الله أكبر، والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، يملأ أرجاء السموات والأرضين دائماً ابد الآبدين، في كل ساعة وحين، كما ينبغي لجلاله العظيم وسلطانه المقيم، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً عبده ورسوله، حمد من يؤمن بأنه الملك القدوس المتعالي في ملكه عما يشركون والمتنزه في وحدانيته عما يصفون. عنده الأمن والخير والحياة، وإذا تغلقت الأبواب فبابه وحده هو الذي يبقى مشرعاً بالأمل منفتحاً على الرجاء، ما من عقدة عند المخلوق إلاّ ولها عند الخالق حل، وما من هم أوّ غم أو ظلم إلا وله عند الله كشف، كيف لا وهو الذي خلق الإنسان ثم هداه ورعاه وسخر له ما في الأرض جميعاً ليوفر سعادته، ويلفته إلى كرامته وهو يقول لله:«اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ، وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ». وإذا كان رب العالمين قد كرم الإنسان في تسخيره الأرض له وما عليها، فإنه قد كرمه أيضاً بالعمل والبيان إذ يقول: «الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ». وفتح رب العالمين بالعمل أمام الإنسان أقطار السموات والأرض ليجوب أطرافها، ويكشف أعاجيبها، ويقف على خيراتها، وينفذ إلى دقائقها، ويفيد منها لخيره ويصون بها كرامته فقال:«يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ». وليس من سلطان للإنسان كسلطان العلم، وليس من امتياز له كامتياز العقل، فأي تكريم أرقى وأجل من ذلك التكريم الذي أنعم الله به على عباده، إذ جعله السيد والكائن الأكرم من بين الكائنات التي صورها على الأرض جميعاً حيث يقول: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً». ولئن كان الله تبارك وتعالى قد جعل الإنسان أرقى مخلوقاته إلا أنه تباركت حكمته جعل كرامة الإنسان أرقى ما فيه، وأغلى وأشرف على الإطلاق ، في سبيلها ترخص التضحية، ومن أجلها تهون الخطوب، ولحمايتها تبذل المهج والأرواح، بل إن عيد الأضحى المبارك الذي يحتفل به العالم الإسلامي اليوم، هو رمز التضحية من أجل كرامة الإنسان، فسيدنا إبراهيم عليه السلام وهو أبو الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لما لقي من قومه أعراضاً عن ذكر الله، وانصرفا عن توحيده، فنذر نفسه لمقارعة الشرك والمشركين، ووهب حياته من أجل رفع كلمة التوحيد ، حتى تعرض لكيد الكائدين، فلما يئس من قومه عاذ به فاستنصر به وسأله الولد الصالح فقال: «إني ذاهب إلى ربي سيهدني، رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم». فلما اطمأن إلى وجود الولد الصالح ورآه يشتد عوده، ابتلاه ليعلمه ويرشده بفتح آفاق قلبه وفكره، فقال اذبح ابنك، قال تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى». وكان الابن البار عند حسن ظن أبيه ولا يقل عنه إيماناً وتسليما وقال: «يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ». ولما شهد الله منهما الاستسلام لأمره، والاستعداد الكلي لطاعته في كل شيء حتى في التضحية بالنفس تدخل بعنايته وقال: «فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ». إن المتأمل في قصة إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام يقف خاشعاً معجباً لما ترمز إليه من معنى الكرامة الإنسانية، ولما تحض عليه من التضحية الكبرى من أجل الحفاظ على هذه الكرامة وصيانتها، فقد علمنا الله تبارك وتعالى بل علم إبراهيم وإسماعيل وعلم المسلمين جميعاً من بعده، أن كرامة الإنسان لا تتحقق إلا في طاعة الله سبحانه باتباع أوامره والانتهاء عن نواهيه، فرب العزة الذي خلق الإنسان وعلمه البيان وسخر له الأكوان شرع له الشرائع، ورسم له النظم، وبين له الأحكام، وفرق له ما بين الحلال والحرام، فأمره بهذا ونهاه عن ذاك، لا لحاجة منه سبحانه إليه بل تكريماً له أن يعصف في قلبه الهوى، ويغلب عليه الشطط، ويتعرض كل ساعة للسقوط في مراتع الهلكة ويضل عن سواء السبيل فتكثر متاعبه وآلامه ، فإن أطاع الإنسان ربه في ما رسم له تحققت كرامته في الدنيا والآخرة، وإن عصى ربه في ما أنعم عليه، فقد كرامته وخسر إنسانيته في الدنيا والآخرة سواء بسواء، لقد علم إبراهيم عليه السلام وهو النبي المصطفى وكذلك ابنه إسماعيل إن الله هو العليم الخبير، يعلم ما لا يعلم، ويملك الأمر كله، وعنه يصدر الخير كله، فلا يمكن لأمره أن يكون إلا خيراً، ولا يمكن لإرادته أن تكون إلا براً، ولا يمكن ان يكون في ما اختاره له إلا الكرامة كلها، فانصاع لأمر ربه على ما سببه له من معاناة وأطاعه إسماعيل وهو يقول:«افعل ما تؤمر» ولم يقل له «افعل ما تريد» لأنه يعلم أيضاً أن الأمر هو أمر الله ، وأن الكرامة الحقيقية هي في تنفيذه. وإذا كانت طاعة إبراهيم وإسماعيل، أيها المسلمون ، طاعة إيمان وإدراك للكرامة والتزام بموجباتها فإن رب العالمين يبقى هو الأكرم، فكلما أقبلت عليه بالطاعة أكرمك بالرضا، وكلما أكرمك بالرضا نمت كرامتك، وأحسست بقدرك يعلو ويعظم عند الله ثم عند الناس. وهذا ما كان من أمر إبراهيم وإسماعيل عندما أقبلا على الله بالطاعة الكبرى فقد أكرمهما بالرضا ففدى إسماعيل بذبح عظيم، يؤكد لعقول البشر أن كرامة الإنسان التي تنمو على أرض الطاعة، هي كرامة خليقة بالصيانة من جميع الوجوه حتى ولو اقتضى ذلك الفداء... وان الحج إلى بيت الله العتيق، الذي فرضه الله على المسلم المستطيع في العمر مرة هو وجه من وجوه طاعة الله عز وجل، وبالتالي هو وجه الكرامة الإنسانية يسعى الحجيج إلى تحقيقها وهم يهتفون ملء القلوب والحناجر «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» وإذا كانت هذه المظاهرة الإسلامية الكبرى مظاهرة طاعة عظمى، يطوف فيها الحجيج حول أول بيت للتوحيد اقام إبراهيم دعائمه، فإنها في الوقت نفسه مظاهرة للكرامة الإنسانية، كانت الريادة فيها لسيدنا إبراهيم عليه السلام الذي ربط العبادة بالتوحيد، والتوحيد بالطاعة، والطاعة بالكرامة، فإذا بحجاج بيت الله الحرام يجهرون بعبادة الله الواحد الأحد، ويهرعون إلى طاعته إحراماً وطوافاً وسعياً ووقوفاً ورمياً، ويعاهدون الله سبحانه عهداً لا رجوع عنه، أن يصدقوا التوبة، ويخلصوا النية، ويحسنوا المعاملة، فأي كرامة هي للإنسان أعظم من تلك التي تسمو به إلى مراتب الأصفياء والخلصاء والأتقياء ، وصدق الله تعالى حين يقول: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ». إن أولئك الذين يظنون إن الكرامة الإنسانية تكمن في الثياب الفاخرة أو الأموال الكاثرة أو المقتنيات الباهرة، يكتشفون فجأة وهم بين جموع الحجيج الذين خلعوا فاخر الثياب يكتشفون فجأة تلك الحقيقة الإلهية البسيطة إنهم أمام الله سواء، لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ولا أتباعهم من الله شيئاً.. وأن الكرامة الحقيقية هي في صدق الصلة بالله عز وجل، وهي في صدق العهد مع الله تبارك وتعالى، وهي في احترام حقوق وكرامات الناس، فالناس هنا بشكل خاص سواسية كأسنان المشط لا فرق لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود ولا لغني على فقير ولا لأمير على مأمور إلا بالتقوى والعمل الصالح. أيها الإخوة المواطنون، إذا كانت طاعة الله طريقاً للسمو بالإنسان وصوان كرامته، وإذا كان الحج إلى بيت الله العتيق وجهاً من وجوه الطاعة والكرامة معاً، فإن الإسلام كله بعقيدته وتشريعاته ونظمه هو العطاء الرباني الكلي الذي ارتضاه الله للإنسان ليحقق كرامته في كل زمان ومكان، كما في القديم والحديث على ألسنة الرسل السابقين كما على لسان محمد عليه الصلاة والسلام، حتى لقد ارتبطت الدعوة إلى كرامة الإنسان عند الرسل بالتضحية السامية في سبيل تبليغ هذه الدعوة وصون كرامة الإنسان، فأين نحن اليوم من هذه الكرامة الإنسانية التي حرصت كل الرسل على صيانتها ورعايتها، وقد أصبحت في عالمنا العربي والإسلامي اليوم في موضع الامتهان والمذلة، بل ولم تعد النفس البشرية إلا وسيلة لتحقيق هوى، أو ممارسة نزوة، أو فرض سلطان، وويل للإنسان الذي لا يميل مع الهوى، أو لا يتجاوب مع النزوة، أو لا يخضع للسلطان لقد أصبح قتل الإنسان كل الإنسان بما فيه كرامته، لا مسؤولية فيه ولا مسؤولين عنه، ولا حساب عليه.. وهو الذي قدس الله أمنه وسلامته وحقه في الحياة حينما قال: «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا» فأي كرامة للنفس الإنسانية أعظم من هذه الكرامة التي سما بها الإسلام وأنزلها منزلتها اللائقة بها، حينما جعل قيمة الحياة الفردية الخاصة في مستوى قيمة الحياة الإنسانية العامة، لا فرق بين هذه وتلك، لأنها كلها من خلق الله، ولأن في الفرد على صغره ينطوي العالم بأسره، ولأنه بمفرده يحمل كرامة الإنسانية كلها بمثل هذا الميزان الإلهي ينبغي أن نزن كل ما يجري اليوم من قتل واقتتال، وخراب ودمار في طول بلاد المسلمين وعرضها، فليس من بلد من بلاد المسلمين، إلا فيه اليوم قتل واقتتال، وفتنة وتخريب وتدمير، و فرقه ونزاع، كأنما احل دماء المسلمين للمسلمين، واستبيحت أرض المسلمين للخراب ونذرت ثروات المسلمين وطاقاتهم للهدر والضياع، بينما رسول الله صلى اله عليه وسلم يوصينا بوصيته في خطبة الوداع حينما قال:«ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، إلا هل بلغت قالوا نعم، قال اللهم أشهد، فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض». عفوك يا رسول الله، فإن المسلمين لن يعودوا من بعدك كفارا وقد تركت فيهم أمرين ما أن تمسكوا بهما لن يضلوا أبدا ، كتاب الله وسنتك، وليس ما بين المسلمين اليوم يا رسول الله إلا خلاف أن رجعوا إلى الله وإليك عرفوا أنهم مدفوعون إليه، والتقوا على أخوة في الإسلام أمر الله بها، أو