نشر في: جريدة اللواء - اللواء الاسلامي الاثنين 16 أيار 2011
عندما ولجت أبواب دار الفتوى للمرة الأولى لإجراء حديث مع سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد إلى صحيفة لبنانية كانت تصدر بعد ظهر كل يوم وهي "صوت العروبة" كان الخوف من الفشل يملأ قلبي فما أنا إلا شاب مبتدئ في الصحافة يقابل رجلاً تمرس في قيادة البلاد إلى جانب إخوانه من قادتها ومؤتمر عرمون على مسافة أسابيع من ذلك اللقاء.
استقبلني رحمه الله في مكتبه باشاً كعادته في كل اللقاءات التي استتبعت ذلك اللقاء، وكأنه يريد أن يخفض من مستوى مخاوفي ليكون اللقاء بين والد واحد أبنائه، مستفتحاً اللقاء بالتأكيد على أن الكبير هو الكبير بمواقفه فإذا كانت أسئلة الحوار بحجم المواقف "فياهلا" وانتهى اللقاء بعدها الى "يا هلا بك دوماً في دار الفتوى".
... ويرحل سماحته، وتلزمنا الظروف أن نتقبل ما حصل بالاكتفاء بالترحم مع أن كبيراً رحل، وكان الأمر يقتضي أن نقول الكثير يومها، وتمر المناسبة سنوياً حتى أسمع من جديد في هذا التحقيق من يقول أننا استقبلنا الشهادة وكأنها حصلت سراً.
... نعم، لقد قتل الشاهد الشهيد ثلاثاً، وتجاهلنا الشهادة، ثلاثاً قبل طلوع الفجر لأن الخوف كان يحكم الجميع، بل لأننا كنا بحاجة إلى مشروع خلاص ورجاء جاءنا بعدها مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري وكانت النتيجة نفسها لكننا اليوم بتنا أكثر وعياً لما جرى في المرتين وربما أكثر جرأة. الشاهد الذي استمرت شهادته العلامة المفكر هاني فحص قال:
هناك مستوى عام في شخصية المفتي الشهيد يندمج في خصوصياته ويغتني بها، فهو عالم كبير من علماء المسلمين وهو مفتٍ، وهو مواطن لبناني يرى لبنان الكيان والوطن شأناً عالياً من شؤون المسلمين وهو في موقع الرعاية الوطنية التي تمر في عنوانه كمفتٍ وعالم يلزمه دينه وعلمه الديني أن يفتي لا أن يستفتي، أي أن يحفظ النظام العام لا أن يداري ويغطي على حاكم أو مسؤول أو إداري أو أي طرف حزبي أو سياسي أو دولي أو إقليمي على حساب الوطن والمواطن والشرع...
مع الشيخ حسن خالد ارتفعت هذه المسألة إلى أعلى مستوياتها فتحول الى شاهد للحق شاهد على الباطل بما يقتضي ذلك من حكمة وشجاعة، وكان الفساد والطغيان قد قرر أن يزيل العوائق الكبرى من طريقه فحوّل الشاهد إلى شهيد وقتله مرتين أو ثلاثاً...
المرة الثانية كانت في إلزامنا بالصمت كأن الشيخ حسن خالد قد استشهد سراً، أو كأنه سافر ريثما يعود...
والمرة الثالثة عندما استمر الفساد والطغيان ينخران في جسد الوطن... والآن هناك مشروع إحياء، إحياء لروح وذكرى الشيخ الشهيد لإحياء الوطن والمواطن على طريق الديمقراطية والدولة الجامعة التي أصبحت ضرورة قصوى في هذه الظروف البائسة والمقلقة والتي تدعو إلى التشمير عن السواعد النظيفة والقوية حتى لا يسقط كل شيء على رؤوس الجميع في جو من الانتفاض العربي لتصحيح المسار بالحرية والعدالة والمشاركة والمحبة والكف عن هواجس التغلب والاختزال.
وهناك خاص في شخصية الشيخ الشهيد يتفرع من عموميته ويصب فيها.. زرته في منزله أوائل عام 1973 في اطار انتفاضة مزارعي التبغ، فأستفسر عن القضية وتعاطف بعمق وتساءل عما إذا كان بإمكان الحاكم الفاسد أن يفكر في انصاف المواطن الكادح؟
وفي دار الفتوى، وبرعايته وحضوره قبل استشهاده ببضع سنوات شاركت في ندوة حول الوحدة الإسلامية، وجعلتني عنايته بالمسألة استذكر ما قاله لي الأستاذ محمد السماك من أنه رحمه الله سئل عن علاقته بالمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين فأكد أنها عميقة وأنه حريص على استشارته والاتفاق معه لأنه اختبر وحدويته العميقة والصادقة والمجردة من الأوهام والمبالغات والبريئة من الأغراض الفئوية والسياسية.
