ألانه كان رمز الاعتدال اودت به موجة التطرف؟ ام لأنه كان مثال الهدوء أطاحت به عاصفة الانفعال؟ أم لأنه كان احد الجسور القليلة المتبقية التي يعبر فوقها الحوار بين اللبنانيين، نسفوه، وجعلوا مستقبل لبنان، من بعده، معلقا فوق الهاوية؟ بغياب سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية، الشيخ حسن خالد، على الشكل المفجع الذي اودى بحياته الاسبوع الماضي، تراجعت رقعة الاعتدال في الوطن الصغير، وخَفَتَ صوت الاتزان في حناجر اللبنانيين، وانكسرت جسور اللقاء بين ابناء الشعب الواحد. امضى كل حياته، خصوصا منذ اصبح مفتيا للجمهورية في العام 1966، يعمل على تقريب وجهات النظر، وعلى نزع فتيل الانفجارات، وما اكثرها منذ اربعة عشر عاماً فاذا بانفجار آثم يدخله قائمة الشهداء الذين سقطوا في حومة الجنون وروّت دماؤهم تربة الوطن المعذب دون أن يرتوي غليل من يتربصون به الدوائر. وأشد ما في غياب المفتي خالد ايلاما، انه سقط في وقت يحس الوطن، بمختلف فئاته وطوائفه، أنه بامس الحاجة الى من يرأب الصدع، ويجمع العائلة اللبنانية، ويلمّ شتاتها، ويضم تطلعاتها تحت سقف منزل واحد بعيد عن العواصف المجنونة والانواء العاتية التي ما برحت تهدد السفينة اللبنانية وتبعدها، يوما بعد يوم، عن شاطئ الامان. في عز الملمات، في اكثر أيام الازمة سوادا، كان صوته الرصين يرتفع، داعيا لنبذ التفرقة، والتخلي عن المزايدة الجوفاء، وتحقيق العدالة لابناء شعب يتطلع الانصهار في بوتقة وطن نهائي حر وسيد ومستقل. ومواقفه الوطنية المشهود لها بصفائها وبتجردها، حتى من قبل الذين لا يلتقون معه على افكار سياسية محددة، ظلت تتردد اصداؤها في المحافل المحلية والعربية والدولية. حتى في اللحظات الأخيرة من حياته، فانه بقي داعية حوار وتعقل، ومؤمنا بان إعادة الشمل ممكنة رغم كل ما تعرض له الوطن من مطبات ومؤامرات. أيا كانت الجهة التي أزعجها صوت المفتي حسن خالد فقررت التخلص منه لتستريح، فان الجريمة التي استهدفته، هو ورفاقه، اقل ما توصف به أنها حاقدة ومجرمة ونكراء. لم تبق جهة، لا داخلية ولا خارجية، وعلى أعلى المستويات، إلا وأعربت عن ألمها الشديد لاغتيال الاعتدال الذي كان يمثله سماحة المفتي الراحل. وبالتأكيد فان من يضايقهم الاعتدال في لبنان هم الذين قرروا خنق واحد من آخر الأصوات التي لم تدخر جهدا، طوال حياتها، لنبذ الاقتتال والتناحر. المصاب، قطعا، اليم وفادح. والخسارة، دون شك، جسيمة. ليس فقط لأنها استهدفت واحدا من ابرز الأصوات الروحية في لبنان. بل، وقبل كل شيء، لأنها تفضح استمرار المخطط المجرم القاضي بإسقاط كل نبرة تعقل ورصانة. واللبنانيون، بكل طوائفهم وميولهم، احسوا وهم يودعون المفتي خالد، بأن جزءا كبيرا جدا من آمالهم قد وري الثرى الى جانبه. لا سيما وان الليل اللبناني حالك وان بصيص الامل الخافت قد تراجع، اكثر فاكثر، عندما امتدت اليد الآثمة، لتطفئ ما تبقى من جذوة ومن بريق. غير ان المبادئ التي دفع المفتي خالد حياته ثمنا لنشرها وترسخها تبقى هي العزاء الاكبر والوحيد في ليل هذا الوطن الطويل.