الحمد لله الذي هدانا لعبادته، وعرفنا بالفكر على جميل فضله ونعمائه وجعل الخير والشر والحرمان والعطاء والأمن والخوف والموت والحياة، من بوادر سلطانه وابتلائه، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين. أما بعد فها هو عيد الأضحى يطل علينا بعد ثمانية أعوام انقضت مثخنة بالجراح غارقة بالدم عابقة برائحة الموت، مجللة بالظلم والقهر، يذوقه منا كل صغير وكبير ويعاني من جحيمه ما لا يتحمله إلا الأئمة الصابرون فلا يزيدنا إلا إيماناً بعدل الله وتسليماً لقضائه وآملاً في نصره، رغم أنه ما من أحد إلا وقد فقد الأهل، أو المال، أو المأوى، ويشعر تحت وطأة الاحتلال باستلاب حريته الوطنية . أنه لا مناص من تصدينا لهذه المكاره، ولكن هذا التصدي يبقى مختلاً وينقلب خاسئاً ما لم يعتصم بالله مسلحاً بالإيمان بعدله والتسليم لمشيئته حتى تحظى بتأييده ونصره. وأن لنا من قصة سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام قدوة وعبرة تهدينا إلى الحق في ما نقدمه من تضحيات كبرى ونتعرض له من محن عصيبة، فقد أخبرنا الله تعالى حكاية عن إبراهيم في قوله لإبنه: «إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى» وبإجابة إسماعيل له بقوله: «قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» ولما اندفعنا طائعين لتنفيذ أمر الله إيماناً وتسليماً وباشر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل حتى جاء الفرج من الله سبحانه وتعالى، وانقلب ما وقع فيه من خطر إلى أمن وسلام عندما سمع نداء ربه يقول له: «وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ». وهذا يدل الدلالة القاطعة على أنه ما انقاد العبد يوماً لله انقياد الصابر المؤمن إلا وكان الله معه يكشف بلاءه ويزيل كربه ويبدله عنهما نعمة وحبوراً فقد كان إلى جانب نوح في الطوفان وإلى جانب إبراهيم يوم كاد له قومه وكادوا يحرقونه بالنار لولا أن جعلها الله عليه برداً وسلاماً، وكان مع أيوب يوم كشف عنه الضر وأتاه أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى للعابدين، وكان مع ذي النون الذي ابتلعه الحوت فناداه وهو في ظلمات بطنه بقوله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجاب له ونجاه من الغم، ومع زكريا الذي ناداه قائلاً رب لا تذرني فرداً فاستجاب له ووهب له يحي وأصلح له زوجته التي كانت عاقراً، وكان مع المؤمنين ايام موسى عليه السلام ومع داوود وسليمان ثم مع عيسى إذ انقذه من أيدي ظغاة بني إسرائيل ورفعه إليه، ثم مع محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم من مبعثه حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى وبخاصة في هجرته ويوم بدر والأحزاب وحنين وفي المواقع كلها يمن على رسوله وعلى المؤمنين في آيات طوال تعبر كلها عن هذا المعنى، عن نجدة الله لعباده الصالحين ونصره لهم حيث يقول سبحانه وتعالى: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ» أيها المؤمنون، إن الرجوع إلى الحق فضيلة، وهو خير من التمادي في الباطل، وان سياسة نقد الذات بقصد التصحيح لا التجريح، وإعادة البناء لا الهدم، هي من أنبل ما استشرف إليه الإنسان، انطلاقاً من هذا المبدأ نقول إن ما نزل بنا وما يزال يصيبنا كل يوم من الهوان ومصائب الموت والدمار، هو ثمرة ما جنته أيدي الكثيرين من اللبنانيين وفي مقدمتهم أكابر القادة والمسؤولين عنا على مدى نصف قرن من الغفلة عن الحق، وعن الإلتزام بطاعة الله، ومن التلاعب بمصائر العباد، اتباعاً للهوى وإيثاراً للمصالح والأنانيات. وإن الرجوع إلى الحق والنقد الذاتي البناء، يبدأ بالتوبة إلى الله، والتصميم المخلص على وصل ما انقطع بينهم وبينه سبحانه، واصلاح ما فسد عسى الله أن يجلي القلوب ويعزز الهمم ويأتي بالفتح المبين، وهو القائل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ومن أصل التوبة إلى الله والعودة إلى الحق الإجتماعي هو أن ننظر في أنفسنا ومجتمعنا نظرة متعمقة، تستوعب كل ما نزل من الكوارث والآلام، ثم نتحرك بعزم وقوة مستعينين بالله لإعادة البناء والترميم في المساكن والمؤسسات على أسس عملية مدروسة ولمسح جراح الناس وكفكفة آلامهم ومصائبهم بالتعاون وبإمكانات جماعية طوعية توفر علينا الكثير من التكاليف وهدر الطاقات وضياع الوقت. وفي المجتمع مصابون بمصائب كبيرة جداً لا يطيقون حملها، وفيه من أصيبوا بإصابات يطيقون حملها، ومن المصائب ما كان بالنفس، ومنها ما كان بالمال أو البناء، ويجب على الذين لم تنزل بهم مصيبة الموت أو مصيبة النفس أو المال، أو اصيبوا ببعضها بإصابات طفيفة، ان يحركوا وجدانهم وضمائرهم وينظروا إلى الواقع بكثير من الجد والاعتبار، فإن يد الله على الجماعة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وما نقص مال من صدقة، وفي نظرنا، ولعله هو الحق، ان من اصيب فقد تحمل الكثير عن نفسه وعمن لم يصب، ولذلك فإن على من لم يصب أو كانت اصابته طفيفة وغير مكلفة، أن يعتبر اصابة الآخرين اصابة له، والسعيد من اعتبر بغيره، وفاز بالخير مرتين: مرة عندما نجا من نزول المصيبة به، ومرة يفوز بأجر الله وثوابه على عطائه وبذله، ومد يد العون والمساعدة لأخيه المصاب، ويوم القيامة يقول الله تعالى للعبد كما ورد في حديث قدسي: «يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، فيقول كيف أطعمك وأنت رب العاملين؟ فيقول جاع أخوك المسلم فلم تطعمه لو أطعمته كنت أطعمتني» وكذلك قد يرد مثل هذا المعنى في إعانة من تهدم مسكنه أو تصدع، ومن شوهت أجسادهم أو جرحت ولم يجدوا العون ممن يملكونه ويقدرون عليه ... أيها الأخوة، ان العدو الإسرائيلي قد اجتاح أرضنا، وعدا علينا بعد ثماني سنوات من العذاب والعنت. ولقد كان لبنان مؤامرة دولية منذ عام 1974 وحتى اليوم كما كانت فلسطين من قبل، ومنذ ذلك التاريخ ونحن نعاني التهجير والتدمير والسلب والنهب والقتل وانتهاك الحرمات والمقدسات وأماكن العبادة دونما رقابة من ضمير أو مخافة من الله العلي القدير، وان مجزرة كفر قاسم ودير ياسين اللتين ارتكبتهما إسرائيل عام 1948 تتكرران اليوم وبصورة اشد على يديها في مخيمي صبرا وشاتيلا ومن قبل في عين الحلوة، بالإرهاب نفسه والحقد نفسه وبالأيدي نفسها إلا أن الفارق هذه المرة هو ان الضحايا الأبرياء الذين سقطوا بالآلاف عزلاً من السلاح من الأطفال والنساء والشيوخ، كانوا من الفلسطينيين واللبنانيين بلا تفرقة ولا تمييز، وإن هذه المرة قد ارتكبت المجزرة تحت غطاء من ضمانة الولايات المتحدة وتعهدها بأن لا يقع على السكان المدنيين في بيروت من اللبنانيين والفلسطينيين أي أذى أو ضيم .. ولن يخفف من هول هذه الكارثة الإنسانية إلا أن يبادر المسؤولين بتشكيل لجنة تحقيق وطنية موثوقة تكشف الكثير من خلفياتها وتضع الأيدي على الذين شاركوا فيها وخططوا لها وسكتوا عنها، بيد أنه يبقى بين أيدينا مصير وطن، ووحدة شعب وبناء دولة حديثة جديرة بالبقاء ، فلتكن مرارة التجربة شعلة نرفعها لتضيء أمامنا طريق العمل ، وليكن أول درس نستخلصه ونبدأ بتنفيذه هو أن لبنان لا يقوم إلا بنفسه ولا يبني إلا بسواعد بنيه . فاليوم وقت الجد ولا محل فيه للإستهتار بمصائر المواطنين ، واليوم وقت العمل ولا مجال فيه للتهاون بحقوق الوطن ، واليوم وقت التنافس بالبذل والسخاء للفوز برضوان الله ومحبة الله وعون الله ونصر الله، فمن كان قادراص على بذل الالف فى يبذلن المئة، ومن كان قادراً على بذل العشرة الآلاف فلا يبذلن الألف ومنكان قادراً على بذل المئة ألف فلا يبذلن العشرة آلاف لأنه إنما يدفع لله الذي يقول: «مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» والذي يقول: «مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». أيها الأخوة، إن مجتمعنا اليوم منكوب، وعشرات الآلوف منه بلا مأوى ولا مطعم ولا كساء، تتآكلهم الحسرة وتطحنهم المصائب وتعتصرهم الآلام والأحزان، وكثيرون منا يرتعون في السعة والوفرة وبحبوحة القناطير من الذهب والفضة وعروض المال، ولن ننقذ وضعنا إلا إذا حاربنا شح أنفسنا، وذكرنا النهاية الخاتمة، وساعة الحساب والموقف الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى لله بقلب سليم وعمل صالح... أيها الأخوة، ان الأمة المتماسكة لا تغلب، والشعب المتحاب المتكافل منتصر في النهاية، والوطن الحي لا تزيده الهزيمة إلا عزيمة وتصميماً على تخطي الصعاب حتى يضمن الفور المبين. وما أصيب به شعبنا خلال السنوات الثمانية السابقة من الدمار والخراب والموت، أصيب بمثله عبر التاريخ بفعل الزلازل والحروب الصليبية وحروب التتار، ومع ذلك فقد نفض عنه غبار الموت ، ونهض يقارع من جديد صروف الدهر، ويؤدي الدور الذي اختاره الله له... واليوم هو مدعو أيضاً للصمود ببأس وعزيمة وصبر ، ليحافظ على بنيته الذاتية، وتراثه الحضاري، وقيمه الدينية والتاريخية، إنه مدعو لرفض الاحتلال الإسرائيلي وإدانته معولاً على وحدة بنيه، ومستعيناً بعلاقاته الدولية وبشرعة حقوق الإنسان وبحقه بالسيادة المطلقة والتحرر الكامل . لبنان العربي السيد الحر الآمن المستقر. أيها اللبنانيون، حفظكم الله وأعانكم ورعى ايامكم ومجتمعاتكم وجعل العيد المقبل خيراً مما نحن فيه تشرق فيه بسمة إسلام والأمان ويظلكم فيه الحق والعزة ووفقنا الله وإياكم وهدانا وتقبل منا ومنكم ومن حجاج بيت الله الحرام ورحم الله شهداءنا الذين سقطوا في مواجهة العدو الإسرائيلي وهم يرفعون راية الحق ويبتغون وجه الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . |