استشهاد العلامة الكبير خلود لروحه وإحياء لروح أمته
وهذا هو شأننا مع فقيدنا الكبير مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد وقد زين للذين اغتالوه أنهم يقتلون لبنانه الذي أحب: لبنان الواحد لبنان الروح، لبنان العقل، لبنان الحوار، لبنان الوفاق الوطني، لبنان المتحد. فإذا باستشهاده منبعث لوحدة شعب، تدفقت أمواجه وراء نعشه كالمرج الهادر وتهادت مواكب المعزين به، ملتمسه روحه الزكية ومعبرة عن لوعتها، ما بين البطريركية في بكركي ودار الإفتاء في شارع ابن رشد. فالداران صرح واحد لعبادة الله. والداران محراب واحد لروح لبنان. والداران محجة واحدة لجميع أبناء لبنان في السراء والضراء. وهكذا أرادهما حسن خالد أن تكون. فخسئ الذين أرادوا بقتل المفتي اغتيال لبنان. وانبعث لبنان واحداً في الألم، وواحداً في افتقاده الأمل والشعب الواحد هو الذي توحده الآلام والآمال. وكما كان حسن خالد صوت لبنان الواحد في حياته، فقد أشرق نوراً للبنان الواحد في استشهاده. والشهداء يسقون ثرى هذا الوطن منذ عام 1975 حتى الآن. إنهم يتجاوزون المئتي ألف ما بين قتيل وجريح. وهم يؤلفون بنسبتهم إلى سائر أبناء هذا الوطن الصغير بمعناه، الكبير بمعناه، معدلاً من أعلى ما قدمت الشعوب من ضحايا في سبيل حقها في الوجود. وقد حان لنا أن نصمم على أن يكون حسن خالد كبير شهدائنا وآخر ضحايا مأساتنا الفريدة في التاريخ الإنساني. فبذلك تكون لوعتنا عليه صادقة. وبذلك لا يوحدنا الألم لفقده يوماً بل يؤلف بيننا دهراً. وبذلك نكون أوفياء حق الوفاء لرسالته. ورسالته أحياء لبنان لا اغتياله. وشهادته هي تذكرة مدوية لنا بكل من سبقه من شهداء الوطن وهي إنذار لنا بأننا إذا استرسلنا في ما نحن فيه، فإن لبنان نفسه سيكون الشهيد الأكبر. وليس الشهيد أمام الله، وأمام الموت كبيراً أو صغيراً. فكل الشهداء أحياء عند ربهم ومخلدون. لكن الشعب لا يقدم الشهداء، ليشترى بهم الموت بل ليفتدي بهم حريته، وكرامته ووجوده. ونحن نقدم الشهداء منذ عام 1975 لنشتري بهم العدم لا الوجود، لكن استشهاد حسن خالد، وهو ينذرنا بالخطر الذي يدهمنا، يذكرنا بأن الوجود أقوى من العدم، وبأن الحب أقوى من الموت. ويتوقف علينا نحن أن نختار بين الوجود والعدم، وبين الحب والموت، فليس لأحد أن يختار لنا إلا ما نختاره نحن لأنفسنا. والزلزال الوطني الذي هز كل شعبنا لاغتيال مفتيه الوحدوي، أسفر عن حقيقة لبنان الواحد التي غشيها الضباب ، وجاء استفتاء لاختيارنا جمهوريتنا الصلبة الواحدة تنسخ كل ما فر علينا من كيانات هزيلة ،وتحتاج كل ما أقيم دون تواصلنا من حواجز رقيعة. وليس شهيدنا الكبير أول من حاولوا أن يختالوا وحدة وجودنا، وأخفقوا في محاولتهم. فقد سبقه على الشهادة نخبة من قادتنا، كان لكل منهم مشروعه التاريخي لإحياء لبنان. وكان منهم من حاور، وكان منهم من حارب في سبيل مشروعه، ونحن نلتزم التحاور لا التحارب، لأن في التحاور إنسانيتنا وروحيتنا وعقلانيتنا وفي التحارب بين