « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون» . فما هو الذي يحبه الله ويرضاه ؟ إن الله عز وجل يخبرنا في كتابه أنه يحب الإحسان والمحسنين ، والتوبة والتوابين ، والطهر والمتطهرين ، والتقوى والمتقين ، الأكبر في هذه الدنيا ، والصبر والصابرين ، والتوكل والمتوكلين ، والقسط والمقسطين ، والذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص. ويخبرنا سبحانه وتعالى إلى جانب ذلك أنه لا يحب الفساد والمفسدين، ولا العدوان والمعتدين، ولا الكفر والكافرين، والظلم والظالمين، ولا الاثم والآثمين، ولا الاسراف والمسرفين، ولا الخيانة والخائنين، ولا الاستكبار والمستكبرين، ولا الاختيال والمختالين، ولا الفخر والفخورين، ولا الجاهرين بالسوء من القول إلا من ظلم. إن هذه الإشارات الإلهية أيها المؤمنون، أسس واضحة لمعاني المحبة التي هي المعين الذي لا ينضب لأفعالنا وسلوكنا وعلاقتنا بالآخرين. أيها المؤمنون، لقد تبدلت مفاهيم المحبة لدى قلوب السواد الأعظم من الناس في مجتمع اليوم، فأصبح المقياس الخلقي الوحيد تسابقاً على امتلاك ما يحبه الإنسان، من مال أو علم، أو متاع، أو قوة وسلطان، وأصبح ذلك كله، من دون الله، هو الغاية في ذاته، لدى الأفراد والمجتمعات والدول. إن الدول القوية اليوم ما زالت حتى الساعة تتسابق على امتلاك خيرات الشعوب المستضعفة وثرواتها، من غير مخافة الله أو محبة له، أعني من غير أن تفكر في حق هذه الشعوب في الحياة الكريمة الآمنة المطمئنة. وآية ذلك مأساة العرب في فلسطين وما نتج عنها من عدوان صهيوني على أراض وخيرات عربية بمساعدة الولايات المتحدة والدول الطامعة في ثروات هذه البلاد. وإذا كانت هذه الدول قد تسابقت على امتلاك ما تحبه، وما تطمع فيه، من دون الله، على حساب حقنا وعدالة قضيتنا وعلى حساب أمننا وطمأنينتنا، فإن زعماء العرب اليوم، وهم في مواجهة هذا التحدي، أكثر بإذن الله، على السير في طريق محبة الله، متسابقين للتخلي عما يحبون من مال وثروات ورجال في سبيل الله استجابة لما يحب ويرضى، حتى يعود الحق إلى أصحابه، أنهم اليوم جديرون بمحبة الله وبوعده وكرمه، الذي وعده للمؤمنين بقوله: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ» . وبعد أيها المؤمنون، إننا بمناسبة عيد الأضحى المبارك، عيد الطاعة لله، والاستسلام لأمره، والتضحية في سبيله نريد للمحبة في لبنان أن تدخل كل قلب، وترفرف على كل بيت، لتضع عن كواهل المتعبين أحمالهم، وتحقق للمحرومين أمانيهم، وتعطي للمظلومين حقوقهم. لقد بلغ الظلم الاجتماعي في لبنان حداً أصبح يهدد حاضر الناس ومستقبلهم. إن الظلم والتجاوز للحدود واقعان في كل شيء، وأثرهما مسلط على كل نفس، وشبحهما يهدد حرمة كل بيت، ولقد أمسى الغلاء وحشاً ضارياً يفترس قوت التعساء وأصبح الاحتكار سلاحاً ماضياً يستغله الأقوياء والسبب الأساسي لهذه المظالم كامن في ابتعاد الناس عن روح المحبة، تلك المحبة التي حملتها رسالات السماء، وكل من عيسى ومحمد عليهما السلام، تلك المحبة التي تفيض رحمة بين البشر، وعدلاً بين الناس. وقدوة صالحة لدى الحكام، ولقد علمنا الله عز وجل، أن نكون البادئين بالمحبة ، فحضنا على أن ينزع كل واحد منا من قلبه حب السيطرة لذاتها، وحب التملك لذاته، وحب الذات نفسها، لأن ذلك ينسي الإنسان الغاية من وجوده التي نبه الله تعالى إليها بقوله: «وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون». أيها المؤمنون، إذا كان الله تعالى قد وهب إبراهيم الطمأنينة والسلام، فلأن محبة الله عز وجل في قلبه قد جاوزت كل تصور، وفاقت كل حد، عندما امتثل لأمر الله في ما ابتلى به. ونحن في لبنان، لن يكون لنا طمأنينة ولا استقرار ولا سلام، إذا لم نلتزم بحبة الله، وما يتولد منها، من محبة للناس، ورعاية لمصالحهم، وبر بمعاشهم. أيها المؤمنون، إننا في هذا اليوم المبارك نتوجه إلى الله العلي القدير، أن يمنحنا جميعاً القدرة على المحبة الصادقة، لنبني مجتمعنا، بتعاون الجميع، ومشاركتهم الحقيقية، من أجل خير هذه الأمة ومستقبلها. أهنئكم جميعاً أيها المؤمنون، وكل عام وأنتم والعالم أجمع بخير وسلام. |