المستقبل - الخميس 21 أيار 2009 - العدد 3310 - شؤون لبنانية في الذكرى العشرين لاستشهاد المفتي الشيخ حسن خالد شهيد الكرامة الوطنية والحرية والسيادة والاستقلال يعود الشيخ الشهيد حسن خالد بجذوره وأصوله الى القائد الأمير خالد بن الوليد الذي أسهم في فتوحات بلاد الشام، وقد انتشرت أسرة خالد المخزومية في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن ومصر وسواها، فضلاً عن انتشارها في شبه الجزيرة العربية. وعرفت بيروت وشمالي لبنان وإقليم الخروب وسواها من مناطق توطن آل خالد، عرف منها في العهد العثماني العلامة الشيخ عبد الله خالد (ت 1280هـ، 1862م) عمدة العلماء في بيروت المحروسة، كما عرف منها مفتي الجمهورية اللبنانية الأسبق العلامة الشيخ محمد توفيق خالد (1872 ـ 1951) ونجله الطبيب الدكتور محمد خالد (1895 ـ 1981) رجل الخير والعطاء والبر والإحسان وسواهم الكثير. ولد الشيخ الشهيد حسن خالد في بيروت المحروسة عام 1921، تلقى دروسه الابتدائية في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت. تابع دراسته في المرحلتين المتوسطة والثانوية في معهد أزهر لبنان في بيروت (كلية الشريعة ـ كلية فاروق الأول الشرعية). وكان حريصاً على متابعة دراسته الجامعية الأزهرية، فالتحق في كلية أصول الدين في جامعة الأزهر الشريف، فنال شهادة الإجازة عام 1946. بدأ حياته العامة مدرساً في كلية الشريعة في بيروت، ثم موظفاً في المحكمة الشرعية وإماماً وخطيباً في مساجد بيروت لاسيما في منطقته منطقة الطريق الجديدة التي أقام فيها سنوات طويلة من حياته، فكان خير الإمام والقدوة الحسنة في جامع الإمام علي (رضي الله عنه) وفي جميع مساجد بيروت المحروسة. في عام 1954 عين الشيخ حسن خالد في منصب نائب قاضي بيروت، ثم عين عام 1957 قاضياً شرعياً لقضاء عكار، ثم نقل عام 1960 من عكار الى محكمة جبل لبنان الشرعية. وما يزال أبناء بيروت وعكار وجبل لبنان يذكرون الأيادي البيضاء والإسهامات الخيّرة للشيخ حسن خالد الذي كان خير معين لأبناء تلك المناطق. لقد تميز العلامة الشهيد الشيخ حسن خالد بالعلم والاستقامة والجرأة والتدين ونظافة اليد والاعتدال والوسطية، والانفتاح الإسلامي واللبناني والعربي، ولهذا فقد أجمع علماء المسلمين في لبنان والقوى السياسية المسؤولة عن الطائفة الإسلامية السنية على اختياره وانتخابه مفتياً للجمهورية اللبنانية في 21 كانون الأول عام 1966 وقد تولى هذا المنصب من سلفه العلامة الشيخ محمد علايا (1890 ـ 1967) الذي لم تساعده الظروف الصحية على متابعة مهامه. ومما يلاحظ بأن الشيخ حسن خالد منذ أن تولى منصب مفتي الجمهورية اللبنانية عمل في مجال الإصلاح والتحديث لمؤسسات الطائفة الإسلامية سواء مؤسسات الأوقاف، أو دار الفتوى أو المحاكم الشرعية أو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى أو صندوق الزكاة، أو مؤسسات الدكتور محمد خالد الاجتماعية وما يرتبط بها من مؤسسات وجمعيات. كما قام بدعم جميع المؤسسات الإسلامية التربوية والاجتماعية والخيرية والإنسانية. وباتت دار الفتوى تستقطب القوى الدينية الإسلامية والمسيحية على السواء، فضلاً عن القوى السياسية من مختلف الطوائف، ونظراً لما تميز به الشيخ حسن خالد من شخصية فذة تميزت بالجرأة والرجولة والكاريزما، فضلاً عن العلم والأخلاق، فلم يعد مرجعية إسلامية فحسب، بل بات مرجعية لبنانية وطنية، ولا نغالي إذا أشرنا الى أنه بات مرجعية عربية، لهذا