رحل كبير العقلاء - مجلة القومي العربي 20 أيار 1989
المؤامرة أبت إلا أن تطال رأس المعتدلين، وكأن الاعتدال بات موقفاً يحكم على صاحبه بالإعدام، المؤامرة أبت إلا أن تطال كل شيء، فمن قبل المفتي خالد طالت أدوات المؤامرات التدميرية كل المعتدلين، من لم تطله في حياته طالته في رزقه وأمنه، المؤامرة أبت إلا أن تعلن، بعد أن خلناها تلفظ أنفاسها الأخيرة، أنها ما زالت قادرة على تدمير كل ما تبقى من وجود في لبنان، البشر والأرض والشجر وحتى الحجر. اليوم يرحل عن لبنان، رجل لبنان، بل داعية بقاء لبنان حراً عربياً موحداً، الكل يعلم أن الاستهداف يطال لبنان الوجود المتجسد في كل معالم الحياة التي سحقت أدوات المؤامرة معالمها، والكل يعلم أن سماحة المفتي كان خير دلالة على هذا البقاء، بل الصراع من أجل البقاء.. آخر لقاءاتي به شكلت ذات الانطباع عن حسن خالد المدرس الذي التقيته عندما كنت طالباً وكان مدرساً لي لمادة "المنطق" في كلية أزهر لبنان في الستينات، ولا زلت أذكر انعكاس تحمل المسؤولية على وجهه البشوش اثر إعلان انتخابه مفتياً للجمهورية.. ذات الانطباع رأيته في لقاءاتي معه هذا العام.. تحمل كامل للمسؤولية العامة.. الكل يعلم أنك رفضت السلاح والمسلحين.. لأنك كنت تعلم وترى في آن واحد، ما فعله السلاح والمسلحون بالعاصمة بيروت وأثر ذلك على مسيرة الوحدة الوطنية.. كنت أكبر العقلاء... فكنت محط نقد المتطرفين العائدين إليك إبان المحن.. لأنك كذلك كان الكل يشعر بك الستار الواقي من جميع سلبيات الحرب التي رفضتها ولعنتها.. وأن قول كلمة الحق سبب لك التعب والإرهاق.. وربما الاستشهاد.. كنت الفدائي المدافع عن لبنان الواحد، وعن العيش المشترك الذي كنت ترى فيه التجسيد الحقيقي للبنان الحاضر والمستقبل، ولا ننسى جرأتك الرافضة لجميع الامتيازات الطائفية ولجور سلطة الدولة وغبنها لأبناء طينتك مع إصرارك على الحفاظ على الدولة ومؤسساتها... موقفك من إسرائيل والمتعاملين معها لم يكن سراً على أحد، فقد استطاع أن يجمع حوله كل المسلمين ومن منا لا يذكر خطبة العيد في الملعب البلدي.. والكل حولك. اليوم يرحل عن لبنان كبير العقلاء.. كان يدرك الكثير من الأمور والأخطار المحدقة بلبنان وأهله.. ولأنه كان يدرك صبر وصمد وكان صبره أعظم أوقات المحن، والأخطار تلف بالوطن وبالوحدتين الوطنية والإسلامية.. "المفتي" كلمة كانت تعني في كل لبنان حسن خالد، ما يمثل من عناد المؤمن بمبادئه.. اليوم "المفتي" يغادر لبنان.. ولبنان ما زال يصارع المرض الذي ابتلي به منذ بداية عهد الاستقلال... فهل تكون دماؤه الطاهرة فداء.. ودواء.. رحم الله كبير العقلاء ومفتي المؤمنين...