يوم عيد الفطر نستقبله بفرحة تسمو فوق الجروح، وبسمة تغالب مرارة الصبر، ودمعة لا تنال من شموخ الإرادة، ذلك ان هذا العيد يبقى على الرغم دفق النزيف، عيداً مرتبطاً بصلب العبادة، عبادة الصوم المرتبطة بصلب الإرادة، ولئن كان شهر الصوم قد انقضى، فإن الإرادة لا تنتهي بل تستمر وتتجدد. إن الفرحة بالفطر واجبة على المسلم وهو يشعر بها لأنه أدى العبادة وجدد الإرادة واكتسب منهما ما به زكت نفسه وتطهرت، ومن هنا كان على المسلم أن يؤدي زكاة الفطر لتكون طهراً لنفسه وماله، وكان من حقه ان يسعد بفرحة الفوز بالصوم. وما تسمية عيد الفطر بأنه عيد في الإسلام يفرح له، إلا لأن المسلم لا يستطيع أن يفطر فطراً مقبولاً من الله إلا إذا قدم لأخيه المحتاج عطاء يفرحه هو الآخر، فإذا بفرحة العيد فرحتان، فرحة الصائم الذي يخرج زكاة الفطر، وفرحة المحتاج الذي ينتفع بما أصابه من خير أمر الله به. إن العطاء في الإسلام، لمن ينبغي أن يقدم له العطاء، ليس حقاً للناس على الناس فحسب، وإنما هو حق من حقوق الله على الناس، والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه هو قدوتنا وأسوتنا، في العطاء وفي غير العطاء، ولقد أمرنا الله في كتاب العزيز بأن نتخذ لنا من رسول الله أسوة لنا بقوله:«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» ونحن نعلم أن قريشاً تألبت على الرسول الكريم وعرضت عليه المال والسلطات وأوفدت إليه عمه أبا طالب يبلغه عرضاً للتخلي عن دعوته، فأجاب بما معناه: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يحققه الله او أهلك دونه». لقد توفي الرسول الكريم عندما اختاره الله إلى جواره ولم يترك شيئاً من حطام الدنيا، ذلك أنه كان حريصاً على العطاء، يوزع المال على الفقراء، ويعطي ما يملك للمساكين، بل زاد على ذلك فوهب نفسه ذاتها للدعوة في سبيل الله، والعمل على رفع راية الحق، ولقد كانت غاية العطاء عند رسول الله، والعمل على رفع راية الحق، ولقد كانت غاية العطاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الفوز برضوان الله في ما أمره به، حتى كان قوله الشهير: «ان لم يكن بك علي غضب فلا أبالي» ذلك لأنه يكون قد وصل إلى أسمى مراتب العبادة التي هي غاية الخلق، كما ورد في قوله تعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » ان ظواهر العطاء في الإسلام، ليست ظواهر خاصة بأي حال من الأحوال، وليست وليدة اخلاق فردية بأي شكل من الأشكال، إنما هي ظواهر عامة، ومبادىء تامة ترتفع نسبتها حتى تصل إلى درجة الإيثار الذي التزمه الرسول والخلفاء الراشدون والصحابة الأبرار كما أشر القرآن الكريم إليه بقوله: «وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» أيها المؤمنون إذا كان الصيام امتناعاً عن الطعام والشراب وشهوات الجسد عبادة لله ، فإن زكاة الفطر هي عطاء في سبيل الله، وزكاة الفطر أيها المسلمون ليست هي كل الزكاة المفروضة على المسلم ينفقها في المواسم والأعياد والمناسبات، إنما هي رمز ينبغي ان يبقى قائماً في وعي المؤمن وضميره يهدف إلى طهارة النفس من الطمع، وتطهير للذات من الاثرة، والاسراع