لم تعلمهم يا رسول الله قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ان ما يدمي قلوبنا يا رسول الله أن ترى زمراً من المسلمين تحت شعارات من الحق، وفي سبيل أهداف حوت الخير الكثير، تقاتل زمراً منهم أو دولاً إسلامية تتربص الدوائر بدول إسلامية، بل أن تفاجئنا الصدمة العربية والإسلامية الكبرى بالحرب التي قامت بين العراق وإيران، وكلاهما عين نرى بها ويد نشد عليها، وأمل نتعلق به، هذه الحرب المؤسفة التي كثفت الحجب في وجه المسلمين، حتى ضللت رؤيتهم، وشلت أيديهم، وحيرت قلوبهم وأدخلتهم في دوامة لا يعرفون معها المصير ولا القرار. أيها الإخوة المسلمون، ان اشتعال المنطقة العربية والإسلامية بالحروب والفتن مسؤولية كبرى نتحملها جميعاً أمام الله تعالى وهو الذي يقول: «أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». كما ان هذه الحروب والفتن ليست صدفة عمياء، يتجاوب فيها القتل مع القتل ، من المشرق الإسلامي إلى المغرب الإسلامي، ومن الشمال إلى الجنوب، وفي زمن واحد، وباتجاه هدف واحد وبتنسيق عجيب حتى ليكاد يبدو أن هناك عقلاً شيطانياً واحداً يزرع بذور الفتنة هنا وهناك، ويشعل نار الحروب في كل قطر، ويكيد للإسلام والمسلمين من كل جانب، ويخلق لكل العرب أسباب الفرقة والنزاع والضعف والخذلان بلا مناسبة، إن المرء ليقف أمام كل ذلك ويتساءل من هو المستفيد من هذه الدماء البريئة التي تسيل، وهذه الحروب التي تشتعل، وهذه الثروات والطاقات البشرية التي تهدر والأنفس الزكية التي تزهق، ان النتائج التي انتهت إليها هذه الأحداث الدامية حتى الآن هي التي يمكن وحدها أن تحدد من هو المستفيد من تصديع كيان هذه الأمة، وتشير بأصابع الاتهام العشرة إلى الجهات التي تتغذى على ثروات المنطقة المهدورة، وتتدفأ على نار الحروب المشتعلة، والنتيجة الأولى التي أسفرت عنها هذه المآسي حتى الآن فهي فتح الطريق أمام التمادي الإسرائيلي لإقامة المزيد من المستوطنات، واتخاذ القرار بضم الجولان إليها، واستيلائها على قسم من الجنوب اللبناني وغاراتها عليه وسيرها في محادثات الحكم الذاتي الهادفة بالنتيجة إلى التوطين ،كل ذلك تحت مظلة الصراع العربي العربي، والتقاتل الإسلامي الإسلامي، أما النتيجة الثانية فهي انشغال المسلمين والعرب عن لبنان ومآسيه ثم عن أفغانستان ودمارها مما مكن للاحتلال الأجنبي في بلاد المسلمين، والنتيجة الثالثة هي إسراع قوى الرأسمالية الغربية في مقابل قوى الشيوعية لاحتلال قواعد لها في أكثر بلاد المسلمين، وتجهيز ما يسمى بقوى التدخل السريع ، للسيطرة على منطقة الخليج العربي بأسرها، كأنما هناك قرار دولي جرى الاتفاق عليه في الخفاء لاستبدال حرب الأقوياء بحرب الضعفاء أو للإيهام بذلك ليتيسر للمستعمرين الغربيين استعادة مناطق نفوذ لهم في الشرق العربي، وإنهاك العرب والمسلمين بواسطة العرب والمسلمين، وتأمين النفط والثروات في بلادنا، لدول الشرق والغرب معاً ، مقابل حماية أجنبية كاذبة، لأنها موجهة من أعداء الحق وأعداء حرية الإنسان ولأنها حماية المسلمين في حربهم مع المسلمين، وحماية للعرب في حربهم مع العرب. إنها الحماية العدوانية المجنونة الجائرة التي لا نكتفي باستضافتها على أرضنا بالمجان وإنما ندفع لعينيها أغلى المهور، دماً يراق، وثروة تهدر، وحرية تسلب، وأرضاً تنهب، ووحدة تنهار، وكرامة للإنسان تتمرغ في التراب. لقد بدأت اليوم قبضة الحماية تقرع بشدة متزايدة أبواب العروبة والإسلام، كما ضربت أبواب المسجد الأقصى والقدس الشريف ثم انتقلت إلى الحرم المكي في العام الماضي، كل ذلك لتقول لنا ها هي أقدس مقدساتكم أيها المسلمون في متناول أيدينا نستطيع أن نصل إليها، ولنا إليها ألف طريق وطريق. أما بواسطة الصهيونية نغذيها بالسلاح، وأما بواسطة الإلحاد نبثه في صدور الشباب ونزينه لهم، وأما بواسطة الرأسمالية نفسد بها الضمائر ونشدها إليها، وأما بواسطة الفرقة بين المسلمين نغذيها بالضلال والفساد، أيها المسلمون، إنه إن صدق ظن المستعمر هذا فإنه لن يمضي كبير وقت حتى يدب الوهن في الصدور، ويستسلم المستسلمون إلى حماية من كان سبباً في العدوان على الأرض والشعب والمقدسات، وحتى يصدق في المسلمين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «تكاد تداعي عليكم الأمم كما تداعي الأكلة إلى قصعتها، قالوا أو من قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا بل أنكم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في صدوركم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت». إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا هنا أن كرامة الإنسان التي لا تعلوها كرامة هي في محبة الموت في سبيل الله ، يعني في الجهاد من أجل استرجاع الأرض وصون العرض وحماية المقدسات، ورفع راية الحق والعدالة بين الناس، كما يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، إن لا حماية للعرب والمسلمين من خارج العروبة والإسلام، فكل الدول لها في بلادنا أطماع ومآرب، وإنه لا حماية للعروبة والإسلام إلا بالوحدة التي تنهي حالة الغثاء والتفرقة والتصدع، ولا حماية للعروبة والإسلام إلا بقرار عربي إسلامي مستقل وجريء يجمع عليه الملوك والرؤساء والقادة، نقولها ونحن نتطلع إلى مؤتمر الطائف الإسلامي ينعقد في القريب، عسى أن يحقق الله على أيديهم، ما يحجب دماء العرب والمسلمين ويحقق وحدتهم، ويحمي مقدساتهم، ويعيدهم أعزاء بالإسلام، أقوياء بالإيمان. ايها الإخوة المواطنون، أما نحن في لبنان، فحالنا من حال هذه الأمة، وتفرقنا من تفرقها، ومأساتنا من مأساتها، ومصيرنا من مصيرها، ولقد فكر الكثيرون من المسؤولين في لبنان في كيفية فصل الأزمة اللبنانية عن أزمة المنطقة فلم يجدوا حتى الآن أي حل ولم يصلوا إلى أية نتيجة، وإذا كان المسؤولون قد عجزوا عن ذلك وقد كانت أمامهم الأزمة الفلسطينية وحدها، فكيف اليوم وقد أصبحت أمامهم أزمات أشد خطورة، وأزمات غيرها أكبر وأخطر ترهص بها الأحداث، وتنذر بها الحروب، وتهدد كل شبر من بلاد المسلمين باندلاع النار وانتشار الدمار لقد كان حل القضية الفلسطينية، في حسابات دول السيطرة هو في بعث قضايا أكبر وأخطر من القضية الفلسطينية تمكن بشكل أو بآخر من دفع القضية الفلسطينية إلى الظل والنسيان ولو لفترة ما وهكذا الحال بالنسبة للقضية اللبنانية التي أصبحت أمراً ثانوياً ومنسياً في حساب التوازنات الدولية الجارية، التي ليس للبنان فيها دور ولا فعل ولا صوت، ويبدو ان هذه الحقيقة المرة قد أصبحت في قناعة المسؤولين على مستوى لا يقبل البحث أو المناقشة، وأصبحت هذه القناعة اليائسة تشكل أساساً لسياسة الدولة في لبنان، حتى لم يعد للدولة دور ولا فعل ولا خطة، لا في الداخل ولا في الخارج، فاكتفت بالحد الأدنى من السلامة تطلبها تحت مظلة الانتظار ،من خلال حكومة مستقيلة تصرف الأعمال، في الوقت الذي يطرح فيه الرغبة من حين لآخر في تأليف حكومة فعاليات على الرغم من أنه لا قدرة لأية حكومة لبنانية على الفعل والتأثير في ما يجري في لبنان وخارج لبنان من أحداث دولية تتجاوز قدرته، وتتعدى طاقاته، وتخرج لبنان بأسره حتى من أبسط أدوار اللعبة الكبرى، ان هذه الواقع المرير الذي يسقط بالضرورة المنطقية أي تفكير في تأليف حكومة فعاليات ، يبقى على مرارته وقساوته بأن يدفعنا إلى الخروج من حالة الانتظار السلبي لندخل في حالة الاستعداد لكل الاحتمالات الصعبة، ومجابهة كل الأحداث المرتقبة ، فالشهور القليلة المقبلة تحمل كما تفيد مؤشراتها بألف مفاجأة، لا يمكن أن تجابهها إلا حكومة قادرة ومسؤولة تمتلك كامل الصلاحيات، وتعالج المستجدات بالقرارات المتوازنة التي تحفظ لبنان وحدته، وتصون أبناءه وأرضه من أية انعكاسات للصراعات الدولية والإسلامية والعربية التي تعودت ان تنتقل إلى أرضه بأسرع من لمح البصر ولبنان لم يعد قادراً على تحمل صراعاته الداخلية، فكيف بالصراعات الوافدة يتحملها عدواناً على السفارات، وخطفاً للأبرياء، وترويعاً للآمنين، واعتداء على الكرامات ، لقد بتنا في لبنان نشعر أننا أصبحنا بأمس الحاجة لإدراك الإخوة العرب حراجة موقفنا، ودقة ظروفنا، وصعوبة موقعنا، فلا تكون خلافات أبناء لبنان عبء يضاف إلى أعبائهم، في الوقت الذي ندعو لهم فيه بكل صدق أن يوحد الله كلمتهم وينهي خلافاتهم، ويجعلهم صفاً واحداً أمام الأعداء، ان دورنا في لبنان، وفي هذه المرحلة بالذات، لا يستطيع أن يتخطى هذه الحدود، لأنه لا قدرة لنا على تخطيها من أي جهة، فكل ما يوحد العرب والمسلمين ويجمع كلمتهم يسرنا ونحن معه نبذل له كل ما نملك من الجهد والنفس ما نستطيع. ونحن في سبيل ذلك نشعر أن علينا واجب الاستفادة من كل الظرف التي فرضتها علينا الحرب الأهلية في لبنان، فإذا كانت هذه الحرب قد أوجدت قوى ومنظمات محلية، فإن على هذه القوى وتلك المنظمات ، في حالة انعدام الوزن اللبناني الذي نعانيه، ان تتحول لا إلى قوى بديلة عن الشرعية، وإنما إلى قوى ومنظمات تساند الشرعية وتدعمها، فإذا كنا حريصين حقاً على وحدة لبنان شعباً وأرضاً ومؤسسات، فينبغي أن يكون حرصنا على وحدة الدولة الشرعية برموزها وأجهزتها وأنظمتها جميعاً هو المقدمة الضرورية لحرصنا على وحدة لبنان، من هنا فإن مسؤولية هذه القوى والمنظمات جميعاً ينبغي ان تكون في الحرص على تثبيت الأمن، وعلى النظام، وعلى الحقوق والواجبات والآداب والحرمات وعلى الصحة وقواعد النظافة، وما إلى ذلك من أمور تعيد للمواطن اللبناني كرامته التي افتقدها منذ زمن طويل وإذا كانت هذه المسؤولية هي مسؤولية القوى والمنظمات، فهي في الوقت نفسه مسؤولية كل مواطن، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكل راع مسؤول عن رإ |