فإن اللقاء العربي الأول كان مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1967، ولا يمكن أن ينسى اللبنانيون الاستقبال الجماهيري الحاشد لسماحته بعد عودته من القاهرة، والممتد من مطار بيروت الى منطقة الطريق الجديدة. لقد اعتادت الزعامات السياسية الإسلامية لاسيما في بيروت، بأن تكون لها الكلمة الفصل في الشؤون السياسية والاجتماعية والحياتية للمسلمين، بل في الشؤون الدينية أيضاً، لذلك رفض الشيخ حسن خالد بما يملك من جرأة لافتة ومسؤولية ملقاة على عاتقه، أن تنفرد الزعامات السياسية الإسلامية بإدارة شؤون المسلمين من دون تشاور وتنسيق مع سماحته، لاسيما وأن المرسوم (18) الخاص بتنظيم شؤون المسلمين أعطى سماحته صلاحيات بإدارة شؤون المسلمين السُنّة في لبنان، لهذا بدأت التناقضات والتباينات، بل الصراعات بين المرجعية الدينية الإسلامية ممثلة بالشيخ حسن خالد، وبالطبقة السياسية التي انقسمت بدورها الى فئة مؤيدة لسماحته وفئة مناوئة له ولدوره السياسي والديني. وعلى الرغم من هذه التناقضات، غير أن الجميع اعترف بقيادته وحكمته وحنكته وزعامته لاسيما في فترة الحرب اللبنانية بين أعوام (1975 ـ 1989) وبدأ بترؤس «اللقاء الإسلامي» الذي ضم رؤساء الحكومات والوزراء والنواب والزعامات السُنيّة، والذي اتخذ مواقف سياسية جريئة ضد الحالة الراهنة آنذاك سواء ما يتعلق: 1- بالعدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان لاسيما عدوان عام 1982. 2- بالقوى السياسية والطائفية في لبنان، وتحقيق المطالب الإسلامية والوطنية ورفع الغبن عن المسلمين. 3- بالتأكيد على الوحدة الإسلامية بين السُنّة والشيعة والدروز، تمهيداً للوحدة الوطنية الشاملة. 4- برفض التجاوزات الأمنية والممارسات الشاذة الصادرة سواء من القوى اللبنانية أو الفلسطينية أو السورية 5- بالتأكيد على رفض تقسيم لبنان الى كانتونات طائفية ومذهبية 6- بالتأكيد على عروبة ووحدة لبنان أرضاً وشعباً ومؤسسات. إن أحداً لا يستطيع أن ينكر دور الشيخ الشهيد حسن خالد في حل الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فترة الحرب اللبنانية، وإن أحداً لا يستطيع أن ينكر دوره وترؤسه لقمة عرمون الشهيرة بحضور نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وسواهما من القيادات اللبنانية والفلسطينية والسورية. ومن يطلع على مذكرات سماحته في كتاب «المسلمون في لبنان والحرب الأهلية» يدرك مواقف هذا الرجل الجريئة من السوريين والفلسطينيين والميليشيات اللبنانية على السواء. كما أن اللبنانيين يدركون مواقفه السديدة لبنانياً وعربياً ودولياً حيال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ولعل صلاته وخطبته الجامعة في الملعب البلدي في عيد الفطر السعيد عام 1983 والتي ضمت رؤساء الطوائف الإسلامية جميعها أكدت على قيادة وزعامة وجرأة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ الشهيد حسن خالد الذي أكد فيها على الثوابت الإسلامية والوطنية، وعلى عروبة لبنان، ورفض صهينة لبنان، والتمسك بعروبته ووحدته. كما أننا لا يمكن أن ننسى مواقفه المشرفة ورفضه لاتفاق (17) أيار 1983 بحق لبنان واللبنانيين، ولا يمكن أن ننسى مواقفه الرافضة ضد ممارسات الميليشيات في بيروت التي حاولت ضرب مؤسساتها وأهلها وأحيائها، فضلاً عن رفضه محاولات الميليشيات تدمير جامعة بيروت العربية عام 1986. كما رفض رفضاً قاطعاً الحرب المدمرة التي عرفت آنذاك «بحرب عون» بين عامي 1988 ـ 1989 وكان على اتصال دائم بخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود وبالرئيس الشهيد رفيق الحريري قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، لإنهاء تلك الحرب العبثية، وقد أعلن عن المسؤولية عن تدمير بيروت وقتل الأبرياء الآمنين، ولم يتهم البعيد فحسب، بل اتهم القريب أيضاً عن تلك الحرب المدمرة، والممارسات الشاذة بحق الوطن والمواطن. ومما أشار اليه سماحته في إطار الوطن والمواطن والوحدة الوطنية في مواقف وأقوال مأثورة منها: 1- إن أعز نداء الى قلبي هو المحافظة على وحدة هذا الوطن وقوته وأن تعيشوا في ظلاله أخوة متلاقين متحابين في السراء والضراء فالقيمة الحقيقية للمواطن هي بما يعطي وطنه من مواهب لا بما يحققه لنفسه من مكاسب. 2- إن حقنا في وطننا ليس ملكاً يتصرف به البعض وانما هو أمانة نحملها في أعناقنا جميعاً لنسلمها الى أحفادنا والى أجيالنا المقبلة وإن شريعة لبنان الحضاري هي شريعة الدين والعقل والعلم والمعرفة لا شريعة الهوى والقتل وهي شريعة اللقاء والحوار لا شريعة الخصام والدمار 3- لا ديمقراطية ولا عدالة بوجود الطائفية 4- عروبة لبنان هي الشرط الأول لبقائه سيداً حراً مستقلاً. 5- إن دعوتنا لوحدة المسلمين ليست إلا دعوة لوحدة اللبنانيين 6- الطائفية السياسية والساسة الطائفيون كلاهما ينتفع بالآخر ويتغذى عليه وكل ذلك على حساب لبنان وسلامته وازدهاره. 7- إن نهوض لبنان وتقدمه مرهون بتحقيق العدالة والمساواة بين اللبنانيين ومناطقهم 8- المواطن اللبناني لا يكون كبيراً إلا إذا بسطت السلطة الشرعية ظلها على كامل تراب الوطن. 9- إن تحرير المجتمع اللبناني لا يقوم إلا بتكامل الطاقات الإسلامية والمسيحية 10- وحدة المسلمين والمسيحيين في وطن واحد مسؤولية لبنانية مشتركة 11- اننا نريد للبنان ان يكون بلد التعايش السياسي لا التعايش الطائفي 12- إن لبنان بلد التلاقي الروحي لا الابتزاز الديني، وأن التدين ممارسة صادقة لحقيقة الدين وانفتاح مطلق على الإنسانية بأسرها. والأمر اللافت للنظر، أنه بالرغم من انشغال وانهماك سماحته بالشؤون الوطنية والإسلامية والوقفية والإنمائية والإنسانية، فإنه خصص وقتاً مهماً للفتاوى الدينية، ولتأليف عدد من الكتب والمؤلفات منها على سبيل المثال: الإسلام والتكافل الاجتماعي والمادي في المجتمع، المواريث في الشريعة الإسلامية، أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية، أحاديث رمضان، مسار الدعوة الإسلامية في لبنان خلال القرن الرابع عشر الهجري، الزواج بغير المسلمين، رسالة التعريف بالإسلام، موقف الإسلام من الوثنية واليهودية والنصرانية، آراء ومواقف، مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها، المسلمون في لبنان والحرب الأهلية، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم، الشهيد في الإسلام، الإسلام ورؤيته فيما بعد الحياة (البرزخ)، وثائق ومذكرات غير منشورة. ونظراً لعطاءاته الإسلامية والوطنية واللبنانية والعربية، فقد قامت عدة جهات بتكريمه ومنحه عدة أوسمة وشهادات منها: الوشاح الأكبر للنهضة الأردني من الدرجة الأولى 1967، وسام رئيس الجمهورية التشادي الرفيع، وسام الاتحاد السوفياتي 1974، وسام الإسلام من بولونيا، أوسمة تقديرية من الولايات المتحدة الأميركية، دكتوراه فخرية من جامعة الأزهر الشريف في القاهرة عام 1967، دكتوراه فخرية من جامعة جي جي في الصين