إلى الملهوف بالنجدة والانتصار للمظلومين بالموقف الحق وبهذا تزكو النفس وتسمو إلى المراتب الجديرة بالعطاء ولو اقتضى ذلك نربتة الجود بالنفس لتفوز برضوان الله تعالى. ويذكر تاريخنا الإسلامي حادثة اقتحمت فيها فرقة من الجيش الروماني تخوم الدولة العباسية في عهد المعتصم بالله العباسي، فاعتدت على إمرأة من رعايا الخليفة، فما كان منها إلا أن صرخت صرختها التي ظلت مدوية في التاريخ «وامعتصماه» فلما وصل النبأ إلى المعتصم أعلن في البلاد حالة الاستنفار العام، واقسم أن لا ينام حتى يثأر لهذه المرأة وينتصر لها وجهز جيشاً سار به إلى عمورية ففتحها، وكان نصر الجيش في هذا الفتح، انتصاراً لامرأة واحدة ظلمت على يد الأعداء. هكذا كانت زكاة النفس عند الخليفة المسلم المعتصم بالله، والمسؤول أمام الله، انتصاراً للكرامة الإنسانية، ولو كانت كرامة شخص واحد. أما اليوم، فالعدو الصهيوني يقتل بطائراته وقنابله كل يوم عشرات النساء والأطفال والأبرياء من الشعبين اللبناني والفلسطيني، ولا معتصم في دنيا العرب يسمع، ولا معتصم في دنيا العرب يرى، ولا معتصم في دنيا العرب يجهز جيشاً ليرفع راية الجهاد في سبيل الله. ثلاثة وثلاثون عاماً مضت على هذا العدوان الصهيوني على الشعب والأرض، والقدس والمقدسات ، كلها تبحث عن معتصم بالله تستصرخه لينجدها فلا تجد، كأنما أصبحنا نعيش في غابة لا مغيث فيها ولا منجد. وسبعة أعوام مضت على مأساة لبنان، ولبنان وشعب لبنان والمواطنون فيه من كل ملة يبحثون عن معتصم بالله يستصرخونه لينجدهم، فلا يجدون. كرامة إمرأة في عصر بني العباس حركت قائداً، أما كرامة الإنسان الفلسطيني المغلوب، وكرامة الإنسان اللبناني المقهور، فما زالتا كلاهما ضائعتين في سوق التمزق العربي، والصراع الإقليمي، والتردد في اتخاذ القرار، وفي أعقاب العدوان الصهوني الأخير على الشعبين اللبناني والفلسطيني، أطلق رئيس مجلس الوزراء صرخة صادقة من الأعماق منادياً «وأعرابه» ولكن ما وزالت الصرخة صرخة يتردد في وادي الضياع صداها، والأخوة العربية أخوة ما زلنا نرتقب من يترجم لنا معناها، ويعبر لنا فعلاً عن بعدها ومداها. صحيح أن الخوة العربية تجلت في مواقف دول عربية لا يمكن ان ننساها ، فسوريا بذلت من المشاركة الفعلية في الدفاع عن الشعبين اللبناني والفلسطيني أكثر من طاقتها، والمملكة العربية السعودية قدمت من أسباب الدعم والصمود للشعبين اللبناني والفلسطيني ما يعتز به كل إنسان، وكذلك العراق والجزائر وتونس والمغرب والأردن وليبيا وغيرها قدمت ولا تزال من قدراتها ما تيسر لها تقديمه بإيمان وشجاعة لا ننكر لها فضلاً فيه، ولا نبخس لها همة. صحيح أن هذه الدول العربية الشقيقة هبت لنجدتنا، والوقوف إلى جانبنا، لبنانيين وفلسطينيين، إلا أن الكارثة هي أن هذه الدول العربية هبت كل واحدة منها إلى نجدتنا على طريقتها وبأسلوبها ، منفردة قدراتها وطاقاتها وحدود امكاناتها من خلال ظروفها الخاصة والعامة وكلنا يعلم أن الصفعة موجهة إلى الأمة بكاملها لا إلى دولة بالذات، وإن الإسلام هو دين الأمة والإسلامية كلها وليس دين القادة والفرق والمذاهب. وإلا فما معنى قوله تعالى: «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». ان لبنان اليوم يعيش أبناؤه فيه وهم الذين بذلوا واعطوا المال والروح ولم يبخلوا يشيء يملكونه في سبيل القضية الكبرى قضية فلسطين وقضايا الأمة العربية ويعاني أشد صنوف القهر والذل والهوان من ضرب اسرائيل التي ما فتئت تهدم على أبنائه البيوت وتشردهم في الأفاق، ويعاني أشد الفوضى والقلق بواقعة الذي أفلت فيه الزمام من يد الدولة ولم يمسك به أحد حتى الآن مع الأسف، بل ويعاني هجمة المستغلين للظرف والمنتهزين للفرص والمستفيدين من بلاء الآخرين وآلامهم. إن لبنان هذا ليرفع الصوت اليوم أكثر من أي وقت سبق إلى أمة العرب وهو ما يزال يعلق عليها الأمل ويعقد عليها الثقة ان هملوا إلى نجدتنا قبل فوات الأوان وضياع الفرصة. لقد رأينا الدول العربية تبذل من أجلنا منفردة كل ما تستطيع، لكننا لم نرها حتى الآن تبذل من أجلنا مجتمعة بعض ما تستطيع، ذلك انها لو فعلت لكان صمودنا وصمودها أقوى، ومجابهتنا ومجابهتها أفعل، من هنا فإن العمل العربي المشترك يبقى هو المطلوب لإنقاذ الأمة من التدهور، والإستراتيجية العربية الموحدة تبقى هي المرتجى لإنقاذ السياسة العربية من التشتت، لذلك فإن الدعوة إلى إنعقاد مؤتمر القمة العربي لرسم استراتيجية عربية واحدة إزاء قضية عربية واحدو هي القضية الفلسطينية – اللبنانية، تبقى الدعوة الأكثر إلحاحاً والأكثر ضرورة في هذا الظرف الخطير فلا أخطر من هذا الظرف يدفع بالأمة إلىالتوحيد ويكفي تدمير إسرائيل للمفاعل النووي في العراق، للبرهنة على أن الأمة العربية كلها هي المستهدفة بالعدوان الصهيوني المدمر، لا فرق في ذلك بين فلسطين ولبنان، ولا بين سوريا والعراق، ولا بين ليبيا ومصر، أو بيت تونس والمغرب والجزائر، لذلك فإن المجموعة العربية هي وحدها المعنية بهذه المواجهة الواحدة، أما المواجهة العربية المنفردة فإنها لن تزيد الأزمة إلا تعقيداً وتدهوراً وخطورة، والعدو تمكنا وتسلطا وعدوناً. وحتى إنعقاد مؤتمر القمة العربي الذي دعا إليه فخامة رئيس البلاد، فإن لجنة المتابعة العربية مهما تكتمت في قراراتها، ومهما أجلت في اجتماعاتها، تبقى رمزاً للإرادة العربية الواحدة التي ينبغي أن تتجه إليها كل النيات المخلصة، ورمزاً للعمل العربي المشترك الذي ينبغي أن تتجند له كل السواعد وتلتقي عنده كل الجهود، وان اي احباط لمساعي لجنة المتابعة العربية إنما يشكل اليوم دخولاً في فراغ واحباطاً واضحاً لآخر أمل في وحدة العمل العربي ووجهته. أما نحن في لبنان، فاذا كنا مضطرين إلى الإنتظار حتى تجتمع الأمة العربية على كلمة واحدة، فإننا غير مضطرين أبداً إلى الإنتظار حتى نجتمع نحن اللبنانيين على إرادة واحدة لبناء لبنان واحد . لقد تولدت خلال الأزمة اللبنانية الفلسطينية العربية الدولية التي عانى منها لبنان من مصطلحات غريبة عجيبة، تكشف اتفاق قوى الصراع على الخراب وحدوده، وعلى التدمير وأصوله، فبتنا نسمع أنه يسمح باستعمال هذا التدمير وأصوله، فبتنا نسمع أنه يسمح باستعمال هذا السلاح بهذه الحدود، وانه يسمح بالتدمير فقط بهذا المقدار، وانه يسمح بالتقدم فقط حتى ذلك الخط، كأنما