خرج المدى من دفئه الفطري نحو قصيدةٍ تأتي شظايا. لهبٌ يلوّن أفقنا الممتد، يكتبه ذهاباً نحو أغنية ستجعلنا ضحايا.. خرجَ الزمانُ إلى هدوء الشعر، لم يبصر سوى جثث تعانقُ ظلَّها وتعيدُ تشكيل الرزايا صمتُ يخرّب وحشتي البيضاء، يصفعُني وينحرُ ما تبقّى من فضاء الحبِّ مختتماً رحيلي نحو قافيةٍ أسمّيها بلادي صمتٌ يصدِّع حلمنا العربي مخترقاً رياحَ الأمسيات المقبلهْ ونداءُ قلب لم يحابهْ موته ليصيرَ أكبر من نداءِ الموت. أخضرَ فوقَ حدِّ المقصلةْ ***** أطفئ جراحاتي وضمّدها قُبلْ وعانقْ أرضنا الفيحاء يخرج من ثناياها الأمل ***** ذهب النسيم الى جداره الأخير. أطفأ شمعة وأضاء عاصمة. تجمع البحر فوق أشلائنا وأَقسم: "ألا يغادر أمواجه الهادرة". خرجت قذيفة من صدر جثة وقالت: "ليتني كنت تراباً. تبخرت مملكة بكاملها. استعادت وجهها الأولي وصاحت: "أنا السحاب الذي يجيئكم ويمطركم ورداً وحباً. جثة في أسفل بناية. يد تناطح السحاب. رأس يبحث عن جسد. جسد تلطّخ بالصراخ فصاح: "أنقذوني". رجْلٌ شواها الرصاص. ضحية نصفها في الأرض، ونصفها الأخر في السماء. رجل لم يبق منه سوى عينين تحدقان في هول الفاجعة. بناية سقطت بما ومن فيها فتساءلت: " من يُعيد قامتي اليّ". سيارات تحوّلت الى ركام فانتبهتُ لجثة تشبه أحلى القصائد، وانسحقت. صوت عبوة يؤرخ ما استجدّ من الذهاب الى دموع الكبرياء. ويعرّض الاحلام لاشتهاء الروح في عصف الأناشيد المؤجلة. وعمامة طأطأ الموت هامته أمامها وقال: "آخر الروح أول الجرح. فاذهبي إلى دياري مطمئنة وكوني بوصلة القابعين على رصيف النار مكرهين". ***** شيخنا مات لينزع عنا نداءات الحزن المترامية. وغادر جسدَه الجميل ليكون روحاً لكل منا. لم يهرب النخيل من عباءة حبي الطيبة. بل انغمس في أقصى القلب ليجعل لهذا الزمن عنوانه الرائع. شيخنا ذهب من "داره" الى داره، كأنه ما ذهب. وغادر حزناً ليصدّع براثن هذا الأفق الرمادي. وانطفأ ليصبح قمر العاصمة الذي لا يغيب. في توهّج الجرح كان يبكي علينا، لنخرج من ركام أيامنا المملة. ومع ارتفاع أقصى درجات التصعيد كان واحداً منا. كان في الملجأ كسواه، يتقي جنوح قذيفة بلهاء، ولم يدر أن عبوة أشد كانت بانتظار ندائه الوحدوي الصامد. شيخنا لم يغادر بيروت في لحظاتها السوداء بل انصهر في صمود أهليها كأجمل ما يكون الانصهار، وعانق ترابها على مقربة من أغنياتها التي تستعيد دفء الزمن الماضي وحلاوة الأيام الفائضة. ***** لم يكن لموتك طعم الخرافة في هذا الزمن الخرافي الشديد. بل كان أشد مرارة من العلقم، وأكثر بربرية من فجائع التاريخ كاملة. لم نصدق هذا الموت.. ولم نتوقع هذه الميتة. ولم نتراجع عن دم كان فينا ومنا، ولذا نستعيدك نشيداً لكل الذين ينتظرون الرغيف في زوايا زمننا الخاوي. أيها الشيخ الجليل يا صاحب السماحة يا مفتي المسلمين كل المسلمين.. يا سيد الأقحوان وزهرة العمر اليابس ستظل لنا، ونظل لك دماً يسير على خطاك ويعزز مجدك الباقي على جناح بندقية تقدّس السلم، وتعيد لبنان الواحد إلى رواء قصائده النابتة شهداء يؤرخون نهاية لمرحلة وسفراً إلى أنجم الزمن الزاهر. المصدر: مجلة الشراع التاريخ: 22 أيار 1989
|