يا وجه السماحة.. يا وجه النقاء - مقال للأستاذ ملحم كرم
يا شهيد السماحة.. يا وجه النقاء
لأنك من أنت خلقاً ومكرمات وطهراً وأريحية، اغتالوا فيك النبل والمحبة ومعاني الأخوة المذهبية والعيش الوطني اللبناني المشترك. فأهالت شهادتك بعظمتها التراب يطمر المرتزقة والإجراء وأدوات الإجرام، فيما سما موتك جبلاً من قيم ونقاء ومكرمات بها تشتد شوكة وحدة لبنان وتتأكد عروبته. يا أكرم الراحلين يا صاحب السماحة. متّ موت الخالدين لتظلّ، على مدى الأجيال، أحدوثة تروى، فلم تذهب ذهاب العاديين التافهين، وبريقك يبرأ من فئة يموتون حتف أنوفهم على الضعة والهوان. أن هؤلاء أسقطتهم الحياة الى حيث يعيشون عيشة المومياء، حسبهم من وجودهم أنهم أجساد تسعى. ذلك أن الشهادة أبت عليهم كرامة الموت لأنهم أبوا على أنفسهم كرامة الحياة. أما أنت فأي شهيد كبير ذهبت، وأي نماذج قدوة أشرعت، وأي جرأة حملت؟! فقد كان الناس أمام جثمانك. وهم عين لهم على الجسد المسجّى، وعين على عظمة الفداء والموقف الوطني. هذه لتشرق بالدمع وتلك لتغصّ بلذع كالنار. ويلتقي طرف محبيك وإخوانك في لحظة منطفئة خاشعة، فجراح البطولة كجراح الشهادة، في كلتيهما لألاء من وجه الله. يا رجل النقاء، يا صاحب السماحة، يا أكرم شهيد. والسماحة ليست لقبا لمنصب وتبعة، بل استحقاق انتزعته بمبادرات كلها الرحابة والسماح والمحبة. ما عرفك الناس على حقيقتك الكاملة إلا ساعة خررت شهيداً، وهذا يعني ان ولادتك، في وعي القيمة، من هنا ابتدأت: رجل ولادته شهادة، رجل يقرع رتاج الخلد بكلتا يديه. لم أر في الموت، كما زعموا، يداً تمشي في الفناء، بل رأيتُ فيه يداً مبدعة مولدة، تفعل فعلاً آخر. أنه باعث القيمة ومفرغها وساكب الخلود وصانعه. ونحن الجاثمين ههنا في الضياء ضيائك، هيهات ان يخالجنا حسّ بفقدك. فمن ذا يقول ان اتصال الفعل ليس اتصال الفاعل، وان استمرار العطاء ليس عطاء جديداً؟! الشيخ حسن خالد. والاسم علم. دخل الشأن الديني والوطني والعام دخول المقتحمين ذوي الوهج والألمعية. فهو عنده إلحاح نزعة، وصوت دعوة، وختام تبحّر، وقرار انتقاء. ما هجر يوماً نفسه إلا ليفرغها في تأمّل حول وطنه وشعبه وأمته. لم يخسره المسلمون ولا المسيحيون ولا العرب فحسب، بل خسرته الإنسانية والمكرمات والدين الموحد القويم. ما عانى سقماً إلا لما أصاب لبنان وأبناء لبنان. فكان ذلك هاجسه الذي أخذ عليه هناءة الحياة وعجّل أجله. فجاءت نهايته شهادة طالما اختارها لنفسه ليكون القربان والكفّارة، وذلك، في مذهب احتمال أمثاله من الأخيار، أدنى البذل واهون العطاء، مستهيناً بالحياة، رافضاً الوهن والجبن والتلطي وراء أخيلة الأصابع. كان رجل الزهد والتقشف في سيرته ومسلكه. ما عرف الترف ولا سعى لجاه وخزّ، ولا تمنّى إلا سعادة واحدة: عافية لبنان ووحدته. هكذا أهل المحامد والخلود يؤرّخون. مريض عيش مشترك وإلفة وطنية. ما تمّت له هناءة إلا بالوحدة بين اللبنانيين. يخلع عن مبادراته ما ليس نبضاً وموقفاً وشجاعة. طهر يد ونقاء سريرة. ففي قلبه صفاء من بياض رخام المعابد. ما أدرت لساني يوماً لأقول فيه إلا وكأنني أديره على سُكّرة لكثرة ما هو مُلهم ولكثرة ما هو مُلهم ولكثرة ما الحديث عن محامده ميسور، فالقول مذلل لإيفائه حقه: من يقصد يتم له القصد. ان أيدي الشر لم تستهدف في مفتي الجمهورية والوطنية الجسد الزائل بل عمق التعاليم وخلودها ورسوخها. فتوخّت ان تتوغل في العمق لتجتث وتستأصل جذور الوحدة والوفاق فتقصفها من أرومتها، إلا أنها أخطأت المبتغى، فإذا التعاليم عرق في القلب ينشب في الأرض ليُفرخ أشجاراً خضراء الأغصان، بأسقة الثمار، يانعة القطاف، باسمة الجنى. وإذا مواعظ المفتي وخطب أيام الجمعة ترانيم، وإذا بأصابع الاتهام المضللة ترتد إلى موحهيها لتفضحهم مرتين: مرة أنهم صنائع ومرة أنهم بلهاء. يا وائد الفتنة، يا شهيد لبنان والعرب والإسلام والمسيحية، وقد كنت تعمل للجميع بحوافز إنسانية عادلة لا مذهبية متشددة تباعد وتفرق. أذكر يوم ذهبنا لاستقبالك آخر مرة في مطار أورلي بباريس، وقد قال لي مسؤول فرنسي جاء للقائك: لولا عمامة هذا الرجل الكبير لما عرفت إلى أي طائفة ينتمي. فكل ما قرأت وسمعت عنه لا يصنفه رئيساً لطائفة بل لوطن وشعب. وحقاً قال ذلك المسؤول. فطائفتك لم تكن يوماً إلا لبنان. وقد كنت مع البطريرك صفير والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ محمد أبو شقرا، أمّد الله أعمارهم، قدوة المسيرة الصالحة والإرادة الوطنية الوحدوية المعلنة بلا غرض ولا خلفية ولا التواء. ولكن، مساكين رجال الدين. فالسياسيون يؤلمهم أن تشرق نجومهم في الأيام العادية، فيدعونهم للاكتفاء بالصلاة وإقامة الطقوس. حتى إذا حميت نار الوغى وتعطلت ادوار السياسيين، احتموا بهم وجعلوهم واجهة التصدي. يا ذخيرة لبنان وتعويذة وحدته ورمز عيشه المشترك. لأنك كل هذا قصفوك، فتناميت، وبسقت جذوعك، وتعالى النداء والنذير طنيناً راعداً ووقراً في كل العقول والآذان: ان قطرة دمع الى قطرة دمع سيل جارف، وان شلواً يتنزى الى شلو يتنزى، زفرة هي زفرة البركان. فأذهب الى خلودك، الى عالم يستحقك، الى قارة تبارك السجايا وتحتفي بذوي المكرمات غير جاحدة كقارتنا، لم توظف اقامتك بيننا لمجد وعافية ووحدة. أما تعاليمك فحججها ستظل شهباء، وبيناتها ستبقى نواهض، والوقد على أحرف أقوالك سيبقى شعلاً، والطرفة بين أسطر شعاراتك مدىً، وللحكمة الوطنية في تضاعيف كتاباتك غير ريف وظل. ومع كل اشراقة شمس وكلوح ساعة عصيبة ستكون بيننا الشعلة والهداية والوعظ الرشيد وقد تحدرت كماء المُزن ما في نصابك كهام، وحملت سيفاً ماضياً به، من قراع الدارعين فلول: طوتك خطوب دهرك بعد نشر كذاك خطوبه نشراً وطيّاً المصدر: مجلة الحوادث التاريخ: 26/5/1989