هناك شبح مرعب وراء هذا السماح، عندما نتحدث عنه بصيغة الغائب المجهول، وانه لمن أغرب مجالات تطبيق هذا المصطلح الغائب المجهول. قضية الوفاق بين اللبنانيين أنفسهم، حتى بتنا نسمع ايضاً أنه لا يسمح للوفاق يجري بين اللبنانيين إلا في زمن معين ولكنه غير معروف، وعند خط معين ولكنه غير مرسوم، وبشرط مؤكد ولكنه غير واضح ولا مفهوم، كإنما هناك شبح مرعب وراء السماح للبناني بالتقاء أخية اللبناني، حتى على كلمة محبة تقال، أو إرادة خير ترتجى، أو تعايش عفوي يعود كما كان وأفضل. إننا لا نعلم حتى الآن لماذا تعطل عملية الوفاق بين اللبنانيين، ساعة بالتعكير على مساعي رئيس الجمهورية، وساعة بالتنكير على جهود رئيس مجلس الوزراء، في الوقت الذي ينبغي أن تكون فيه مقدمة الوفاق الصحيح، مركزة على دعم مساعي التوفيق الصادقة التي يقوم بها رئيس البلاد، وتعزيز الجهود اليومية التي يقوم بها رئيس مجلس الوزراء، بل ورئيس مجلس النواب ، ذلك أن رموز السلطة اللبنانية هذه تبقة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تمر عبرها مسيرة الوفاق بين اللبنانين، فكلما كانت هذه الرموز السياسية مؤيدة في مساعي الخير كانت موفقة في تركيز دعائم الوفاق، بعيداً عن الخطوط التي ترسم ولا ترسم، والشروط التي تفهم ولا تفهم، والأشباح الغريبة العجيبة التي تسمح أو لا تسمح. أيها المؤمنون، إن زكاة فطرنا اليوم، ينبغي ان تقوم على تزكية الإرادة الوطنية بالإخلاص للوطن، والإنتصار للشعب المقهور في الجنوب وبيروت وخطوط التماس، بل حتى في قلب المناطق التي نظن أنها آمنة، مع أنها بدأت تعاني قلقاً اقتصادياً عاماً على صعيد تأمين الغذاء، وتأمين الصحة، وتأمين الخدمات، وتأمين المحروقات، كل ذلك منأجل أطماع فردية تأتي بمثابة الأسافين تدق في لقاءات الوفاق المرجوة. وإن زكاة فطر الاخوة العرب اليوم ينبغي أن تقوم على تزكية الإرادة العربية المشتركة بالإخلاص في الوقوف في وجه العدو الواحد المشترك، والإخلاص للتخطيط العربي المشترك، وتقديم الدول العربية الغنية المساعدات تقديماً جماعياً مشتركاً، مبنياً على وحدة الرؤية ووحدة العمل. أيها المسلمون، بزكاة الفطر تزكو النفس وتطهر، وكم نحن في حاجة اليوم إلى زكاة نفوسنا وطهرها، بالترفع عن الدنايا التي تشدنا إلى التراب، وبإخلاص في عقد النيات في ما نضمر، وتطهير القلوب من الأحقاد والأطماع والنزوع إلى الغلية والكسب والتملك. إن زكاة الفطراليوم توجب علينا عطاء بلا حدود، وإيثاراً بلا شروط، وموقفاً بمستوى الرسالة، كما علمنا أصولها وقواعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سار على دربه من الأئمة الخلفاء أبي بكر وعمر معثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم، وجعلنا جميعاً موفقين في السير على خطاهم، وخطى السلف الصالح من الأئمة المخلصين، والمسلمين المؤمنين الصادقين. جعل الله صيامنا مقبولاً، وفطرنا مقبولاً، وزكاتنا صادقة لوجهه الكريم، زكاة تزكو بها الروح قبل المادة، وتطهر النفس بها قبل الجوارح، ووفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى إنه نعم المولى ونعم النصير. |