أخيراً قتلوه. تركوه سنوات الحرب الأربع عشرة، لأنهم كانوا يأملون، يطمحون، يتمنون انه ذات يوم سيخضع ويسلم. صبروا عليه طويلاً. ولكن الشيخ حسن خالد لم يخضع للابتزاز ولم يسلم بالهزيمة. استمر على إيمانه بالوطنية اللبنانية والقومية العربية والإسلام. ولم يكن في دفاعه المستميت عن هذه المقومات من المتشنجين، وإنما كان يسلك سبيله في حذر. رجل بلا ميليشا. لم يعرف التعصب طريقاً إلى قلبه ووجدانه. في أحرج الأوقات كان يقابل رجال الدين المسيحي بالود والترحاب. ولم يكن يبحث عن زعامة. ولهذه الأسباب ظل رمزاً بعيداً عن الصغائر والأحقاد التافهة. لم يسع إلى مغنم فلم يصبح من "أغنياء الحرب". يدرك الفروق الدقيقة بين الدين والسياسة، وبين الدين والطائفة، فلم يتخل قط عن رسالة موقعه الديني الكبير ولم يتطفل على مواقع غيره من السياسيين. طيلة الحرب، كان فضيلة الراحل الكبير الشيخ حسن خالد واعياً بدوره تمام الوعي: انه دور العقل المنفتح على الآخرين دون تفريط في حقوق الله والإنسان. عرف مبكراً ان إسرائيل هي الخطر الداهم على الأرض والسيادة والهوية. ولم يتردد في الجهر للبنانيين جميعاً مسيحيين ومسلمين ان الخوف من المحيط العربي الإسلامي وهم تبدده المواطنة الصحيحة الشريفة، مواطنة المساواة في الحقوق والواجبات، مواطنة تلغي الظلم الطائفي وتردع الأطماع الاسرائيلية في وقت واحد. ولم يكن حسن خالد في أي يوم خصماً أو عدواً لسورية أو الشعب السوري. ولكنه باستمرار حرص على التفرقة بين الأخوة القومية وبين الغزو او الاحتلال. كان يقول في الغرف المغلقة لأكبر الكبار في دمشق ان وظيفة أي جيش هي التي تحدد هويته، فالقوات التي تحاصر بيروت الغربية وتفرض عليها الجوع هي قوات غزو مهما كان أفرادها من الأشقاء، والقوات التي ترابط سنين طويلة لا عمل لها سوى القتل وحماية الخوارج على الشرعية هي قوات احتلال مهما رفعت من شعارات. وكان للرجل وجه واحد، ما يقوله في الداخل هو ما يقوله في الخارج. ولكنه ليس من أنصار التهريج السياسي والأضواء المزورة والمكاسب العابرة، فاتسم سلوكه بالهدوء وأفعاله بالاتزان، وكثيراً ما كان يلجأ للصمت أو الابتسام البليغ. رفض "المحارق" التي تشتعل فجأة ثم تخمد ولا تخلف وراءها سوى الحسرة على الضحايا. وقد خسره الجميع، حتى خصومه، فقد كان صمام الأمان وعنصر التوازن. ولكنه في خاتمة المطاف ـ وقد تعرض لبنان جدياً للتشرذم ـ وقف بجسارة وحسم إلى جانب لبنان، الشرعية والوطن، وفقد خصوم الشرعية والوطن صوابهم وقتلوه. ولكن حسن خالد، لم يكن جسداً فقط من لحم ودم. وإنما كان وسيظل رمزاً للصمود اللبناني والصلابة الإسلامية. وقد كنا في بعض الأوقات ممن يعتبون على المفتي مواقفه التي بدت لنا غير واضحة أو غير مستقرة. ثم كان يتبين للجميع أن الرجل، حقناً للدماء، لم يكن يهرول إلى تفجير المشاكل علناً. كان يدري ان كلمة هنا أو حرفا زائداً هناك، من شأنه أن يستدرج ضحايا العنف إلى المصيدة الجهنمية. كان توفير الدم وتوفير رغيف الخبز من اعز أمانيه التي تقتضي شيئاً من الكتمان والصبر، ولو على حساب أعصابه. ورغم ذلك لم يرحموه. قتلوه في وضح النهار مقدمين البرهان الأخير على أنهم لا يريدون الحل. كان الشيخ حسن خالد مع الحل العربي. ولكن خصوم الشرعية والوطن اللبناني يرون في هذا الحل تصفية لمصالحهم. ولذلك قاموا بتصفية الرجل ـ الرمز. غير أن مشكلة هؤلاء الخصوم ان رحيل الرجل لا يعني رحيل الرمز. ذلك أنهم قد يطيلون من عمر الأزمة، ولكن "مشروعهم" ليس حلاً لها. ان اغتيال الشيخ حسن خالد لا يقتل الأزمة، بل العكس يحييها إلى الحد الأقصى. ومن هنا فان هذه الجريمة الكبرى من أكبر العلامات على خسارة الرهان الأخير. ولم يعد أمام الجميع ـ هكذا تقول دماء المفتي وصحبه ـ سوى الحل العربي الناجع والناجز. هذا الحل الذي يواجه قتلة الفقيد الكبير، بان استمرار الحال لا يعني قتل لبنان، وإنما قتل العرب في لبنان. .. وسلاماً على الرجل الذي كان وسيظل صفحة ناصعة في تاريخنا.