كلمة فضيلة مفتي لبنان الشيخ حسن خالد التي القاها في حفل تكريم الشيخ ابو الحسن الندوي في 15/04/1405هجرية، الموافق في 06/01/1985، رداً على بعض الأسئلة بالنسبة إلى رحلته إلى بولونيا ولقاء المسلمين. وتحدث مفتي لبنان الكبير تلبية لرغبة معالي الشيخ عبد الله بلخير فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه أجمعين... أما بعد فلعل من بركات هذه الجلسة، ومن بركات علامتنا معالي الشيخ أبي الحسن، وأستاذ الجميع، والقدوة في الدعوة، وفي النشاط للعمل الإِسلامي الدؤوب لعل من بركات ذلك أن دعينا على غير موعد، واجتمعنا في هذا اللقاء، ولقينا أيضًا معالي الشيخ عبد الله بلخير، وكانت هذه الفرصة المباركة ليثار هذا الموضوع.
لقد ُكتب لي أن توجه إلي دعوة من الحكومة البولونية، أو من المسلمين البولونيين بوساطة الحكومة لأفتتح مسجداً كان مفروضاً أن يبنى في منطقة جدانسك، وبمجرد أن عرفت أن في بولندا مسلمين تاقت نفسي إلى أن أتجه إلى هذه المنطقة لعل الله يهيئ لهم ولنا خيراً، وبالفعل اخترت بعضاً من إخواني الدعاة، واتجهت على الفور إلى صوفيا، وتم هناك أول لقاء ببعض المسؤولين البولونيين لأعرف كيف يمكن أن يكون المدخل إلى التلاقي مع مسلمي بولونيا.
وكان وزير الشؤون الدينية أبرز المسؤولين الذين قابلتهم، ومن خلال محادثتي معه سألته هل يمكن أن نساعد المسلمين ونبني لهم بعض المساجد أو نرسل لهم بعض الدعاة، أو نأخذ من هم بعض الأبناء إلى جامعات عربية، أو إلى معاهد عربية، فنعلمهم اللغة العربية والإِسلام؟ فقال لي: أنا أدعوك بإلحاح أن تثير هذا الموضوع مع كل المسؤولين المسلمين في العالم الإِسلامي، وتشجعهم ليحاولوا أن يقدموا الخدمات الدينية إلى مسلمي بولونيا.
ما كنت أنتظر هذا من وزير الشؤون الدينية، ولما ذهبت للقاء وزير الثقافة أعاد على سمعي مثل هذا الكلام، ورأيت منه شيئاً عجباً وهو أنه كان يحرص على أن نلتقي بالمسلمين والعائلات الإِسلامية، وأن يكون بيننا وبينهم ما يساعدنا على أن نستشف بعض ما عندهم من حاجات إسلامية، ثم نحاول أن نقدم لهم الخدمات التي هم في أمس الحاجة إليها، وبالفعل التقينا بالمسلمين الموجودين في فورصوفيا، وتوجد الكثافة الإِسلامية في جدانسك التي تقع شمال بولونيا على بحر البلطيق، وهؤلاء المسلمون لا يكاد يزيد عددهم على ١٥٠٠ مسلم، ومع ذلك فإنهم بدأوا في وضع قواعد بناء مسجد على بحر البلطيق، والعجيب أن الله سبحانه وتعالى يسَّر لي أن أدخل هذه المنطقة، وأقوم بزيارة بعض سكانها من المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً. وعقدت عدة جلسات بيني وبينهم تناولت فيها معهم نقاش بعض المواضيع المحزنة.
غير أن الذي يدخل إلى القلب كثيراً من الاطمئنان هو أن الإِسلام بالرغم من أنه ليس له من ممارساته الشيء الواضح، إلا أنه ما زال يعمر قلوب هؤلاء السكان، وما زال يحركها ويحرضها لتعيد ممارساتنا، وترجع بأبنائها لحظيرة الإِسلام الصحيح السوي ولقد شكا إلي شاب يعمل مهندساً إليكترونياً قائلا: يا أستاذ إنك عتبت علينا لأننا لا نعرف الإِسلام، إن أبي وأمي مسلمان، لكنهما لا يعرفان الكثير من الإِسلام، وما يعرفانه لا يستطيعان أن يترجماه لي، فكيف تنتظر مني وأنا في هذه الصورة أن أتعرف على الإِسلام، وأن أمارس الإِسلام؟ ورغبةً مني في التعرف على الإِسلام ذهبت إلى العراق لكني لم أجد في العراق من يدلني حقيقة على الإِسلام، ويهديني إليه حق الهداية، فرجعت من العراق كما دخلته، لعدم معرفتي اللغة العربية التي هي وسيلتي للتعرف على لغة القرآن، ولتعلم القرآن الكريم، والتفقه في الدين، فقلت له: ألست بولونيا؟ لقد قرأت لأحد البولونيين اليهود بعد إسلامه كتاباً اسمه "الإِسلام في مفترق الطرق"، وكتاباً آخر اسمه "الطريق إلى مكة"، وعندما قرأت كتابه "الطريق إلى مكة" بكيت لأنني كنت مقصرًا تجاه إسلامي وتجاه ديني.
