أيها الأخوة الأعزاء، نلتقي اليوم وإياكم وسط هذا الجمع الطيب والخيّر، لنحي الذكرى السنوية العشرين لاستشهاد سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد (رحمه الله)، الذي عرفتموه قائداً إسلاميا ووطنياً فذاً، قائداً صادقاً مع الشعب والوطن، قائداً شريفاً قدم حياته من أجل أن يبقى الوطن عزيزاً وحراً لأبنائه يتوارثونه جيلاً بعد جيل كرماء أوفياء وفي يدهم وصية الحفاظ الدائم على الحرية والحياة... نلتقي معكم في هذه الذكرى التي تحمل أسمى معاني التضحية، ذكرى الشيخ حسن خالد، الذي رفع الصوت عالياً في وجه الظلم والقهر والفوضى والحرب واللامبالاة والاعتداءات... المفتي الذي قال نعم للعدالة لا للتمييز، نعم للوحدة لا للشرذمة، نعم للحق لا للباطل، نعم للانفتاح لا للتقوقع، نعم للعقل لا للتهور، نعم للحرية لا للاستعباد، نعم للحكمة لا للانتحار... في ذكرى الشيخ حسن خالد، نقف بينكم لنرفع الصوت عالياً وندعو إخواننا اللبنانيين جميعاً إلى التفكير ملياً بالصورة المحزنة والمؤلمة التي وصلت إليها الأوضاع المتأزمة والمعقدة في لبنان، والتي تكاد تجعل من اليأس وحده سيد الساحات، آخذاً معه في ذلك كل ما يملكه الإنسان في هذا الوطن من حقوق في الإنسانية وحقوق في المواطنية وحقوق في الحياة... نقف بينكم لندعو اللبنانيين جميعاً للتعاون الصادق في ما بينهم من أجل إيجاد حل مقنع وعادل يضع حداً نهائياً للأزمات المتعددة التي يعيشها وطننا منذ زمن والتي استفحلت واتخذت أبعاداً في منتهى الخطورة منذ تاريخ الرابع عشر من شهر شباط 2005، التاريخ الأسود الذي شهد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري رحمه الله، وشهد بداية النهاية للفترة المتواضعة من الطمأنينة والأمان والاستقرار التي كنا نعيشها منذ نهاية الحرب والتي تبين مع الأسف بأنها كانت مفروضة بفعل الإرادات الخارجية ولم تكن وليدة خيارات اللبنانيين وإرادتهم الحرة بالعيش الآمن والكريم معاً في دولة سيدة حرة وديمقراطية لا مكان فيها للسلاح والفوضى ولا للخلافات الخطيرة والانقسامات... فما حدث منذ الرابع عشر من شهر شباط 2005 وقبله ولغاية الآن كشف عوراتنا وزيف إدعاءاتنا وكلامنا عن حب الوطن وعن الوحدة في الوطن وعن المجتمع الواحد في الوطن وعن الشعب الواحد والمصير الواحد والتاريخ الواحد... ما حدث وما يزال يحدث، كشف عدم دقتنا في ما كنا نقوله عن دور القانون ودور الدستور ودور الطوائف والمؤسسات... ما حدث ويحدث في لبنان يعرينا ويكشفنا ويحرجنا ويشعرنا بالخجل الشديد أمام الأجيال القادمة لأنه يصورنا على أننا شعب عاجز دائماً عن حكم نفسه بنفسه، وبأننا ودائماً لا نستطيع أن ننظر إلى مصالحنا الوطنية في وطننا إلا من خلال مصالح الآخرين في أوطانهم، وبأننا نقايض القوة بالضعف ساعة نريد الهروب من المواجهة، التي تستدعيها مسائل الحفاظ على الوطن، ونقايض السلم بالفتنة ساعة نريد الهروب من الحقيقة والواقع، فندمر الوطن... ما يحدث في لبنان أمر مؤلم وخطير وقبيح لأنه دمر طمأنينة الأنفس وسلب اللبنانيون كل آمالهم في العيش الكريم والمستقر داخل وطنهم وفي مجتمع متضامن متماسك لا يغيب فيه الوعي ولا مكان فيه للمخاوف أو التعديات... ما يحدث في لبنان، دمر طيبة الجيرة والإنسان وتواصل المدن والأحياء وجعل التاريخ المتوارث بفعل العشرة والحياة مذعوراً مبعثراً في نظرات خوف وشك تتقمص وجوه من تربوا معاً ودرسوا معاً ولعبوا معاً وعانوا معاً وطأة المشاكل والأزمات والأحزان والآلام... في الذكرى السنوية العشرين لاستشهاد المفتي الشيخ حسن خالد، الذي كان وقف وقفة عز مشرفة مواجهاً أعاصير السياسة وعواصف التدخلات، نقف بينكم ومعكم لنسجل اعتراضنا على كل ما حدث ويحدث في هذا الوطن... نسجل اعتراضنا على تخويف الناس وعلى تضليل الناس وتيئيس الناس وتحريض الناس على الناس... نسجل اعتراضنا ونقول بأن المجتمع اللبناني كان ويجب أن يبقى دائماً مجتمع الحضارة والانفتاح وليس مجتمع التخلف والانعزال... نسجل اعتراضنا ونقول بأن المجتمع اللبناني كان ويجب أن يبقى دائماً مجتمع التسامح والوحدة وليس مجتمع الحقد والانقسام... نسجل اعتراضنا ونذّكر بأننا كنا جربنا التفرقة والشرذمة في هذا الوطن، وجربنا الفوضى والفتن والاقتتال... وجربنا تعدد الجيوش، وجربنا انحلال الدولة وعجز الدولة وغياب الدولة... كما جربنا تدخلات الدول وممارسات الدول والاستنجاد بالدول وطموحات الدول ومصالح الدول ووصايا الدول... وجربنا حصار بعضنا لبعض وعزل بعضنا لبعض وتخوين بعضنا لبعض وحروب بعضنا على بعض، فماذا كانت النتيجة؟ تحولت الحدائق الغناء إلى مقابر وتحولت المدن الشهباء إلى ركام وتحول الشباب الواعد إلى حطام يأكل بعضه بعضاً في آتون حرب طاحنة جعلت منه هو الوقود وهو الضحية وجعلت من الآخرين كل الآخرين يربحون كل الربح وعلى حساب الوطن...
أيها الأخوة الأعزاء، يجب أن نحترم ذاكرتنا، وذاكرتنا مليئة بالأحداث والمشاهد التي يجب أن لا تُنسى أو أن يقفز من فوقها أحد... إن ذاكرتنا متخمة بالمشاهد المروعة والصور البشعة، التي صنعتها أخطائنا وشوارعنا وتخلفنا وجهلنا وأنانياتنا وغرائزنا وتقاعصنا وقلة بصيرتنا وانعدام حكمتنا... إن احترامنا لهذه الذاكرة يدفعنا للقول بصوت عالٍ بأن سياسة إدارة الظهور لبعضنا البعض هو أمر معيب ومرفوض... وإن اللجوء إلى سياسة الهروب من مواجهة الاستحقاقات من خلال الفوضى والفتن أو الاقتراب من الفوضى والفتن هو انتحار... وإن اللجوء إلى سياسة الاختلاف حول العدالة وحول الحقيقة وحول المبادئ والقيم والأخلاق وكل العادات الخيرة التي كنا توارثناها عبر الأجيال، هو أمر معيب ومحزن، وقبل ذلك، هو أمر بالغ الخطورة. أيها الأخوة الأعزاء، إن احترامنا لذاكرتنا وخوفنا الشديد على هذا الوطن وعلى الشعب كل الشعب فيه، يدفعنا لأن نحذر وأن نقول بوضوح بأنه من المعيب جداً والخطير في آن، أن تبقى نوافذ الوطن التي هي على تماس مع الخارج مفتوحة بهذا الشكل الواسع المستورِد لمختلف أنواع الأزمات والتعقيدات، في حين تبقى النوافذ التي هي في الداخل، والتي هي على تماس مع بعضنا البعض مقفلةً بهذا الشكل الجاف والمتوتر، الذي لا يجعلها مفتوحة إلا للشتائم حيناً وللتهديد حيناً وللتراشق بتهم التخوين والتآمر وتهم التسبب بالمشاكل والعقبات في كثير من الأحيان... إن احترامنا لذاكرتنا وخوفنا على هذا الوطن والشعب، يدفعنا إلى سؤال كل من يعنيهم الأمر، عن المكان الذي يأخذون الوطن إليه؟ وعن المكان الذي يأخذون الناس إليه؟ وعن المكان الذي يأخذون الطوائف إليه؟ وعن المكان الذي يأخذون كل ما هو موجود في هذا الوطن من حياة إليه؟ لماذا علينا دائماً أن نجرب في الوطن ما سبق أن جربناه ودفعنا من جراءه الثمن غالياً؟ لماذا علينا دائماً أن نأسر أنفسنا بأنفسنا ونحاصر أنفسنا بأنفسنا وندمر أنفسنا بأنفسنا؟ لماذا علينا أن نرتدي دائماً ثوب الضحية المنتحرة أو المقتولة بالمجان؟ لماذا علينا دائماً أن نبقى في آتون الأزمات وآتون تداعيات الأزمات وتعقيدات الأزمات؟.... أيها الأخوة الأعزاء، إن الأوضاع في هذا الوطن لا يجب أن تستمر هكذا وعلى هذا المنوال الخطير من التأزم والتعقيد... وإذا كنا نأمل أن تجري الانتخابات النيابية في أجواء هادئة وديمقراطية خالية من المشاكل والعقبات، فإننا نأمل أن يتحمل الجميع مسؤولياتهم في ما بعد الانتخابات على نحو يؤمن الحل الدائم، الذي لا تتمدد معه المحن والآلام... والحل الذي نطالب به ونراه ملائماً لهذا الوطن، هو الحل الذي يسمح للإنسان أن يعيش عيشة الإنسان فيه...
فهل هذا كثير على اللبنانيين... أيها الأخوة الأعزاء، نشكر لكم حضوركم ووفائكم، متمنيين لكم جميعاً عمراً مديداً خالياً من الهموم ووافراً بالصحة والعطاء، آملين أن نلتقي بكم قريباً في الوطن الأفضل الذي يحفظ الحقوق ويصون التضحيات... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كلمة المهندس سعد الدين حسن خالد في حفل العشاء الوطني بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لاغتيال المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، 21 أيار 2009 ، اوتيل رويال بلازا |