المفتي الشهيد: أعز نداء إلى قلبي هو "وحدة لبنان" جريدة اللواء – التاريخ: 27/5/1989 المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد: أعز نداء إلى قلبي هو وحدة لبنان، لقد خسر لبنان والعالمان العربي والإسلامي باستشهاد المفتي حسن خالد – رحمه الله – علماً من أعلام التوحيد وداعية من دعاة الوحدة الإسلامية والوطنية. ونعرض فيما يلي للكلمة التي كان الشيخ الشهيد قد ألقاها في الحضود التي اجتمعت لتحيته بدار الفتوى بمناسبة انتخابه مفتياً للجمهورية اللبنانية عام 1966.
الحمدلله على ما تفضل وأنعم والصلاة والسلام على سيدنا محمد القائد الأكرم والمعلم الأعظم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى جميع أخوانه أنبياء الله ورسله.
أيها السادة:
شاءت عناية الله تعالى أن يتحقق إجماع كلمة المسلمين على أمر من أمورهم في هذا الشهر العظيم، ولعل بإمكاننا أن نأنس من هذا خيراً إذ نعلم أنه الظرف الذي نزل فيه القرآن الكريم وتوجت فيه التحركات الإسلامية الأولى بأعظم الفتوح، وبالإصابة عن نفسي وبالنيابة عن أخواني وأبنائي في هذا البلد الطيب أحيي مكبراً ومجلاً البادرة النبيلة التي كلل بها سماحة سلفي الجليل الشيخ محمد علايا أجماعكم المخلص بتنازله الكريم، ضارباً بذلك المثل الكبير بالتضحية، ومثبتاً للملأ أن المصلحة الإسلامية كانت دوما هدفه الذي يرخص في سبيله كل عزيز.
وإني إذ أتوجه إليكم بصادق الشكر والمحبة، أعلن أن تفاضل الناس في الإسلام ليس في تسنم ذرى الرئاسات، ولكن بالتقوة والعمل الصالح.
"إنا أكرمكم عند الله أتقاكم" خصوصاً وأن من إخواني العلماء والساسة والوجهاء والمثقفين من هو محل الإكبار علماً ورجاحة رأي، وسر نجاح ذوي القيادات من مختلف المستويات يرجع إلى إخلاصهم، ومدى تطبيقهم لمبدأ الشورى الذي أمرنا الله باعتماده في حل مشاكل الحياة واختيار السلوك إزاء تطورات الأحداث، وذلك في قوله تعالى "وشاورهم في الأمر"، وقوله: "وأمرهم شورى بينهم".
من هنا سيكون بإذن الله انطلاقنا في معالجة قضايانا الخاصة والعامة في جميع الميادين والمؤسسات لتستقيم أمورنا ويتعز كياننا، ويستقر وطننا العزيز على قواعد من العدالة والحق والخير.
ويقيني أننا معشر المسلمين لا تنقصنا حرارة الإيمان الدافع إلى العمل الخير، ولا قوة الإيجابية البناءة ولكننا نفتقر إلى المعرفة الصحيحة لحقيقة أوضاعنا والتوعية المخلصة الصابرة، والتعاون الحثيث لإيجاد التخطيط المنظم الذي يضمن لأفرادنا وجماعاتنا ومؤسساتنا التقدم والسمو إلى مستويات آمالنا وأحلامنا.
إن الإسلام دين ارتضاه الله تعالى للناس وجعله ديناً إنسانياً عالمياً خالداً، يقدم لهم ما ينفعهم ويعينهم على بناء مجتمعاتهم الصالحة، ويحرص على أن تكون للأوطان عزتها فهو بهذا دين تقدمي يبارك حركات الإصلاح، ويجتهد في إقامة العدالة الاجتماعية بين الناس بحيث لا يبغي قوي على ضعيف ولا يستأثر فريق بخيرات الحياة وثرواتها.
ولهذا كان علينا واجب العمل المتصل لنأخذ بحظنا الأوفى من حقول المعرفة والآداب التي يشرف بها الإنسان، كل بحسب طاقته، حتى نكون عند قوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".