الوطنية عام 1976، وسام الأرز الوطني اللبناني بعد استشهاده في 16 أيار 1989، وسام الشعب اللبناني والعربي تقديراً لشهادته من أجل عزة كرامة لبنان واللبنانيين. وفي الوقت الذي كان سماحته يتابع من دار الفتوى القضية اللبنانية والحرب المدمرة بمآسيها ونتائجها مع القوى اللبنانية والعربية والدولية وفي الوقت الذي كان يؤكد باستمرار على أهمية الشرعية اللبنانية وبسط سيادتها على جميع الأراضي اللبنانية، فإذا بقوى الغدر والقتل وقوى الظلام والتآمر وبواسطة سيارة مفخخة تغتال الشهيد الكبير في 16 أيار 1989 في منطقة عائشة بكار ـ شارع الخلفاء الراشدين الذي رفض في حياته اقتراحاً لبلدية بيروت بأن تستبدل اسم الخلفاء الراشدين باسم حسن خالد وتلك القوى المتآمرة لم تأخذ بعين الاعتبار الموقع الروحي والديني والسياسي المميز لزعيم المسلمين في تلك الفترة ولم يأخذوا بعين الاعتبار حرمة عمامته الشريفة الناصعة كبياض ثلوج لبنان الشامخ. فحادثة الاغتيال لم تكن اغتيالاً للشيخ حسن خالد فحسب، بل كانت اغتيالاً لما يمثل مفتي الجمهورية، ولما تمثل دار الفتوى، وهي محاولة اغتيال للقيم والمثل العليا والمبادئ السامية التي كان يمثلها الشيخ الشهيد، وهي محاولة اغتيال وكم أفواه الطائفة السنية تلك الطائفة اللبنانية العربية الإسلامية الوحدوية. لقد قضى الشيخ الشهيد حسن خالد شهيداً من أجل: 1- كرامة وحرية وسيادة واستقلال ووحدة وعروبة لبنان 2- من أجل كرامة اللبنانيين عامة وكرامة المسلمين خاصة الذين لم يعتادوا الانصياع لقوى الاستبداد والطغيان منذ فجر التاريخ اللبناني والإسلامي والعربي 3- رفضه التدخل الخارجي في الشؤون اللبنانية، وقد صارح بذلك عدة مرات الزعامات اللبنانية والعربية 4- الجرأة التي تميز بها، وكان باستمرار يردد: «إن الحياة أو الموت بيد الله تعالى» 5- مبادئ الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي وإقامة العدل والمساواة والمشاركة الوطنية 6- مرجعيته وزعامته اللبنانية والعربية والإسلامية 7- من أجل كرامة بيروت المحروسة ومن أجل كرامة البيارتة 8- قضى شهيداً لأنه كان رمزاً للاعتدال والوسطية، رافضاً باستمرار للعنف والتطرف. إن الشعب اللبناني ومنذ إعدام شهداء لبنان عامي 1915 ـ 1916، ومنذ اغتيال الرئيس الشهيد رياض الصلح مروراً باغتيال الزعيم الشهيد كمال جنبلاط واغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي، واغتيال الشيخ الشهيد حسن خالد، واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وكافة شهداء لبنان مسلمين ومسيحيين، اعتاد هذا الشعب على أن آلة الاغتيال والغدر والقتل المحلية والإقليمية والدولية، انما استهدفت باستمرار لبنان الوطن، لبنان الكرامة والأنفة والعزة، لبنان السيادة والاستقلال والحرية والعروبة، غير أنه من الثابت أن اللبناني الذي مر بتلك المحن والمصاعب والاغتيالات لم ولن يغير ولن يبدل من ثوابته وقيمه ومثله العليا. المفتي الشيخ الشهيد حسن خالد (1921 ـ 1989) وبمناسبة الذكرى العشرين لاستشهادك، لروحك الطاهرة، لك منا وللسيدة الفاضلة حرمكم المصون، ولأنجالك الكرام ولعائلتك الكريمة، لكم منا ومن اللبنانيين والعرب كل الوفاء والتقدير والاعتزاز بشهادتك الطاهرة التي نعتز بها، لأنها كانت شعلة إسلامية ووطنية وبارقة أمل لاتفاق الطائف عام 1989، ولمسيرة الكرامة والعزة والحرية والاستقلال والسيادة، ووحدة لبنان وعروبته. د. حسان حلاق، مؤرخ وأستاذ جامعي.
|