عيد الأضحى رمز الوحدة والفداء •في مثل هذا اليوم من كل عام تتجلى وحدة المسلمين. •لقد بدا لنا ونحن المسلمين مع جميع المخلصين نتطلع إلى وحدة لبنان، أن المناقشات السياسية الأخيرة، غابت فيها المحبة، وظهر التراشق، بينما العدو على الحدود يرشقنا بالبطش والغدر. •لقد أصبح لمفهوم الحوار السياسي معنيان متناقضان ، معنى داخل الحكم ومعنى خارجه. •لقد أصبح للعامل أن سياسة السلام ينبغي أن تسير في طريق فلسطين بالصيغة العادلة التي تطرحها منظمة التحرير الفلسطينية، ونحن اللبنانيين ينبغي أن نكون أول المطبقين لهذا المفهوم، ليظلنا الإخاء، وتعمنا المساواة. •إذا فقد لبنان هويته العربية فقد دوره في العالم. •إلى أمراء السياسة: لستم أحراراً في تجربة الخطأ والصواب، وفي أخلاقكم التي تظهرون بها أمام الناس، إذ لا مبرر فيما يفعلون إلا سلوككم على أي صورة كان. بعد التكبيرات، الحمد لله الذي خلق الكون، وجعل كل ما فيه متجهاًَ إلى غاية وجعل كل غاية تنطق بتوحيد الله الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، لإفراده بالعبودية، وتخصيصه بالذكر والتسبيح والصلاة، وفاقاً لآية من الحق تقول: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ». وأصلي وأسلم على نبيه المصطفى، محمد بن عبد الله، خاتم النبيين والمرسلين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. اللهم يا علام الغيوب وأسرارها، إليك تتوجه القلوب ببصائرها، سبحانك وأنت الواحد الأحد. لا يتوحد الخلق إلا في توحيدك، ولا ينتظم الكون إلا في طاعتك، ففي مثل هذا اليوم من كل عام، تتجلى وحدة المسلمين، حينما تحج إلى بيتك العتيق ألوف من الناس وألوف، تعب من معين روائك، فلا هي من رحيقه ترتوي أو تشبع، ولا أنب من كريم عطائك تصد أو تنسي. في مثل هذا اليوم من كل عام، تتجلى وحدة المسلمين، حينما تتحول القلوب إلى حناجر ، تهتف بصوت واحد لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك... وتتجلى وحدة المسلمين، عندما تتلاشى الأجساد لتصبح أشباحاً بيضاء بلون النقاء، تقف خاشعة بين يديك، فلا هي تتأذى من شيء من قساوة الأرض، ولا أنت تحجب شيئاً من رحمة النساء. في مثل هذا اليوم من كل عام، تتجلى وحدة المسلمين، حينما تموج حشود المؤمنين في طواف موحد حول الكعبة، وتسعى بسعي موحد بين الصفا والمروة، وتقف وقفة موحدة على عرفات... ساعتئذ تتوجه القلوب إلى عزتك بالذل، وتلهج الألسنة إليك بالدعاء، وتفيض العيون من خشيتك بالدمع، وتتحرك الضمائر لتعمك بالشكر. وأنت يا رب كلما انكسرت لك القلوب بالذل، أكرمتها بالإعزاز، ولكما خاطبتك الألسنة بالدعاء، سبقتها بالاستجابة، وكلما تطلعت إليك العيون بدموع الخشية، غمرتها بفيض الأمان، وكلما بادرتك الضمائر بالسكر، تفضلت عليها بالمزيد من النعم، فسبحانك لا متفضل علينا سواك، ولا ملجأ لنا غيرك، ولا حمى لنا إلا فيك. وفي مثل هذا اليوم من كل عام، يلتقي المسلمون بمشيئتك، في رحاب عدلك، تحدوهم القيم التي بها أمرت، لينلهوا من فيضها، ويعبوا من معينها، كل خير ورضى وبركة. إنهم يجتمعون على أخوة في الإسلام هي أقوى من أخوة الأرحام، ويعرفون محبة الله هي أسمى من محبة البشر: ويكتشفون آفاقاً للإنسانية، تتجاوز ضيق الأنانيات، فيعلموا أن ليس للإنسان من حقيقة إلا هي أثر لحقيقتك، وليس للقيم الإنسانية من وجود إلا في رحاب ألوهيتك، وليس للإنسان من كرامة إلا من سخاء فضلك، من تعاون أمرت بإشاعته بين الناس، أو محبة زرعت بذورها في القلوب، أو سعي إلى الرزق باركت به سواعد العاملين. أولم تجعل يا رب سعي هاجر عليها السلام بين الصفا والمروة رمزاً لفريضة السعي على الإنسان ليوفر مؤونة الحياة وشرفها. بحانك وأنت القائل: «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى». أولم تجعل يا رب فداء إسماعيل رمزاً لضرورة التضحية بأي شيء من أجل سلامة الإنسان وكرامة الإنسان ، وحجب دم الإنسان؟ سبحانك اللهم وأنت القائل: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» أولم تجعل يا رب رمي الجمرات رمزاً لعزم الإنسان على محاربة شيطان نفسه، القابع في دخيلته، المختبئ في أنانيته، العامل على هدم كيان إنسانيته فيه؟... سبحانك اللهم وأنت القائل: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ». أيها الأخوة المؤمنون ، إذا كان المسلمون يتوحدون في مثل هذا اليوم الكريم من خلال قيامهم بمناسك الحج، فإنهم كذلك يتوحدون في كل عبادة في الإسلام، في كل يوم، لأن الوحدة هي أساس الإسلام، لأنه دين التوحد العظيم، الذي ترجمه بداهة العقل، جواباً لازماً عند تساؤلا القرآن الكريم «أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ». وإذا كان الأمر كذلك أيها المؤمنون، فإنه حري بنا نحن المسلمين في كل مكان، أن نستمد من معاني الوحدة في الإسلام، قيماً ومفاهيم ومبادئ، توحد بيننا بالحق، والعدل، وتغسل قلوبنا بالتسامح والمحبة. وحري بنا أيها الأخوة إذا كنا ندعو إلى ذلك، أن نبدأ بأنفسنا في لبنان، فنحاسبها على ما تدعي من حرص على المحبة، والتعاون، لنرى مدى التزامنا بدعوة التوحيد، وما يلزم عنها من معاني الخير والرضى، والبركة. أيها المؤمنون، اسمحوا لي أن أقول أننا ما زلنا بعيدين عنها، وبالتالي عن حقيقة التوحيد، إن كان ذلك في ممارستنا السياسية والوطنية، أم في سلوكنا اليومي. إن ذلك يتجلى في كل يوم، ولقد تجلى بكل أسف، وبشكل حاد، أثناء المناقشات السياسية الأخيرة، حيث غابت المحبة، وسقط التعاون، وانحسرت ظلال الخير، وتلونت الحقائق بلون الأنانيات، وخرج المناقشون مجرحين جميعاً بلا استثناء، فخرجت نتيجة لذلك، قلوب اللبنانيين دعاة الوحدة والخير والمحبة والتعاون. لمصلحة من أيها الأخوة... تتراشقون بالتهم، وتوزعون الأقاويل، ويتربص بعضكم ببعض الدوائر، والعدو يرشقكم كل يوم بسهامه، ويوزع بينكم افتراءاته، ويقعد لكم ولإخوانكم كل مرصد ليغدر ويبطش ويخرب . لقد بدا لنا، ونحن نتطلع إلى مصلحة لبنان من خلال وحدته إن المناقشات السياسية والتصريحات الصحفية، لم تلتزم بمنطق الجدل، ولم تأخذ بأصول الحوار، الذي من شروطه الأساسية إسقاط التناقض، والقضاء على التباعد، والجمع بين المتفرقات. لقد بدا لنا، ونحن مع جميع المخلصين نتطلع إلى وحدة لبنان، إن الحوار اللبناني في الداخل، لم يوفر في الكثير الأكثر، إلا التناقض والتباعد والتفرقة، والعلة ليست في الحوار طالما أن للحوار مبادئ إنما العلة في المتحاورين طالما بقيت في القلوب أهواء. لقد اصبح للحوار السياسي حول المفاهيم الواحدة، منهجان متعارضان، وللمفهوم الواحد معنيان متناقضان، المنهج والمعنى بلون إذا كان الإنسان داخل الحكم، وبلون آخر إذا كان الإنسان خارج الحكم. فالمشاركة معدومة، والمطالب مخذولة، والكرامات والمصالح مهدورة، إذا كان المتحدث خارج الحكم، أما إذا كان هو نفسه يتحدث من موقع السلطة، فالعكس هو الصحيح، وإذا المشاركة متحققة، والمطالب مؤمنة، والكرامات والمصالح مصونة. ويتساءل الناس بسخرية وأسى وهم ينظرون إلى الشخص نفسه وهم يسمعون... أي الأفكار هو الفكر، وأي السياستين هي السياسة... بل أي الوجهين من الوجه؟ وأي السانين هو اللسان؟ والأمر كذلك عندما يجري الحوار بين الأحزاب حيث يظل البعض حبيس مواقفه المسبقة، وأسير أفكاره الجاهزة، التي كانت له منذ خمسين عاماً أو تزيد ، تحكمه ولا يحكمها، توجهه ولا يوجهها ، لا يعلم ما يدور حوله من تغيير ، ولو علم لرد فوراً برفض عصبي، لا علاقة له بالتفكير، ثم يتحدث تارة عما يعتقد بأنه لا يمس، ويؤكد تارة على ضرورة إبقاء الحال على حاله، بمنطق قوامه اليأس والتخاذل والاستسلام، والغريب أنه لا يقدم للناس في أي حال، أي اجتهاد يكسر طوق الجمود، أو يساعد على مد جسور التعاون بينه وبين الآخرين، كل ذلك استئثاراً بامتيازات يظن أنه يفقدها مع التغيير، أو تمسكاً بمواقع يعتقد أنها تنهار مع التطور، فيفضل مكاسب الحاضر على مراهنات المستقبل، ويقلب منطق التجار على منطق الأبطال، ومنطق الانعزال على منطق التعاون ، ومشاعر البغض على مشاعر المحبة، وتكون النتيجة تكريس الجمود ثم التباعد بين المتحاورين، وافتعال الفرقة بين الناس، والبقاء في مأزق العتيق من الأفكار، ويصبح شأن الذين يدعون الحوار، شأن عائلات الإقطاع في غياهب التاريخ ولن تتعلم على مّر الأجيال، شيئاً من التجربة ولم تنس من أحداثها شيئاً على الإطلاق. ويستمر الحوار لدى الساسة ... ويتساءل المواطنون المجهدون، متى يفرخ الحوار خبزاً على موائد المحرومين، وأمناً في قلوب الخائفين، واستقراراً في حياة المغلوبين، الذين يؤرقهم المجهول، ويزعزعهم القلق، ويذهلهم الضياع؟ ونحن لا ننكر أن الحوار السياسي كانت له في بعض أشكاله بعض إيجابيات مشكورة دفعت باللبنانيين في طريق الوحدة، والمحبة، والتعاون، وقد بدأت هذه الإيجابيات تكسر جليد التقليد في بعض العقول، وتتخطى الأفكار الجاهزة، في الأذهان ابتداءً من الخروج من مبدأ طائفية الوظيفة، ومروراً بإعتماد مبدأ التعطيل يوم الجمعة، ووصولاً إلى توفر إرادة الدفاع التي بدت حين إسقاط طائرة للعدو في الفترة الأخيرة، ثم إلى اعتماد مبدأ التسلح من الدول العربية... إن هذه الخطوات وأن كانت ما تزال على عتبة العمل، إلا أنها بالنسبة إلينا تشكل علامات مشجعة تؤكد لنا أن مبدأ التغيير في لبنان ممكن، وإنه إذا حدث التغيير، فإن لبنان لا يخرب كما يتوهم البعض، بل أن هناك من أشكال التغيير، ما يزيد من تلاحم المواطنين فيما بينهم، ويخلق أشكالاً للتعاون بين صفوفهم ، يدفع بلبنان إلى مزيد من التقدم والازدهار. ويبقى السؤال المطروح بالرغم من كل ذلك إذا كان الحوار يؤدي إلى هذه الأشكال من النمو الوطني، والوحدة الوطنية، فلماذا لا تستمر سياسة التغيير، وتنمو وسياسة تخطي الأفكار المسبقة، فتكون لدى المسؤولين، الثقة والشجاعة الكافيتان ، نطرح بهما سياسة التواكل، لانتهاج خطة عربية واضحة للدفاع، وننبذ مشاعر التردد لنعطي الجنسية اللبنانية لإخواننا المكتومين، ونقصي نوازع الأنانية لنقيم دعائم العدالة الإجتماعية لجميع المحرومين. لقد اتضح للجميع بعد مؤتمر الرباط وبعد مؤتمر الأمم المتحدة الذين استأثرت قضية فلسطين بضميرهما، إن السياسة السلام والأمن والرخاء في العالم ينبغي أن تسير في طريق فلسطين، في طريق هذه الصيغة العادلة التي تطرحها منظمة التحرير، للعيش في عدل ومساواة وإخاء بين المواطنين، مسلمين ومسيحيين ويهوداً على أرض فلسطين. ونحن في لبنان إذا كنا ندعو إلى هذه الصيغة، وقد دعونا إليها في الأمم المتحدة، فينبغي أن نكون أول السائرين في طريقها، في تحقيق العدالة بين المواطنين لدينا، في إشاعة المساواة بين الطوائف، في رفع مستوى اللبنانيين المحرومين، من درجة الذل والحرمان، إلى درجة الشرف والكرامة، بشكل تكون معه جديرة بالنضال، قادرة عليه، متلهفة إليه، فإذا كان الأمر كذلك، فذلك يعني عندنا أن سياستنا كلها ينبغي أن تتوجه إلى المستقبل عن هذا الطريق، طريق فلسطين، وإذا كانت فلسطين اليوم تجد طريقها من لبنان، فذلك المبدأ يحتم أن تكون طريق لبنان في فلسطين بالذات. أيها المؤمنون، لقد كان الحوار على الصعيد العربي العام أكثر إنتاجاً واشد فاعلية منه على الصعيد اللبناني الداخلي، فأدى إلى مزيد من التماسك القومي، وإلى مزيد من الصلابة في مواجهة العدو الإسرائيلي، المتربص بنا وإلى الكثير مما نطمح إليه من معاني الخير والتعاون والوحدة، سواء كان ذلك على صعيد الأفكار، أم على صعيد المبادئ، أم على صعيد المواقف، وهو ما جعل منظمة التحرير الفلسطينية، في موقف النضال المشترك، وفي عرض قضية العدالة والحق والحرية على العالم في الأمم المتحدة، أقوى مرتكزاًَ وأصلب عوداً وأعمق أثراً. ولقد كان للبنان بفضل هذا الحوار العربي التاريخي، الذي وحد ما بين الأخوة، شرف الحديث بإسم هذه الوحدة العربية بالذات، فقام بدوره بصدق وشرف وإيمان. وبعيداً عن المبررات الإعلامية الرسمية التي رأت أن حديث لبنان عن فلسطين في الأمم المتحدة، إنما كان بدافع من التزام لبنان بقضايا العدل والحق والواجب، نقول، من واجبنا أن نؤكد، وبدافع من التزامنا القومي، أن حديث لبنان عن فلسطين في الأمم المتحدة، كان أيضاً، وقبل أي التزام، التزاماً من لبنان بالعروبة، لأنه التزام لا يتوقف عند حدود النطق باللسان، ولا يكتفي بقسمات بتلاوين الوجه وقسماته، إنما يتجاوز ذلك كله، إلى الالتصاق بأصالة التاريخ، والخفقان بقلب الحاضر، والتطلع إلى شرف المصير. إن واقع لبنان هذا، هو الذي يجعلنا نرى أن قضيتنا في الرباط واحدة، وأن قضيتنا في الأمم المتحدة واحدة، وإن شعوبنا العربية تمثل أمة واحدة، إن هذه الوحدة، هي قدرنا لكل عمل مشترك، وتعاون مشترك، ووجود مشترك، إن التفكير المشترك عندما يكون كذلك مبنياً على مثل هذه الأسس، هو وحده الكفيل بأن يقودنا إلى الاستفادة من القيم الإنسانية المشتركة، وبهذا المعنى يصبح التزام لبنان بالعروبة الأصيلة فيه مقدمة ضرورية لالتزامه بقضايا العدل والحق والإنسانية في كل مكان من العالم. إن تجربتنا في الأمم المتحدة تعلمنا شيئاً أساسياً ينبغي أن يكون واضحاً أمامنا على الدوام، هو أنه إذا فقد لبنان هويته العربية فقد دوره بين العرب، وفقد دوره بين العالم، وفقد دوره على صعيد الإنسان في كل مكان. من هنا كانت ضرورة التركيز على تراثنا العربي وتنمية لغته وكنوزه وثرواته في ثقافتنا ووجداننا وتحضير أجيال من الأبناء مؤمنة بلبنان العربي وبقيمه العربية الحضارية، وأدواره الرسالية الإنسانية، والوقف في وجه المحاولات المريضة التي تريد بشتى الوسائل سلخ لبنان عن حقيقته القومية، وجوهره الإنساني. أيها المؤمنون، إذا كان الحوار في الإطار المحلي قد أدى بعض ما عليه من مستلزمات الوحدة، وإذا كان الحوار على الصعيد العربي قد أدى الكثير مما عليه من مستلزمات التعاون، فإن الحوار العالمي ما زال يتعثر على طريق المراوغة، ويعرقل بالتالي نتيجة لذلك مساعي السلام، في العالم عامة وفي منطقتنا العربية بشكل خاص. إن سياسة الإرهاب والتسلط والمسخ والتشويه ما زالت في أساس هذا التعثر الدولي، ويبدو لنا أن الولايات المتحدة الأميركية هي محور كل ذلك وفي ممارستها له مع دول العالم، وفي خضوعها له في علاقاتها مع إسرائيل. إن سياسة الإرهاب والتسلط والمسخ والتشويه الأميركي لا تتمثل في المعاملة المشينة التي لقيها الوفد اللبناني إلى الأمم المتحدة فحسب، إنما تتمثل أيضاً وبشكل أساسي، في الأسلحة الأميركية الموجهة إلى صدور العرب في كل مكان، وفي الصواريخ الأميركية التي أطلقت على مكاتب منظمة التحرير في بيروت، وفي الأموال الأميركية الطائلة التي تدفع إلى إسرائيل في كل حين، وفي الضغوط الأميركية على دول العالم للوقوف في مواجهة الدول العربية في معركة البترول، وفي المؤتمرات الثنائية التي تبذل فيها أميركا محاولاتها للتحول بأوروبا عن التعاون مع العرب، وفي الإشاعات التي تطلقها أميركا نفسها ثم تنفيها حول الاستعدادات الأميركية العسكرية لغزو بلادنا، كل ذلك للإبقاء على التوتر المستمر، وخلق جو من القلق الدائم، ولزعزعة الوحدة العربية وضرب الصمود العربي . أيها الأخوة الأحبة، إن الولايات المتحدة الأميركية نفسها تخضع هي نفسها لسياسة الإرهاب والتسلط في علاقاتها