في وداع المفتي بيروت تقول كلمتها مجدداً - محمد مشموشي
ليس مهما كثيراً أن يعرف اللبنانيون، ومعهم العرب بشكل خاص، الجهة التي اغتالت مفتي الجمهورية الشهيد حسن خالد. بل المهم ان يعرفوا ان الاغتيال استهدف قطع الطريق على أية محاولة لبنانية أو عربية، أو حتى دولية، للقفز من فوق الحواجز والعوائق المرفوعة في وجه الحل اللبناني. ولذلك تكتسب المبادرة العربية التي بدأت قبل أشهر في تونس، وحظيت بدعم دولي شبه إجماعي، وكذلك القمة العربية الطارئة المقررة بعد أيام في المغرب، أهمية خاصة بعد اغتيال المفتي ربما لم تكن تحملها بالقدر نفسه قبل الجريمة الشنيعة. ولذلك أيضاً يتقدم الموضوع اللبناني خطوة أخرى إلى الأمام في سلم الأولويات على جدول أعمال القمة العربية المنتظرة، ربما لم يكن ليخطوها إلا بشلاّل دم جديد كان اللبنانيون يتوقعونه عشية انعقاد القمة. فدم المفتي الشهيد، بهذا المعنى، قد يفتدي دماء غزيرة أخرى كثيرة كان مقدراً لها أن تسيل، تماماً كما أن اغتياله قد يفتدي تعقيدات ومحاذير أخرى كثيرة كان يمكن أن تحجب إلحاح الموضوع اللبناني في سلم أولويات القمة. هذا لا يخفف في قليل أو كثير من حجم الغضبة الشعبية التي تجلت واضحة أمس في أثناء تشييع المفتي، أو كما أعتاد العامة في بيروت تسميته "المفدي" بل انه يضع الحدث الجلل في إطاره الصحيح. فهو حدث سياسي، لا يهم كثيراً الحديث عن منفذه أو عن صاحب القرار فيه، بل المهم هو الوقوف عند إبعاده وإدراك أهدافه والعمل، لبنانياً وعربياً وحتى دولياً أيضاً، على حصر هذه الأبعاد وتوجيهها بما يخدم لبنان والأمة العربية فضلاً عن الخط الذي نذر الشهيد حياته من أجله. وهو، إضافة إلى أشياء أخرى، يمسّ الشعور العربي والإسلامي بحيث يشكل حافزا جديداً للقادة العرب الذين يستعدون للانتقال إلى المغرب وفي حقيبة كل منهم قضية تشغله، من أجل إضافة قضية لبنان إلى هذه الحقيبة. ولعل هذا بالذات ما عبّرت عنه التظاهرة الشعبية العارمة التي ودعت المفتي الشهيد بصورة شبه عفوية، إذ بدت تظاهرة ضد الحرب أكثر مما هي ضد الجاني الذي ارتكب الجريمة، وتظاهرة من أجل الحل أكثر مما هي من أجل الاقتصاص أو الانتقام أو فتح جرح جديد في الجسم المثخن أصلاً بالجراح. وإذا كانت الجريمة، كما يقول البعض، تصلح لتكون رسالة موجهة إلى أكثر من شخصية والى أكثر من طرف أو جهة، فتظاهرة بيروت أمس تصلح لتكون رسالة مقابلة تعلن بصوت عال، وللجميع على حد سواء، بأن "المفدي" في حياته إلى ساعة الاستشهاد هو "مفدٍ" أيضاً بعد الشهادة لكل ما آمن به وعمل له وحدة لبنان وعروبته واستقلاله والعيش المشترك بين أبنائه. وما حاولت أن تقوله بكركي أمس من خلال فتح أبوابها لتقبل التعازي بالمفتي الشهيد إنما كان تجسيداً لهذا الواقع، أو رجع صدى للتظاهرة التي كانت تسير في جنازته في الشطر الغربي من بيروت. * * * مرحلة جديدة في لبنان بعد 17 أيار 1989؟ للمناسبة: هل نسي أحد بعد 17 أيار 1983؟ هناك مؤشرات كثيرة على ذلك، إلا ان الغضب المكتوم الذي عبّرت عنه بيروت، ومن خلالها لبنان كله أمس يشد في اتجاه ان تكون المرحلة الجديدة في سجل الحل اللبناني وليس في سجل الحرب اللبنانية. ولا يبقى إلا العمل الجاد لبنانياً أولاً، وعربياً ثانياً، على ترجمة ذلك على الأرض. .. ورحمة الله على الشهيد الشيخ حسن خالد الذي فتح في اغتياله، كما عمل طيلة حياته، على فتح مثل هذه النافذة في الجدار اللبناني المسدود.