...الآن ولبنان مضطر وملزم من أجل سلامته أن ينهض إلى وحدته بجد ودأب على صعوبات كثيرة، الآن والمسلمون والعرب أمام تحد أعمق من كل التحديات السابقة، في لبنان وفي سائر بلادهم، نستذكر الشهيد الموحد الوحدوي العروبي الانتماء من دون عنصرية أو قطيعة مع أحد وعلى أساس التوحيد الجامع والأفق الإنساني وندعو إلى تحويل ذكراه إلى مناسبة وطنية واسلامية لبنانية حوارية وتقريبية تفادياً للأخطار وسلام عليه شاهداً وشهيداً وقدوة على طريق الخلاص والرجاء الذي جسده ثانية رفيق الحريري شاهداً ثم شهيداً على نفس الطريق. المفتي دلّى مفتي حاصبيا ومرجعيون الشيخ القاضي حسن دلّى قال: عرفنا المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد رحمه الله، فعرفنا فيه الإنسان الخلوق، صاحب الموقف، الذي لا يهاب اتخاذ القرار مهما كانت درجة المخاطر عالية، والأعداء متربصين، رجل لا كالرجال، آمن بأن الإنسان يعيش بقدر ما قدّر الله له، فلم يكن يتوانى عن اتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب حتى دفع حياته شهيد موقفه.
المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد تولى المسؤولية خلال فترة صعبة تاريخياً في لبنان، كانت البداية معه خلال المد الناصري في المنطقة العربية حيث الطروحات الوحدوية العربية لها الصدارة والتأييد، فاستطاع بحكمته أن يكون رجل المرحلة دون أن يصطدم بالآخرين.
تلا ذلك مرحلة انطلاقة الثورة الفلسطينية والالتفاف الإسلامي حولها إلى درجة مواجهة السلطة اللبنانية يومها دفاعاً عن التوتر، وحماية لها وتحول الشارع الإسلامي كله إلى السد المنيع في وجه أعدائها وكان للمفتي الشهيد دوره في احتواء شارعه وعقد مؤتمر عرمون حماية للثورة من جهة وللشعب اللبناني ووحدته من جهة أخرى.
المرحلة الثالثة كانت مع الوجوه العربي السوري في لبنان، وكانت للمفتي مواقفه التي لم يتراجع عنها أبداً، فلم ينكفئ، ولم يتراجع، وظل صلب العود لين الكلام إلى حد التكيف مع المرحلة الجديدة رغم اعتراضه عليها والتأقلم مع الواقع رغم رفضه للكثير من ممارسات الآخرين خلاله.
ومن لا يعرف المفتي الشهيد أيام صراعات الميليشيات في شوارع بيروت وتصفية بعضها لمواقع المرابطون في بيروت وموقف المفتي الشهيد تجاه ما جرى لا يعرف قوة الرجل حين يكون رجل الموقف والقرار عندما تحتاج المسؤولية إلى رجالاتها.
والمفتي الشهيد حسن خالد في ذلك كله، كان الرجل الذي يتحرك على كل صعيد، فطوراً هو في الأزهر يتابع الدارسين، وتارة يوفد العلماء إلى الدول العربية لتأمين دعم إنشاء جامعة إسلامية في بيروت، وثالثة يتحول الى سد تتحطم عليه مشاريع الآخرين ممن يسعون إلى صنع أجواء الفتنة في لبنان.
لقد فشل في مواجهته كل من أرادوا النيل من بيروت ومن صمود بيروت ومن عروبة بيروت وظلت بيروت رغم كل المصاعب التي رسمت لمسيرتها ورغم كل الضغوط التي مورست عليها صامدة تتحدى الريح والعواصف وما كان ذلك ليحصل لولا وجود المفتي الشهيد رحمه الله وأسكته فسيح جناته. د فارس الشيخ الدكتور أحمد فارس قال:
إن ذكرى اغتيال الشهيد شهيد لبنان والأمتين العربية والإسلامية المغفور له الشيخ حسن سعد الدين خالد ذكرى أليمة، كلما مر الزمن شعرنا بالحاجة إلى مواقفه الوطنية والإسلامية وأدركنا مدى الخسارة التي منينا بها لأنه كان مفتياً حقيقياً ومؤمناً مخلصاً ومجاهداً كبيراً في سبيل وحدة لبنان ووحدة أبنائه ووحدة المسلمين.
وقد عمل المفتي الشهيد في ظروف صعبة جداً لكنه كان متماسكاً لأنه كان متوكلاً على الله في كل ما يفعل وحافظ على الأوقاف الإسلامية وعزز المؤسسات التابعة لدار الفتوى وأنشأ مؤسسات أخرى تبعاً للحاجة الملحة ولتطور الحياة فكان محافظاً ومجدداً في آن واحد وكان يكرم العلماء ويسعى لجمعهم ويكلف كل واحد منهم حسب إمكاناته وقدراته تنمية للعمل لأنه وضع كل انسان في موقعه الذي يستحقه لا من أجل افادة شخص أو مجموعة وإنما لتعزيز المؤسسة وتنميتها.
ولقد أدرك الذين كانوا ينتقدونه وينشرون البيانات المغرضة المليئة بالافتراءات من خلال ظنونهم أنهم كانوا على خطأ ويستمطرون شآبيب الرحمة على الفقيد الكبير.
لقد عملت مع منذ عام 67 في دار الفتوى وفي المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى وعميداً لكلية الدعوة الإسلامية (كلية الشريعة حالياً) ومشرفاً على أزهر لبنان ومفتشاً ادارياً ومراقباً مالياً وكنت ألفته الى بعض الأمور التي أرى فيها الصواب والخطأ فكان يأخذ الأمور بصدر رحب ويناقش بهدوء ويقر بالخطأ ويصوب المسار وكان يحافظ على الموظفين المخلصين الذين يقومون بواجباتهم على الوجه الأكمل وكان لا يرضى بشكل من الأشكال أن يكلف من حوله شبهة بأي مهمة دينية غير عابئ بالضغوطات والاتصالات لأنه كان ينبغي وجه الله والمصلحة الإسلامية العليا حتى أنه كان يبعد أقرب الأقربين إليه من عائلته وأصحابه إذا رأى منهم بوادر انحراف لأنه كان حريصاً كما ذكرت على المؤسسة الإسلامية دون سواها ويعمل في دائرة التقوى ولا يخشى إلا الله سبحانه وتعالى.
وكأن يجهد في التوجيه والإرشاد للسياسيين ليكونوا ضمن بوتقة الوطنية ومصلحة المواطنين وحاول جاهداً نصح السياسيين حفاظاً على الوطن ووحدة بنيه ولم يقبل تسييس الدين فكان يقف في وجه الظلم والظالمين والمنحرفين ولم يرض مطلقاً بتسييس الدين وكانت هناك اغراءات من نواح متعددة وضغوطات في جهات معينة لتغيير مساره لم يستطع هؤلاء اختراق جبّته ولا فكره وظل صامداً في وجه العواصف كالطود الأشم إلى أن سقط شهيداً وانتقل الى رحمة الله راضياً مرضياً. د اللدن الشيخ الدكتور أحمد اللدن قال:
عملت معه رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه أيام صدور مجلة الفكر الاسلامي الصادرة عن دار الفتوى فكنت أكلف بوضع الفتاوى التي تأتي رداً على رسائل القراء التي كانت أكثر من أن يستطيع فرد واحد التفرغ لها ثم آتيه بها فيطلّع عليها وتذهب للنشر ولا أذكر أنه استوقفني يوماً إلا في رد على موضوع العمليات الانتحارية أو الاستشهادية حيث استمع إلى أكثر من رأي من العلماء واستثار العديد منهم في لبنان وخارجه قبل أن يجيز لي بنشر الرد.
وكنا نعمل في المجلة تحت ادارة الدكتور حسين القوتلي وعلى الرغم من ثقافة الاختلاف السياسي بين الرجلين رحمهما الله إلا أنه لم يقطع الصلة فيهما أبداً، الأول في موقعه كمدير عام دار الفتوى والثاني كمفت للجمهورية ولكل منهما قراراته وآراؤه ومواقفه التي لم تصطدم ببعضها أبداً بل أن كلاً منهما كان يسعى إلى مصلحة الأمة وإلى الحفاظ على المسلمين سالمين مما يتهددهم من مخاطر وكان لسماحته الدور الأول في الإشراف على المجلة وعلى سياستها إلا انه لم يخالف الدكتور القوتلي الرأي رغم أننا كنا نعلم تماماً أنه يختلف معه في طريقة الحديث عنه لكن روح سماحته الهادئة والسمحة كانت تستوعب اتخاذ الدكتور القوتلي لبغض المواقف.
كما عرفت في المفتي الشهيد اصراره على تحمل أخطاء الآخرين ممن كانوا يسيئون إليه أحياناً أو يساء إليه مع علمهم بأنه على حق إلا أنه لم يكن يسيء إليهم وكان يقول: إذا اختلفت معهم فلا اختلاف بيني وبين أولادهم لذا لن أحرمهم مصدر رزق هم بحاجة إليه نتيجة أخطاء ذويهم تجاهي.
الحديث يطول عن سماحته ومواقفه وآرائه ودوره في تلك المرحلة العصيبة من تاريخ لبنان والتي استمرت على مدى أكثر من ربع قرن وكان المفتي الشهيد معها رجل الموقف الحكيم والعقل المنفتح المستقبل للآخرين والمصر على أن تبقى يده ممدودة إلى الآخرين رغم كل ما يحصل بينهم وبينه فكان المستمع الجيد، والمتحدث اللبق، والإنسان الصبور، لكنه إذا أبدى رأياً بعد ذلك كله كان موقفه قاطعاً• رحم الله المفتي الشهيد فقد كان أمة في رجل، لذا فإن مواقف الرجال الرجال لا تنتهي إلا بالشهادة. الشيخ البابا الشيخ أحمد البابا رئيس مركز الفاروق الإسلامي قال:
عرفنا سماحة المفتي الشهيد حسن خالد في السبعينات عندما أنهينا دراساتنا الشرعية في سوريا ومصر وعدنا إلى بيروت للعمل الدعوي وتسلمنا مركز الفاروق الإسلامي بناء لطلب سماحته وتعاونا كثيراً معاً في بناء المراكز وإعادة تصميمه وتأهيله بما يليق حيث أصبح من أهم المراكز الإسلامية في لبنان، بالإضافة الى التعاون الشخصي بيننا وبين سماحته على المستوى الدعوي حيث كانت له القدرة على التأثير بالآخرين بشكل إيجابي مما فتح المجال أمامنا لتقديم المزيد في مجال الفكر الوسطي الذي كان يتمتع به سماحته والذي نؤمن به ونعمل لأجله معاً.
وقد استطعنا بحمد الله وفضله أن نؤثر بعدد كبير من الشباب والفتيات حتى أضحى العمل الدعوي رائداً في لبنان بفضل دعم سماحته رحمه الله وإحاطته بالدعاة وتوجيههم وتعزيز مكانتهم في المجتمع كما ساهمت في الكتابة في مجلة الفكر الإسلامي بناء لطلب سماحته وكانت لنا مساهمات في مجالات علمية على مستوى الاعلام والدعوة.
المفتي الشهيد حسن خالد كان شخصية اسلامية كبرى نلتقيها نحن والمفتي الراحل الشيخ أحمد كفتارو مفتي سوريا حيث كانت تجمعهما مودة كبيرة وتعاون وثيق أثمر عن كثير من الأعمال الدعوية المتقدمة في كلا البلدين.
لم يشهد التاريخ الحديث في بيروت رجلاً واجه ما واجه سماحة المفتي من أعاصير وفتن، وكان صامداً كالطود الشامخ رافضاً المساومة على حقوق الأمة ودفع حياته ثمناً لذلك وكلما يذكر مؤتمر القمة في عرمون حيث كان منزل سماحته ملتقى لقادة البلاد وسياسييهم وخرجت من هذه القمة المقررات الكبرى التي سعت للمساهمة في وأد الفتنة في البلاد وحماية الثورة الفلسطينية واستطاع بقدر الإمكان أن يعزز التلاحم الوطني ويمنع الانقسام ويرسخ العيش المشترك.
وقد واجه سماحته المحاولات الذاتية التي كانت تقوم بالسعي للاستيلاء على القرار الإسلامي أو لإضعاف الموقع الديني للمسلمين وكان بحكمته وحنكته وحسن درايته يواجه هذه المتاعب ويتعامل مع الجميع كأب فاستطاع أن يحفظ الموقع ويسلم الأمانة ودار الفتوى كانت عندها في أحسن حال رغم كل العواصف التي تهددتها رحم الله المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد وتغمده بواسع رحمته لقد عاش كبيراً ومات كبيراً وترك لنا أمانة كبرى علينا جميعاً أن نحافظ عليها بمحافظتنا على دار الفتوى ودورها. |