من قََتَل حسن خالد؟ نشر في: جريدة اللواء - اللواء الاسلامي الثلاثاء في 17 أيار 2011
الشيخ بلال الملا "إن شريعة لبنان الحضاري هي شريعة الدّين والعقل، لا شريعة الهوى والقتل، وإن أي فئة من الفئات لا يمكنها أن تبني لبنان على صورتها، سواء كانت حزبية أو طائفية أو مذهبية أو عنصرية".
بهذه الكلمات الخالدات في تاريخ وحاضر ومستقبل لبنان، توّج مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد رحمه الله، كلامه في خطبة عيد الفطر التاريخية عام 1983 في الملعب البلدي في الطريق الجديدة، يحيط به كل من نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الراحل الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وممثل شيخ عقل الطائفة الدرزية الراحل الشيخ محمد أبو شقرا رئيس المحكمة الدرزية العليا الشيخ حليم تقي الدين رحمهم الله.
وبهذه الكلمات رسم مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد خارطة الطريق لمسيرة لبنان نحو العيش المشترك الواحد للبنان الواحد.
ما أحوجنا اليوم للوقوف بتأمل وتمعن أمام هذه الكلمات المستخلصات من تجارب مؤلمة، لرجل بمستوى المفتي الشيخ حسن خالد.
يومها كان الاتهام بممارسة ما يسمى بـ"السنيّة السياسية"، ويومها وقف مفتي الجمهورية ليخطب بالمسلمين بهذه الكلمات، معلناً أن أحداً لا يمكنه بناء لبنان على صورته الطائفية أو المذهبية أو الحزبية، أو أي صورة أخرى غير صورة لبنان، لبنان العروبي لبنان الحرية والسيادة والاستقلال، لبنان الانفتاح والحوار والعدالة والمساواة والعيش المشترك القائم على الاحترام المتبادل، ونبذ الاستقواء بالخارج أو بسلاح المليشيات، أو التهديد بالفوضى وخطف البلد وأهله رهينة تنفيذ المخططات والمشاريع الإقليمية أو الفئوية، التي لا يمكن أن تطبق في لبنان، حتى ولو كان التطبيق بالقوة والقهر، لأنها ستفشل، وأول من يدفع ثمنها هم أصحابها قبل غيرهم.
من هنا لا تكاد تمر مناسبة أو أزمة، إلا ويتذكر الحكماء من السياسيين هذه الكلمات للمفتي خالد، علّ أصحاب الرؤوس الحامية والمغامرات الطائشة والمراهقة السياسية، يعون خطورة إعادة تجربة المجرّب، فلا يقدمون عليها مجدداً، ويعففون أنفسهم ولبنان واللبنانيين من تبعاتها، آن للجميع أن يدرك أن لبنان أكبر من أن يبلع وأصغر من أن يقسم، وأن اللبنانيين محكومون بالتوافق وبالعيش المشترك لا محالة، وأنهم مهما تقاتلوا وتناحروا وتنازعوا، فلن يغلب أحد أحداً، ولن يحكم أحد أحداً، هذا قدر.
دائماً وفي كل حين يطرح السؤال الكبير، لماذا قتل المفتي حسن خالد؟ ومن الذي قتل هذا الصّدّيق؟ وعندما يجيب المرء نفسه على هذا السؤال، ترتسم في ذهنه صورة القاتل الحقيقي، ذلك القاتل الذي لا يريد للبنان حرية ولا سيادته ولا استقلالاً ولا عروبته ولا مواطنة ولا دولة ولا مؤسسات دستورية، ذلك القاتل الذي يريد لبنان على صورته البشعة القبيحة المقيتة، لبنان الفوضى في كل شيء، نعم في كل شيء من دون استثناء.
وقف مفتي الجمهورية في تلك الحقبة من تاريخ لبنان، كالطود العظيم، مانعاً ذلك القاتل من أن يحقق حلمه في تعميم الفوضى وحكم المليشيات في رسم لبنانهم، ولكن في ذلك اليوم المشؤوم من 16 أيار 1989، تمكنت يد الإجرام السياسي الآثمة، من إطفاء منارة للحق والعدالة والوطنية، بقتل مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد، ونفثت حقدها الأسود على الجسد الطاهر، علّها بذلك تطفئ نور طريق الخلاص أمام اللبنانيين، هوى الجسد، وارتقت الروح، وبقي الذكر العطر معيناً لا ينضب، يتجدد كل عام بزخم أقوى وأكبر، يرسم معالم البطولة وأفضل الجهاد عندما قال كلمته أمام سلطان القتل الجائر.
يومها خُيّرَ الرجل بين الموت راكعاً والموت واقفاً، وبكل بساطة اختار الموت كالأبطال واقفاً، لم يساوم، ولم يركع، ولم يهرب، كيف يهرب وهو الذي لم يترك بيروت خلال الاجتياح الإسرائيلي؟ من لا يهرب من الاجتياح، لا يهرب من الاحتجاج!
لذلك قتل حسن خالد، لكنه لم يمت ذكراً، كان رجل الاعتدال والحوار مع الجميع، وكان عنيداً صلباً في قول كلمة الحق، وكان رجل الموقف الحاسم والقرار الصائب في المواقف الحرجة حيث لا يجرؤ الآخرون، وحيث يعزّ الرجال الرجال، رأى الحرب في لبنان حرب الآخرين على أرضه فرفضها، فجمع الطائفة على قلب رجل واحد، وحاول توحيدها وباقي اللبنانيين، تخلى عن النفس الطائفي البغيض، وراح يتكلم بالنفس اللبناني الجامع، لكن الشهادة كانت قدره.
تماماً، كما قتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري رحمه الله، قتل المفتي حسن خالد، هي الأسباب والظروف نفسها، وهو القاتل نفسه، لقد قتل حسن خالد بسبب تحضيره لاتفاق الطائف، لقد قتله تمسكه بالعيش المشترك، وبوحدة لبنان أرضاً وشعباً ومؤسسات، لقد قتله تمسكه بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين، لقد قتلته قدرته على جمع البلد والدولة، وتشكيله على الدوام محور الوحدة الإسلامية بكل قياداتها السياسية والدينية والمدنية ومذاهبها وتشعباتها، وعليه ينعقد الإجماع الوطني، فلم يخرج عليه أحد، يجمع القيادات السياسية والدينية في دار الفتوى، وفي قمم عرمون على مدى عامين (1975 ـ 1977)، وعنده نافذة كبيرة على العالم العربي صاحب الدور الفاعل في الاحداث السياسية اللبنانية.
ترجم المفتي خالد فهمه الحضاري للإسلام بالنهوض بدار الفتوى على كل الصعد، وبنى وأسس فيها المؤسسات الكبرى، وجسد في سلوكه الاعتدال والانفتاح وبُعد النظر وسعة الأفق والرؤية الثاقبة والحلم الوازن والتواضع الكبير.
رحم الله المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد رحمة واسعة فهو الثقة الثقة، الذي مضى إلى ربه شهيداً راضياً مرضيّاً، من أجل وحدة لبنان وأمن واستقرار شعبه، ومن أجل حريته وسيادته واستقلاله وعروبته، ومن أجل عودة الدولة ومؤسساتها الدستورية في وجه الميليشيات والأحزاب المسلحة.
وبعد: اما آن لهذا القاتل ان ينكشف ولهذا الليل ان ينجلي؟ |