المواطنين والأخوان همجية نرفضها رفضاً باتاً. وهؤلاء القادة اختلفوا في مشاريعهم وفي رؤاهم وفي حواريتهم أو عنفيتهم لكنهم استووا أمام مصيرهم المأساوي الواحد أمام الحكم عليهم بالإعدام، اغتيالاً لهم ولمشاريعهم الإحيائية. وإذا شئت أن تغتال شعباً، أو أن تعدم دولة، فابدأ بإعدام قادتها التاريخيين. وأيا كانت نظرتنا إلى مشاريع هؤلاء القادة وأيا كان تقويمنا لرؤاهم فإن روح حسن خالد تنادي شعبنا أن يقف وقفة وطنية واحدة، وقفة إنسانية واحدة في وجه جلاديه صارخاً بصوت واحد. - كفاني اغتيال وإعدام لقادتي - أريد الوجود لا العدم. - أريد الحياة لا الموت. - أريد الحب لا البغض. - أريد الحرية لا العبودية. أريد وضع حد لحلقات العنف المفرغة، التي ابتدأت باختفاء موسى الصدر أمام جمهورية المحرومين، واحد رواد الحوار الإسلامي – المسيحي. وتبعه كمال جنبلاط... المتطلع إلى جمهورية لبنانية تقدميه اشتراكية، والمناضل لتحرير الشعب العربي وسائر شعوب العالم الثالث. ولحق بهما بشير الجميل، بعدما التزم جمهورية لبنانية موحدة، ودولة عصرية، لا سيادة فيها إلا للشعب، وحكم إلا للقانون. وأدركهم رشيد كرامي، المتفاني في سبيل الجمهورية الديمقراطية الوطنية، التي يتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات. وكادت المؤامرة تلو الأخرى تنال من سليم الحص سلمه الله، وهو داعية الدولة العادلة القادرة، ومهندس الدولة بالتحاور لا بالتقاتل، وبالعلم لا بالجهل. وتوج استشهاد حسن خالد محاولات الإخفاء واغتيال الشخصيات التاريخية التي اتفق أو اختلف معها، وتعاون معها أو قاومها، وهو يبشر بجمهورية لبنان الواحد التي تسودها القيم العلوية الإسلامية- المسيحية، قيم التراحم والتحاب، ويتكامل مواطنوها المسلمون والمسيحيون في ظل الحرية والعدل والمساواة التامة في الحقوق والواجبات. فهل تكون المصادفة وحدها هي التي جعلت قادة لبنان ذوى المشاريع الإحيائية، وهم الذين يستهدفهم الاغتيال؟ وهل يكون من المصادفة أن الذين يحيق بهم الخطر، أشد الخطر، هم القادة الذين يلتزمون العقل، ويستنكرون العنف، ويعتمدون التحاور، ويستهجنون التقاتل، منهجاً لتسوية الأزمة اللبنانية؟ إن استشهاد مفتينا، يحرك أسى في نفوسنا لم نعان مثله من قبل؟ إنه الأسى لفقداننا الأخ الصادق، والهادي الراشد، والقائد الرائد... لكنه في الآن ذاته أسى التساؤل عن مصير لبنان، إذا كانت قوى منظورة وغير منظورة تلاحقنا لأحكام إعدام لكل قائد لمشروع إحيائي لجمهورية لبنانية، ولديمقراطية لبنانية جديدة؟ وإذا كانت هذه الحكام تنفذ حكماً بعد الأخر، وتطبق على شخصية قيادية بعد الأخرى، فمن الذي سيلغيها من قبل أن تلغي لبنان، بإلغاء قيادته التاريخية؟... إن الذي يلغيها هو أن نتحرر من النظرة الفئوية، التي تعتبر كلا من هؤلاء الضحايا شهيداً لفريق منا دون الآخر، وأن نعتبرهم جميعاً شهداء لفريق وطني واحد هو الشعب اللبناني بأكمله. وإن الذي يلغيها أيضاً هو ان نصدر حكماً اجماعياً على الاغتيال السياسي فلا نغضب له إذا أصاب من نتفق معه في الرأي، ونصفق له إذا تعرض له من يخالفنا في الرأي، بل ننبذه ونحرمه على الجميع وللجميع كأداة للعمل السياسي العام. وإن الذي يلغيها هو أن تعلن جميع قوانا السياسية إننا اكتفينا بعشرين عاماً من التقاتل ألغابي، وإننا سنتعامل بعد الآن في ما بيننا، وسنسوى كل منازعاتنا بالحوار الحضاري. وإن استشهاد فقيدنا الكبير هو دعوة لنا لمثل هذا القرار الوطني الإنساني الذاتي، الذي لا نبلغه بتعريف أزمتنا أو بتدويلها، بل بأنفسنا وسلوكنا السياسي؟ كنا نعتقد أن هذا القرار هو الذي سيجعل كبير شهدائنا آخر شهدائنا، إن القرار هذا، هو الذي يحول دون سقوط لبنانياً شهيدنا الأكبر، كما يريده أعداؤه أن يكون... نحن الآن في ثورة انفعالية جامعة احتجاجاً على الاغتيال الوحشي على أرض جمهوريتنا. وستتبخر هذه الثورة بعد حين أن لم تتبلور في ثورة عقلانية على الأحوال الغابية والظروف العنيفة التي جعلت الاغتيال أمراً عادياً، وأتاحت لأي جان أن يقترفه،من غير أن يعرف من هو، ومن غير أن يتوقع حساباً، أو أن يخشى عقاباً. انذرنا أرسطو، بأن الإنسان خارج الدولة وخارج القانون هو أسوأ سلوكاً من وحش الغابة، وهذا ما يصدق علينا الآن في لبنان. وهذا ما كان يناضل حسن خالد لتحريرنا منه... وكان يحاور الجميع للتوصل إلى صيغة التحرير والوفاق الوطني والعيش الحضاري، وقد شهدته يتحاور مع إخوانه الرؤساء السابقين للجمهورية والحكومة ومن قادة الفكر والسياسة في جلسات دورية دامت عاماً ويزيد. ويتحاور مع إخوانه أعضاء المجلس الاستشاري لدار الإفتاء، ويتحاور مع رؤساء الدولة والحكومات السابقين والحاليين، في لبنان وفي العواصم العربية، فكان هو نفسه، في جميع هذه المناسبات، المحاور في حق جمهوريتنا في أن تكون، وفي أن تكون لجميع أبنائها على السواء. وكان هو نفسه المحاور المعبر بالمنطق عن قناعاته، والمنفتح الذهن في إصغائه المهيب إلى قناعات الآخرين. وبلغ من انفتاحه الذهني أنه ترأس بنفسه محاورة في دار الإفتاء حول علاقة الإسلام بالعلمانية. وكانت المؤتمرات الإسلامية التي تعقد في دار الإفتاء كما كانت لقاءات قمة عرمون، تضم قادة جميع المسلمين، لا فرق بين سني وشيعي ودرزي. وكان يكلف إخوانه في المجلس الاستشاري لدار الإفتاء مهمات لدى جميع قادة لبنان السياسيين، لا فرق بين مسلمين ومسيحيين؟... إن الذين اغتالوا شخصه لم يدركوا أن مثل هذا التراث الروحي والوطني لفقيدنا الكبير، ولم أذكر هنا إلا عناوينه، هو حي في نفوسنا ولن يستطيع احد أن يغتاله أبدا. ونحن نشيد لهذا التراث لا لنوفي فقيدنا العزيز حقه علينا فحسب، بل لنذكر مواطنينا، بأن وعيهم روح هذا التراث، والتزامهم مبادئه، يكمن أن يوجههم نحو بداية للبنان الجديد. إن اللبنانيين الذين زلزلهم استشهاد حسن خالد هم أنفسهم المدعوون إلى اهتداء بروح هذا التراث، فرحمة الله على هذا الشهيد. والراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء.