نشر في: جريدة المستقبل - العدد 4006 الثلاثاء 24 أيار 2011
بدعوة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني، أقيم في دار الفتوى، أمس، إحياء الذكرى الثانية والعشرين لاستشهاد مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد، بحضور ممثل رئيس الجمهورية ورئيس حكومة تصريف الأعمال الوزير حسن منيمنة وممثل الرئيس المكلف، عبد الفتاح خطاب وممثلين عن المراجع الروحية في لبنان ووزراء ونواب حاليين وسابقين وسفراء بعض الدول العربية والإسلامية وممثلين عن القيادات الأمنية في لبنان وحشد من الشخصيات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والتربوية ومفتين وقضاة شرع وعلماء.
استهل الحفل بتلاوة من آيات الذكر الحكيم. ثم تم عرض فيلم وثائقي عن المفتي الشهيد. وألقى عريف الحفل الأمين العام للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الشيخ خلدون عريمط كلمة عدد فيها مزايا المفتي الشهيد وقال: لبنان العربي هذا الذي أراده المفتي الشهيد واستشهد دفاعاً عن وحدته وعروبته، وأراده الرئيس الشهيد واحة رجاء وعلم، ونموذجاً لبناء الأمة، ويريده الأخيار من القيادات الإسلامية والمسيحية الطامحة للنهوض ببناء لبنان الدولة القوية العادلة بمؤسساتها الحاضنة جميع اللبنانيين.
ثم ألقى المهندس سعد الدين خالد كلمة مؤسسات المفتي الشهيد، فقال "في الذكرى نبدي حزننا وأسفنا لبعض ما يحدث اليوم في وطننا على صعيد الحياة السياسية التي تشهد منذ سنوات ولا تزال كل أنواع الاهتزازات وكل أنواع التعقيدات وكل أنواع الفوضى والتعديات.
نبدي حزننا على هذه الحال التي أصبح معها الدستور الذي كان دائماً عماد الطمأنينة والاستقرار السياسي في هذا الوطن مادة نتجاهلها ساعة نشاء ونلتجئ إليها ساعة نشاء ونتمسك بها ساعة نشاء ونريد وكل ذلك على حساب لبنان واتزانه وحساب الحاضر والمستقبل كما حساب كل المبادئ والنصوص والأعراف.
نبدي حزننا على هذا الشلل الذي أصاب كل الأوضاع، فلا حكومة تحكم ولا حكومة تؤلف ولا حكومة تجتمع ولا حكومة تنتج، وكل ذلك على حساب سمعة لبنان وحساب كل مصالح اللبنانيين".
أضاف: "نقف لنحذر وننبه ولنسجل اعتراضنا على هذه المراوحة المستمرة في إدارة شؤون البلاد والعباد التي لم تعرف البلاد لها مثيلاً حتى في أقسى الظروف التي كانت عاشتها إبان كل الحروب والنكبات.
إن حصار القيادات لبعضها البعض أو الطوائف لبعضها البعض أو تجاهل القيادات أو الطوائف لبعضها البعض أو قهرها لبعضها البعض هو أمر لا يمكن أن يؤدي في وطن مثل لبنان إلا الى الانتحار.
وتابع قائلاً "إن الاستمرار في سياسة الهروب من مواجهة الاستحقاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لن يجدي نفعاً بل سيزيد الأزمات مزيداً من الأزمات والتعقيدات مزيداً من التعقيدات.
وإن الاستمرار في سياسة إدارة الظهور لبعضنا البعض في الوطن لن يؤدي إلا الى الجمود والخراب. ومخطئ من يعتقد أن سياسة إدارة الظهر للآخر ستلغي الآخر أو أنها يمكن أن تضعف الآخر أو تكسره أو تجعله مستسلماً للإرادات رغماً عن إرادته أو للرغبات رغماً عن رغباته".
وختم قائلاً "سنبقى نطالب بمعرفة الحقيقة في ملف اغتيال الشيخ حسن خالد ولن نستسلم لليأس أبداً. سنبقى نطالب بالقصاص لمن اغتال الشيخ حسن خالد ولن نستسلم أبداً للزمن مهما طال وقسا. سنبقى نطالب بالعدالة في قضية المفتي الشيخ حسن خالد ولن نستكين. سنبقى في هذه القضية صابرين ومجاهدين ومتمسكين بقوة الايمان ولن نتعب". كلمة المفتي
واختتم الحفل بكلمة لمفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني فقال: في الذكرى الثانية والعشرين لاغتيال المفتي الشَّهيد الشيخ حسن خالد، جئتُ أذكِّركم، وكم بتنا ننسى، وما أحوجنا اليوم للذكرى، ننتفع منها وبِها. أقف لأذكِّركم بتلك القامة الوطنية العربية الإسلامية السَّامية، التي ما اعتادت الاعتداء أو التَجَنِّي على أحد، أو النيلَ من أحد، أو الغدرَ بأحَد. لأُذكِّرَكُم بالقائدِ الذي جمع اللبنانيينَ على اختلافِ طوائِفِهِم، في زَمَنٍ كان سَيِّدُهُ الخلاف، القائد الذي حافظ على تواصلِهِ معَ كلِّ اللبنانيين على تنوِّعِ معتقدهم، في زَمَنٍ كان يحكمهُ الانقطاع. هو دَفَعَ ثَمَنَ حروبِكُم أنتم أيها اللبنانيون، وقَدَّمَ دَمَهُ أُضحيَةً من أجلِ وحدتكم، لكنَّ اللبنانيين على الرغمِ من كُلِّ الحروبِ التي مَرُّوا بها، لم يستطيعوا بعد أن يستلهموا من كلِّ تجارِبِهم، القِيَمَ الوطنيةَ التي توحّدهم، وتنبذُ الفرقةَ بينَهُم في كُلَِّ حين. أضاف قباني، "ليسَ صحيحاً أنَّنا لم نفتقدْكَ في لقائنا في هذه الدار منذُ أشهُرٍ ثلاثة، يوم كانَ اللقاءُ الجامع هنا في دار الفتوى، وبالأمس افتقدناكَ أيضاً، في القمّة الروحية الوطنية في بكركي، والحقيقةُ أنَّنا نفتقدُك في كُلِّ يَومٍ من أيام هذا الوطن الذي لطالما أمِلتَ له الخير والازدهار، فأبناؤك أبناءُ هذا الوطن لمَّا يَعُوا بعدُ لمصالِحِهِم، ولمَّا يدركوا الأخطارَ التي تحدِّقُ بهم وبوطنهم وبوجودهم، وإن كانوا قد أوقفوا الاقتتال بالسلاح، إلاَّ أنَّهم استبدلوه بالاقتتال السياسيِّ بينَهم في الخلافات، وبالكيدية في تعاملهم، والتهديد والتهويل، وباستثارة النفوس والغرائز، وشحنِ الأجواء بالفرقة والتنابذ والكراهية. وعلى مدَى السنين، ها هم الأفرقاء السياسيون يحقِّقون المكاسبَ والخِسارات في السياسة في كُلِّ حين. ويبقى الوطن هو الخاسِرُ الأكبر. ومَعَ كُلِّ إشراقةِ صباح يموتُ الأملُ في هذا الوطن ويَنمو التَّرَدِّي ويَكثُرُ ويكبُر. أبناءُ الوطن يهاجرون والمتمسِّكون بأرضِهِم يجوعون، ويَغرَقون في القَلَقِ على مُستَقبَلٍ لأولادِهِم هم لَهُ جاهِلون فيما السَّاسةُ يتقاعسون عن التكاتُفِ لبناءِ هذه الدولةِ ومؤسَّساتِها التي من واجِبِها بداهةً أن تُؤمِّنَ سُبُلَ العيشِ ومُقَوِّماتِهِ لأبنائها، وأن تُحَقِّقَ لهُمُ الأمنَ السياسيَّ والاقتصاديَّ والاجتماعي، وأن تُوَفِّرَ لَهُمُ العيشَ الرَّغيدَ في كَنَفِ الوطن.
ولكنَّ ما يحصُلُ اليومَ في هذا البلد هَو العكسُ تماماً، فالمواطنُ اليومَ في لبنان، يفتَقِرُ إلى أبسطِ مُقوِّماتِ العَيشِ الكريم، مِن مصادرِ الدَّخلِ وفُرَصِ العَمَلِ والتعليمِ والاستِشفاء، إلى الكهرباءِ والبُنى التحتيَّةِ من شرقِ لبنانَ إلى غَربِهِ، ومِن شَمالِهِ إلى جَنوبِه؛ وأما المَرفَقُ القضائي فنراهُ لم يَعُد قادراً على تأمينِ الحُقوقِ الإنسانيَّةِ للموقوفِ والسَّجين، حتى ضَاقَتِ السُّجونُ بشاغليها، وَعَلَت صَرخَةُ ساكنيها، تُعَبِّرُ عن آلامِ المُعاناةِ فيها. وأما الأمنُ الذي باتَ رهينَةَ الصراعِ السياسيِّ وأهوائِه، فإنَّهُ لَم يَعُدْ معصوماً عن إلحاقِ الظُلمِ بالمواطن، فَكَثُرَت التَبريراتُ لَه، ويَبقى الظُلمُ الواقِعُ على المواطِنِ واحداً.
هذا، وإنَّ عَجْزَ المسئولينَ في كُلِّ مرَّة، عن تأليفِ حكومةٍ تُديرُ الدولة، قد غَدَا مُعضِلَةً تَشُّلُ البلاد، وأَخَذَ هذا العَجزُ يَتَحَوَّلُ شَيئاً فشيئاً إلى أزمةِ نِظام، نخشى أن تتحوَّل خطراً على كيان لبنان وَدَيْمُومَتِه، وجَديرٌ بالقَيِّمينَ على السُّلطةِ التنفيذيَّةِ وعلى الكُتَلِ النيابيَّةِ أن يتَحَمَّلوا مسؤولياتِهم الدستوريةِ والوطنيَّةِ، وأن يُسرِعوا في تَشكيلِ حكومةٍ قادرة، تديرُ شئونَ البلاد، وتَنظُرُ في حاجات المواطنين وتُعالِجُها، وَتَقي لبنانَ الأخطارَ المُحَدِّقَةِ بِه، كما عليهِمُ الإقلاعُ عن تقديمِ الحُجَجِ والأعذار، لِتَبريرِ التأخيرِ القاتِلِ في التأليف، كونَها لم تَعُد مُبَرَّرةً أو مَقبولةً في مُوَازاةِ الشئون الحياتية والوطنية المُلِحَّة للوَطَنِ وشَعبِه.
وقد استَنفَذنا مُعظَمَ الدعواتِ إلى الاتحادِ والالتفافِ والتوافُقُ بينَ الأفرقاء، ولكننا لن نَفقِدَ الأمل، وسَنَبقى على إصرارِنا بقيامِ هذه الدولة. ومهما قَدَّمنا من الشُهداء، فإنَّنا لن نَرضى يوماً أن يكونَ الوَطَنُ هو الشَهيد، وإنَّ استشهادَكَ لَم ولن يَذهَبَ هَباءً، ففي يومِ استشِهادِكَ زَرَعْتَ شُعلةً مُضيئةً لا يُمكنُ لها أن تنطفئ، شُعلَةً إيمانيَّةً وَوَطنيَّةً دائمة، تُلهِمُ أولئك الأحرارَ في لبنان، الذين يؤمنون بِنَهجِكَ في الوطنية والمُواطَنة، أولئك الذين يُصِرُّونَ قَدرَ إصرارِكَ على قيامِ لبنان سَيِّداً حُرَّاً ومُستَقِلاً، ووطناً متعافياً، وساحةً يَنعَمُ بِها أبناؤُهُ بالعيشِ الرَّغيد، وأنتَ الذي قلتَ في ثوابِتِكَ الوَطنيَّة: "إنَّ حَقَّ اللبنانيين في وَطَنِهِم، ليس مِلكاً يَتَصَرَّفُّ به البَعضُ كما يَهوى وَيَشتَهي، إنَّما هو أمانةٌ نَحمِلُها في أعناقِنا جميعاً، لِنُسَلِّمَها إلى أحفادِنا وأجيالِنا الُمقبِلَة". |