كل هذا ضرورة حتمية لخدمة وطننا العزيز لبنان ودفعه إلى الأمام ليكون قوة خيرة مؤثرة في وطننا العربي الكبير، يعين على تحرير بعض أجزائه من غاصبيها ظلماً ويساعد على حسم المنازعات بين الأخوة.
لقد سبق الإسلام الأمم جميعها إلى اعتماد السلم أساساً للتفاهم بين الشعود والدول، قال تعالى: "يا أيها الناس ادخلوا في السلم كافة". فهو بهذا حمل أتباعه رسالة المحبة والخير واللقاء الإنساني في الإطار الكبير.
وإسلامنا هو الذي علمنا بلسان نبيه الأكرم محمد صلوات الله عليه أن "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده" ففتح بهذا قلوبنا على الناس كل الناس من أي لون ودين لتفيض حناناً ورحمة وبراً فالأديان منارات للخير، ومشارق للهدى تنظف القول من الغل والحقد والطمع والأثرة، وتنتهي بالناس إلى التعاون والتواد والتعايش الأمن، قال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين"، ولا غرو، فإنه لا إكراه في الدين، وخير الناس أنفعهم للناس، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله إذا صحت العقيدة، وهو الذي يريد أن يجعل من كل واحد منا عنصراً اجتماعياً فاضلا يبني الأوطان ويثريها، ويخوض معتركها ولا يعتزلها ويحبها ولا يكرهها، ولا عجب فإن حب الوطن عنده من الإيمان بل أنه كلما تعاقدت قلوب المواطنين على المحبة والعدالة بينهم كان الوطن أرسخ أساساً وأرفع وأقوى بنياناً.
وإذا كانت محبة وطننا لبنان تفرض علينا واجبات نؤديها له عن رضى وبسخاء فإن لنا عليه وفيه حقوقاً نحرص عليها حرص القوي الواثق، الذي لا يرضى أن يعيش فيه مع أحد إلا على قدم سواء.
إن الأوطان لا تشاد إلا على أسس من الحق ولا ترتفع وتدوم وتعتز إلا بدعائم من الأخلاق السامية، وسلامة الأوطان لا تكون بصيانة حدودها وتأمين الآليات الحديدية لتقيها عدوان البغاة فحسب، بل تكون أولا وقبل كل ذلك بوجيب المحبة يخفق في قلوب أبنائه فيشع بين صفوفهم نوراً يضيء لهم الطريق، ويجمع لهم القوى، ويدفع بهم إلى الأمام فيما بعد لا يخشون عدوا.
إن لنا عدواً مشتركاً يقيم على أسوارنا ويتربص بنا الدوائر ويتحين بنا الفرص ليجوس خلال نفوسنا وديارنا دساً وخسفاً وتنكيلاً فما أحلى أن تتلاقى فئاتنا في محلبة وصفاء لنواجهه بحزم وقوة واعتداد!
أيها الأخوة، إن أعز نداء إلى قلبي هو المحافظة على وحدة هذا الوطن وقوته، وأن تعيشوا في ظلاله أخوة متلاقين، متحابين في السراء والضراء وإن أكرم المواطنين على هذا الوطن الحبيب هم أولئك الذين يششيعون فيه معاني الحب ومظاهره، ويمدونه بالعطاء في العلم والعمل والبناء ولا غرو. فالقيمة الحقيقية للمواطن هي بما يعطي وطنه من مواهب لا بما يحقق لنفسه من مكاسب. حقظ الله لبنان منارة من منائر العدل والحق والخير، وجمع قلوب أبنائه على المودة والسلام.
وهدانا الله لما فيه طاعته ورضاه والسلام عليكم ورحمة الله.
وهكذا يتبين لنا من خلال استعراض مسيرة حياته ومراجعة مواقفه وإنجازاته إن سماحته كان وفياً ملتزماً بالمبادئ التي أعلنها والتي تعهد بإنتهاجها عند استلامه لمنصب الإفتاء فعمل مخلصاً وحتى الرمق الأخير على إعلاء راسة الإسلام وعلى رعاية شؤون المسلمين خاصة واللبنانين عامة. |