مع إسرائيل، فقد صرح بذلك اكبر قادتها العسكريين السيد بروان، بقوله «إن وسائل الإعلام والمصارف ومجلس الشيوخ نفسه، كلها مرافق تقع تحت سيطرة إسرائيل والصهيونية العالمية، وقال إن إسرائيل لهذا السبب تأخذ من أميركا أكثر مما تطلب، وتنال أكثر مما تتوقع إلا أن هذا القائد العسكري الأميركي ما لبث حتى نفى، تحت ضغط من الإرهاب الصهيوني أيضاً، فجاء نفسه للإرهاب أقوى تأكيداً عليه واصدق تعبيراً عن حقيقته». أيها المؤمنون، لقد كان من نتيجة هذا الإرهاب الإسرائيلي، الأميركي، الدولي المتصل أن تقدم سبعون بالمائة من أعضاء مجلس الشيوخ مؤخراً بيان إلى الرئيس الأميركي يعترضون فيه على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية التي اعترفت بها أعلى سلطة سياسية في العالم، لقد فعلوا ذلك، لأن منطق الإرهاب هو الذي يحكم مسيرة الحوار الأميركي مع العالم. أيها الأخوة المؤمنون، إن شعوبنا أصبحت تعي كل ذلك، وأصبحت تدرك أن مثل هذا الحوار الإرهابي لا يمكن أن يحمل الخير للبشر فضلاً عن أنه لا يمكن أن يثني الشعوب عن المضي قدماً في طريق العدالة والمساواة والطمأنينة والسلام . أيها الأخوة المؤمنون، وإذا كان الحوار البناء، هو الحوار الذي يجري بين أطراف، متعددة، لمد جسور التعاون، وفتح الصدور بالمحبة، فإن لبنان بهذه التعدديةالاجتماعية،والتعايش الكريم بين أبنائه هو الأجدر من غيره ليكون ميداناً خصباً لحوار ناجح بين طوائفه، حوار ليست السياسة موضوعاً له، حتى لا نسقط في شراك الطائفية السياسية التي ندعو إلى التحرر منها ، بل حوار تكون المعاني الإنسانية ميدانه الوحيد، تلك المعاني التي توضح مفهوم الخير، وتركز على معنى الأخوة، وتنمي بذور المحبة، وتدعم أسس التعاون والعدالة والحرية والسلام في هذه المنطقة من العالم، وعلى صعيد هذا الحوار ستلتقي من غير شك، جميع القلوب بالإخلاص، وكل النوايا بالصفاء وكل العقول بالتجرد، لما يؤدي إلى عزة لبنان، وتحقيق رسالته في الوطن العربي، وفي العالم الإسلامي، وفي جميع بلاد العالم على الإطلاق. أيها الأخوة المؤمنون وبعد، فلقد قال رسول الله (ص): «صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذ فسدا فسد الناس العملاء والأمراء». ونحن علماء الدين لا نملك إلا الكلمة الطيبة، لا خير فينا إذا لم نقلها، وإذا قلناها للآخرين، فلا خير فينا إذا لم نكن السابقين إلى الالتزام بها والعاملين بمضمونها والحريصين على صدقها. ومن هنا نتوجه بهذه الكلمة إلى السادة أمراء السياسة في لبنان: أيها السادة الأحبة، لقد نذرتم حياتكم للسياسة فأصبحت لكم الخبرة العريقة بأساليبها ، والعلم بمراميها والقدرة على ممارستها، فبالتوفيق ندعو لكم، وبالصلاح ندعو لها، ولكن نرجو أن تعلموا أنكم إذا كنتم قد اخترتم هذا الطريق، فإن الخيار في التصرف فيه لكم وحدكم ذلك أن السياسة مسؤولية شاملة، لا تنحصر في الإدارة والاقتصاد والمال وفي التربية، والشؤون الاجتماعية والتخطيط أو ما إلى ذلك، إنما تتعداه إلى الحياة بأسرها، وإلى الشعب بأسره، بل إلى العالم كله، من هنا نقول: أنكم لستم أحراراً في تجربة الخطأ والصواب على الناس، ولستم أحراراً في عواطفكم تقحمونها في أقدار البشر، ولستم أحراراً في مصالحكم تضعونها فوق مصالح العباد، ولستم أحراراً في أخلاقكم التي تظهرون بها أمام الناس، لأنكم مسؤولون عن الناس مسؤوليتكم عن أنفسكم، فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وللناس، وإن أسأتم أسأتم لأنفسكم وللناس وما أكبر المسؤولية وأضخمها عندما تتسع وتشمل الآخرين. أيها الأحبة أمراء السياسة ، اجعلوا من أخلاقكم مثلاُ للخير يحتذي، ونموذجاً للورع يتبارى الناس في تذكاره والاقتداء به فإن من ورائكم من الناس لا يمكن إلا أن يروا في حياتكم القدوة ويجدوا في سلوكهم المعيار، فإن أحسنتم أحسنوا وكان لكم فضل الاقتداء ، وإن أسأتم أساءوا وكان عليكم وزر الاقتداء، ولا مبرر في كل ما يفعلون إلا بسلوكهم على أية صورة كان. أيها الأخوة الأحبة، صلوا قلوبكم بالله، فإن وجدت ضمائركم رضي من الله عما تفعلون فافعلوا، وإلا فإحذروا أن تكونوا قد وقعتم في شراك من الهوى خطير، أو في نزوة من العاطفة آثمة، أو في منزلق من المصلحة غادر. وإذا صادق بعضكم بعضاً فاسألوا أنفسكم لأية غاية في الله تتصادقون، وإذا تخاصمتم فاسألوا أنفسكم لأي غاية في الله تتخاصمون، فإن وجدتم أنكم تعلمون بقول رسول الله: «أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله»، فتصادقوا في الله، وتباغضوا في الله، ما شاء لكم الله ذلك ورسوله، أما إذا تبينتم أنكم تفعلون ما تفعلون لمصلحة لكم تصيبونها، أو للمال تجمعونه أو لنفوذ تضمنونه فاعلموا أن رسول الله قال فمن كانت هجرته إلى الله ورسول فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. واحرصوا أيها الأحبة إذ أتاكم الله شيئاً من فضله، أن لا تختالوا بجاه، ولا تتفاخروا بمال، ولا ترهبوا بسلطان، ولا تتظاهروا ببهجة، ما دام في الناس محرومون ومعذبون وضعفاء ومحزونون. وجاملوا غيركم من أبناء الطوائف الأخرى بما طابت لكم المجاملة ، ولكن حذار أن تأتي مجاملتكم لهم على حساب دينكم ، ظناً منك أنكم بذلك تتقربون منهم، أو ترتفعون لديهم أو تناولون خطوة في قلوبهم، فوالله ما خطا إنسان في طريق التنازل عن دينه إلا وانتهى بالتنازل عن نفسه، ولا سلك إنسان عن سبيل إذلال دينه إلا كان الذل له هو نفسه وما ارتفع إنسان في أعين الناس إذا تعمد السقوط في عين ربه. أيها المسلمون، إن تصفية النوايا هي طريق الصدق والصدق طريق الثقة والثقة طريق الحوار والحوار طريق التعاون والتعاون طريق المحبة والمحبة أساس الوحدة والوحدة هي المعراج إلى رضي رب العالمين. فلنعمل بكل ذلك، وخصوصاً في هذه الأيام المباركة، التي تتوحد فيها الأعياد بقدر من الله، فإننا أحق ما نكون اليوم إلى التماسك، وإلى المحبة والتعاون والوحدة. وليوفقكم الله أيها المواطنون، وليبارك لكم في أعيادكم، مسلمين ومسيحيين وليحفظ الله هذه الأمة وهي في مسيرتها الطيبة نحو الخير والحق والعدالة والسلام. |