هذا الرجل البولوني استطاع بفيض محبته للإِسلام أن ينقل الإِسلام خير نقل، وأن يفيد به المسلمين، فلماذا لم تتعلم كما تعلم هذا الشاب؟ أنا لا أحملك وحدك تبعة هذا التقصير ولكن أعتبرك مسؤولاً، وأطلب منك أن تتحمس وتتشجع كما تحمس وتشجع من سبقك، فتعلم العربية، ثم كتبها، وتحدث بها واستطاع أن يؤثر على الكثيرين من أبناء بلدته ومن المسلمين الآخرين فوعدني يومها أن يدرس الإسلام، وذهب معي إلى النادي واستمع إلى محاضرة ألقيتها هناك، وهناك رأيت من المسلمين والمسلمات ما يبكيني، فقد أخذوا يسألونني أسئلة شتى، ومن الأسئلة التي وجهت إليَّ سؤال نصه: هل يصح لأحدنا أن يتزوج المسيحية؟ فأجبته أن زواج المسلم بالكتابية أمر ممكن، فاندهشوا واستغربوا أن أفتي لهم بجواز قران المسلم بالمسيحية وصاحوا في وجهي صيحة رجل واحد مستنكرين ذلك، ويرجع السبب إلى جهلهم بتعاليم الدين الإِسلامي، واعتقادهم بأن زواجهم بالمسيحيات يسوقهم لأن يهيئوا أولادهم ليكونوا من بعدهم كفاراً.
ولقد تأثرت كثيراً لما رأيته من عمق الشعور الإسلامي لديهم، وقلت في نفسي كيف يكون حال هؤلاء لو أننا علمناهم الإِسلام، ونقلناه إلى قلوبهم عن طريق التيسير والتبسيط، ولقد حاولت خلال إقامتي بينهم أن أعلِّمهم قصار السور وكيفية الصلاة عملياً.
خلاصة القول: إن هؤلاء المسلمين في فور صوفيا يريدون أن يبنوا في نفس العاصمة مركزاً إسلامياً يشتمل على مسجد، ومركز للقاء المسلمين، وأن يقيموا مركزًا آخر في بياوستوك في المنطقة الشرقية التي توجد فيها كثافة إسلامية، ومسجدًا ثالثاً في منطقة جدانسك. وهم يرغبون انتهاز الفرصة التي سمحت بها الأنظمة الشيوعية بالمنطقة لكي يبنوا لهم مساجد ومراكز حتى يقف المسلمون معها ضد الكاثوليك، الذين يعتبرون الخصم اللدود للأنظمة الشيوعية هناك. وقد وعدتهم بأن أرسل لهم المساعدات تلو المساعدات، حتى يبنوا هذه المراكز الثلاثة في مناطق بولونيا .وفي رأيي الخاص أننا إذا استطعنا أن نبني هذه المراكز، واستطعنا أن نأتي ببعض أبنائهم للمناطق الإِسلامية، فإننا نكون قد بعثنا الإِسلام من جديد في قلوب هؤلاء المسلمين.
إنكم تقرؤون اليوم عن المسلمين في إسبانيا، أنهم بدؤوا يظهرون على السطح بعد أن كانوا متوارين عن الأنظار. أتدرون لماذا كانوا مستخفين؟ لأن الكثلكة الموجودة في إسبانيا كانت رابضة على قلوبهم، وكانت مفزعة لهم ومخيفة ومرعبة. تمارس معهم أساليب التعذيب وأساليب التخويف، وكذلك في بولونيا استخدمت الكثلكة نفس الأساليب الجهنمية مع المسلمين لدرجة أنها أبادت الجماعات الإِسلامية في منطقة جدانسك عن بكرة أبيهم، لقد كان البولونيون يضعونهم في فوهة المدفع، أي يجعلونهم في مقدمة الجيش البولوني في المعارك الطاحنة مع الألمان ومع غير الألمان من أعداء بولونيا، لكي يتلقوا الضربة الأولى فيقضى عليهم، وبذلك يتخلص البولونيون منهم.
إنني أدعوكم في هذا اللقاء المبارك الذي يرأسه فضيلة مولانا الأستاذ أبو الحسن الندوي وهو من حدثكم عنه أستاذنا الشاعر الكبير، ومن نعرفه أيضاً بعلمه وفضله وبركاته، ومن بركته أن يسَّر لنا بفضل صديقنا معالي الشيخ بلخير أن ندخل عليكم في هذا الموضوع، فنرجو من الله سبحانه وتعالى أن يلهم القادرين على أن يهيئوا لهؤلاء المسلمين في بولونيا ما يمكنهم من بناء مراكزهم الإِسلامية التي يرغبون في بنائها.
وشكراً لمعالي الوزير، وشكراً لمعالي الشيخ أبي الحسن، وشكراً للمضيف الكبير على ضيافته ودعوته الكريمة التي وجهها لنا داعين الله تعالى له بأن يفيض عليه من نعمائه وأن يغدق علينا جميعاً العطاء الرباني الذي ينير قلوبنا، ويرفع من معنوياتنا لنبني إسلامنا الجديد على أساس الاعتزاز بالله سبحانه وتعالى، والاعتزاز بالإِسلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |