«حسن خالد» إغتالوك لأنك كنت «كبيراً»..!
في الساعة 12:55 من ظهر يوم الثلاثاء الواقع فيه 1989/5/16 الموافق 11 شوال 1409هـ، اغتيل «المفتي الكبير الشيخ الجليل حسن خالد» عند تقاطع «عائشة بكار» أو «مربع مسجد عائشة بكار» بسيارة مفخخة (-كما اغتيل فيما بعد وفي التوقيت ذاته رئيس وزراء «لبنان الكبير» رفيق الحريري عند تقاطع «السان جورج» في 2005/2/14) سُمع دوي إنفجارها في كل «بيروت وضاحيتها الجنوبية والشمالية» وانتشر الخبر «إغتالوا المفتي»..!
بعد 26 عاماً أتذكر هذا «اليوم الرهيب» الذي اغتيل فيه «كبيرنا» آنذاك، وكنت قد زرته صباحاً وتحدثنا مطوّلاً عن كيفية «الإستنهاض» بـ»الطائفة السنية» وإنشاء مركز لـ»الدراسات والأبحاث» في «دار الفتوى»، و»لملمة كل أوراق المفتيين» اللذين سبقاه وهما «المفتي الأكبر محمد توفيق خالد» أول مفتي للجمهورية اللبنانية بعد استبدال إسم «مفتي بيروت» بـ»مفتي الجمهورية اللبنانية» 1932، وخلفه «الشيخ محمد علايا» رحمه الله ثم انتخب «الشيخ حسن خالد» مفتياً (بعد مقابلته «الرئيس جمال عبدالناصر») الاربعاء في 1966/12/21، حينما استعفي «الشيخ محمد علايا» عن المنصب لكبر سنه.. وقد كان لـ»القاهرة» دوراً هاماً ومؤثراً في انتخابه مفتياً توافقياً، وكان مرشحاً للمنصب أيضاً المرحوم «الشيخ شفيق يموت» رئيس المحكمة الشرعية السنية في بيروت، وكان «الشيخ حسن خالد» رحمه الله قاضياً شرعياً في المحكمة الشرعية بجبل لبنان «شحيم».
بعد 26 عاماً لا أزال أتذكر هذا اليوم الذي إغتالوا فيه «كبيرنا» آنذاك «المفتي الشيخ حسن خالد» وكانت علاقتي به قد توطّدت منذ تخرجي من قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة بيروت العربية، وتحديداً منذ عام 1974 واستمرت طوال أيام «الحرب القذرة» من 1975 الى 1990.. وكنت أزوره وأحياناً خلال فترات القصف في منزله بـ»عرمون» مشاركاً في اجتماعات مع مسؤولين لبنانيين وعرب..
ومن هذه الاجتماعات، كان الاجتماع المكبّر الذي عُقد في دارته قبل انتخاب الراحل «إلياس سركيس» رئيساً للجمهورية 1976، وكان المجتمعون منقسمون بين مؤيّد لـ»ريمون إده» ومؤيّد لـ»إلياس سركيس» وكان حاضراً الرئيس «تقي الدين الصلح» الذي حسم الموقف بالآية الكريمة من سورة «طه» في القرآن الكريم {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} ثم حُسم الاجتماع بأكثرية الأصوات لـ»إلياس سركيس».. وكم كان مهماً رأي «المفتي الكبير» حتى اغتياله...
ولا أزال أذكر تلك الأيام الحرجة والسوداء من تاريخ «بيروت» في عامي 1984- 1985، والإقتتال بين «المرابطون» و»أمل» و»الحزب الاشتراكي» والتي استنفدت الكثير من «عوامل الثقة» بين أبناء بيروت، وحينها كان قد شكّل -رحمه الله- مجلساً إستشارياً أسند إليّ فيه «الشؤون الداخلية»، ولذلك أنابني أكثر من مر
ة وتحت القصف المجنون لمهمة «وقف إطلاق النار» في «الطريق الجديدة» نجحت مرتين، وفي المرة الثالثة كان «القرار السياسي» أكبر من «بيروت» فتوجهت الى ثكنة «هنري شهاب» وكانت بعهدة «العميد كنج» فجلست معه طوال ساعات الليل نراقب الأحداث.. وحين كان الصباح كان «مقر المرابطون» و»إذاعتهم» و»تلفزيونهم» قد دمّر...
عندها طلب مني «المفتي الكبير» (-وكنت على تواصل معه وكان مهجراً الى منزل أحد أصدقائه في كورنيش المنارة بالقرب من مطعم ماسيس مواجه لمطعم ومقهى نصر) أن أقابل «الرئيس الشهيد رشيد كرامي» وكان يقيم في منزل بڤردان، قابلته، ثم دخل الى غرفة المكتب وكتب إستقالة الحكومة، وفي اليوم التالي عقد اجتماع موسّع في «دار الفتوى» حضره أعضاء «اللقاء الإسلامي» لدراسة الموقف، وتشكيل وفد للذهاب الى دمشق، الذي توجه إليها بطوافة عسكرية لبنانية..
وأعود الى «اليوم المشؤوم» وكان قبلها في زيارة رسمية لـ»بلغاريا» و»بولندا» تفقد فيها «مساجد» العاصمة البلغارية «صوفيا» واجتمع مع كبار المسؤولين لدراسة أوضاع المسلمين في «بلغاريا».
وفي «وارسو» اجتماع بكار المسؤولين البولنديين لمتابعة شؤون المسلمين في بولندا وعقد اجتماعاً موسعاً مع السفراء العرب، وعلى انفراد مع السفير المصري الذي كان انذاك على ما أذكر عميد السلك الديبلوماسي العربي في «وارسو» آنذاك...
كما زار «مدينة غدانسك» في «بولندا» واجتمع بالجالية الاسلامية فيها، كما اطلع على ما تم من بناء مسجدها الكبير الذي كان قد ساهم مساهمة كبيرة في بنائه بعدما زارها لأول مرة عام 1984 (من خلال عضويته في «رابطة العالم الإسلامي»، وفي «المجلس الأعلى للمساجد العالمي»، و»الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية» بالكويت) وقد رحبت به «الجالية الاسلامية» ترحيباً فوق العادة، لأنها -ومسلمي بولندا عامة- كانوا يعتبرونه «الأب الروحي» لهم...
وبعد عودتنا الى «وارسو» جاءه الخبر «أن الجنرال «عون» (وكان قائداً للجيش في «اليرزة»، بينما كان «اللواء سامي الخطيب» قائداً للجيش في بيروت) يقصف منطقة «عائشة بكار» وقد طالت القذائف «دار الفتوى» -وكانت الفترة آنذاك «حرب عون وجعجع»- فتشهد بـ»الله العظيم» وقال في غصة «لا حول ولا قوة إلاّ بالله».. وطلب من الصديق «سيد قمبرجي» أن يقوم بمراجعة شركات الطيران للعودة فوراً الى «بيروت» وكان «مطار بيروت» قد أغلق.
وعدنا الى «بيروت» عن طريق «دمشق» عبر «الخطوط الجوية البلغارية» -(وهذا ما أمّنه «الصديق سيد قمبرجي» أحد كبار مهندسي هذه الرحلة الأخيرة للمفتي الكبير)- وعند وصولنا «مطار دمشق الدولي» إنتقلنا فوراً الى الحدود وكانت تنتظره المرافقة الخاصة به، حيث لم يقابل أي مسؤول سوري، مع أننا استقبلنا في صالة الشرف الرئيسية في مطار دمشق.
وفي اليوم الثاني طلبني لأزوره في منزله ببيروت، ليسلمني رحمه الله تعالى «هدية» قُدّمت له في «صوفيا» وأصرّ.. وبينما نحن جالسين وكان منتظراً مكالمة هاتفية، وفي الساعة 12:55 دقيقة رن جرس الهاتف وتكلم كلاماً قاسياً... وانتهت المخابرة بعد 20 دقيقة، وأخبرني أنّ المتحدث كان السفير الكويتي بدمشق «أحمد الجاسم» الذي عاد وزاره في «دار الفتوى»...
وبعد أيام «إغتالوه» في الساعة 12:55 ظهراً عند تقاطع «عائشة بكار» فور خروجه من «دار الفتوى» ظهر يوم الثلاثاء 1989/5/16 الموافق 11 شوال 1409هـ، لأنه كان «شاهداً» لا يكذب عن «عصر الحرب القذرة» 1975- 1990.
وحتى لا يرى «إتفاق الطائف» الذي أنهى «الحرب القذرة» والذي عمل من أجله كثيراً، ودفع حياته ثمناً له...
وحتى لا يكون «المهندس» لهذا «الاتفاق» و»لبنان الطائف» إغتالوه فـ»عمّ الظلام» -دار الفتوى-
إغتالوه لأنّه كان «كبيراً» والمطلوب أن لا يكون هناك «لبنان الكبير»...
يحيى أحمد الكعكي
|