بقلم: المرحوم العلامة الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين حياة إنسان في القمة، مسؤول عن جماعة، في وطن تعصف به وتتقاذفه رياح الفتنة الهوج، تستعاد ذكراه والعاصفة في أوجها لا تكون ذكراه ذكرى، ولا يكون ماضياً يستعاد، ولا يكون الحديث عنه سفراً إلى الماضي، وإنما هو إعادة شخص للحاضر هكذا هو الحديث عن الشيخ حسن خالد. إنسان جاء من الأزهر الشريف، تتشابك وتترابط حياته في الشأن العام، مع إنسان جاء من النجف الأشرف، في قضية تلتقي في جميع شعبها النجف بالأزهر، على معنى واحد، هو القرآن، والإسلام، وهم المسلمون في لبنان، وفي كل مكان، وهم العرب، وعم عروبة لبنان. يلتقيان، الأزهري والنجفي، مع إنسان وآخر، وآخر.. جاءوا من اللاهوت المسيحي، على قضية تلتقي فيها شعب الإيمان الإبراهيمي، في أصوله الكبرى، كرامة الإنسان، وحريته وحرمته. بهذا الملتقى يكون لبنان وهو معنى لبنان. نكتب عنه لنكرمه، ونكرم ذكراه، هذا صحيح. ولكننا لا نكتب تاريخه في تكريمه، وإنما نكتب تاريخنا، أو تاريخ القضية التي كانت امتحاناً لإنسانيته، وإسلاميته. فتاريخ القضية في محطاتها الصعبة والأليمة، هو اختبار للعاملين فيها، وتاريخ لحياتهم، وإذا أتحدث الآن إلى زميلي وصديقي الشيخ حسن، فأننا نتذاكر الطريق الوعر الذي سلكناه معاً وحدنا، وفي حالات، ومع زملاء آخرين في حالات، الإمام موسى الصدر، الشيخ محمد أبو شقرا، وآخرين. في دار الفتوى وفي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، في قمة عرمون في حصار بيروت، سلام الله على بيروت وعلى أهلها، الحصار الذي تألقت فيه وتعملقت، بيروت، وتعملق فيها، وكبر كل أهلها الذين وفوا لها فغرسوا في ترابها إرادة البقاء في غمرة الجحيم الإسرائيلي، والتي صغر وتقزم كبار غادروها في محنتها إلى حيث السلامة والعافية، وبقي فيها الشيخ حسن خالد، وكان لنا شرف البقاء فيها مع أهلها، في نكبات بيروت، وفي انبعاثاتها من بين الركام، ومن بين النار والدخان، وفي وجه إرادة الإخضاع والإذلال، بإرادة البقاء والانتصار. في المقاومة، ولن يغيب عن ذاكرتي حين هيأ الله مجموعات من الشبان المجاهدين ليواجهوا الطوفان الإسرائيلي في أوجه، وفي ذروته، وواجهوه. وأردت أن أعلن عن ولادة حركة المقاومة المباركة على العالم من منبر عاشوراء، وأردت أن لا تكون المقاومة شيعية، وأن لا يكون الإعلان شيعياً. وحينما تشاورت معه، فكأني كنت في فكره، أو كأنه كان في فكري، أو كأننا معاً كنا فكراً واحداً. وكان إعلان المقاومة من على منبر عاشوراء، من قلب بيروت، أم المقاومة، في العاملية، وكانت بداية الفجر الكبير الذي يحمل القرآن في يد والبندقية في يد. في اللقاء الإسلامي الموسع الذي وحد المسلمين دائماً، وأنقذ لبنان مرات كثيرة، أذكر منها يوم استشهاد الرئيس كرامي، يوم الثوابت الإسلامية التي لا تزال ثوابت تحمل في ثناياها التصميم الصارم على إنقاذ لبنان من فتنته ومحنته، بما هو شعب واحد، عيش مشترك، دولة واحدة، أرض واحدة، ليس باعتباره وطناً صنما، وليس باعتباره غاية الغايات، ليس من أجل المسلمين وحدهم، وإنما من أجل كل شعبه، وليس من أجل اللبنانيين وحدهم، وإنما من أجل كل العرب، وليس من أجل مسلميه وحدهم، وإنما من أجل كل المسلمين، لأن لبنان بمعناه ومبناه يتواشح في تركيبته ومحتواه مع المنطقة العربية كلها، مع المسيحية في الشرق، ومع المواجهة الشاملة للعرب والمسلمين ضد الكيان الصهيوني، ولأنه اختبار للإسلام مع المسيحية ومع العرب، واختبار المسيحية مع الإسلام، ومع العرب، واختبار لهما في مواجهة المشروع الاستعماري للمنطقة. ومن هنا فكل انهيار فيه، وتصدع فيه "في أثافيه" سيؤدي إلى تصدعات وانهيارات، هنا أو هناك، في أطراف وقلب هذا العالم العربي، يتسلل منها المشروع الاستعماري، حاملاً حرابه الصهيونية، والطائفية، والمذهبية. وخطبة العيد، عيد الفطر، التي لخصت الانتصار الذي حققته الأمة في مواجهة عقد الإذعان "اتفاق 17 أيار" الذي اعتقدت إسرائيل انه يتوج انتصارها، فتبين اعتقادها وهما، وتبينت حقيقتها حلما، وتبين للعالم أن ما تسعى إليه إسرائيل سراب من السراب، وأنها إذا استطاعت ان تقتل وان تدمر بآلتها العسكرية فإنها لم تستطع، ولن تستطيع أن تكسر إرادة المقاومة وإرادة الحرية عبر عنها الشيخ حسن خالد، ولخصها في خطبة العيد الشهيرة وكأنه لخص فيها انتصاراً رمضانياً على الذات، وعلى السقوط، وعلى عوامل الهزيمة بالإيمان الذي لا يناله وهن ولا قنوط. حين كانت بيروت تهشم، ويجرح محياها السمح، في معارك الميليشيات الشقيقة، حينما كانت هذه الميليشيات تسقط في وحل الفتنة، وفي قذارات الفتنة، وفي صنميات الأشخاص، وكان الوحش الطائفي بطل برأسه شيطاناً مخيفاً، كان الشيخ حسن خالد يلوذ بإسلامه، ويلوذ بتقواه، ويضع كل ما يملك من قوة معنوية، ومن نفوذ سياسي ومن علاقات شعبية، في مواجهة الوحش الطائفي ليحفظ للمسلمين وحدتهم، وليحفظ لبيروت حضنها الحالي، وقلبها المفتوح، وأمومتها للجميع. كنا في دار الفتوى، وفي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، نستصرخ الرئيس الأسد، ونستصرخ سوريا دائماً، فتلبي، تلبي نداء بيروت، ونداء لبنان، كما هي تلبي دائماً نداء لبنان. وكم كانت فجيعة كبيرة، وكم كانت خيبة أمل مريرة، وكم كانت الكأس علقماً حينما قصفت بيروت الشيخ حسن خالد، بيروت لبنان "أم لبنان"، بقنابل وصواريخ البغي والعدوان، في الرابع عشر من آذار من العام الماضي. إن رياح الفتنة الهوج لا تزال تعصف، وإن أشباح الطائفية، والمذهبية لا تزال حية، وإن مشروع الوفاق وكل ما علق عليه من آمال، معرض للخطر. وإن الوفاق العربي الذي هو مطلب في نفسه، وهو جسر لبنان إلى الخلاص، يتعرض لامتحان سيؤدي الفشل فيه إلى سقوط كبير، وتصدع كبير. إن القمة التي ارتجيناها قوة دافعة لمساعدة لبنان على تجاوز مصاعب الوفاق، تبدو خطراً يهدد مشروع الوفاق، حين تطرح من خلال معادلات الخلاف، وليس من خلال معادلة الوفاق العربي. إن قمة يخطط لها بحيث لا تحضرها سوريا، أو قمة تتجاوز سوريا، لن تساعد فلسطين، ولن تساعد لبنان، ولن تحمل العالم على أن يعيد النظر في هجمته الجديدة على فلسطين، وعلى العرب، وإنما ستشجع قوى العدوان، على أن تزيد من شراستها. وتحدثني نفسي أن الشيخ حسن خالد لو كان حيّاً لفكرنا معاً وتحدثنا في أن يزور بعض عواصمنا، أن يلتقي بعض الملوك والرؤساء، ليحدثهم بما نخشى أن يؤول إليه أمر هذه القمة بالنسبة إلى لبنان، وإلى فلسطين، وهو ما أحدث به نفسي الآن، عني وعنه، لو كنت قادراً على مثل هذه الجولة. المسلمون في واقعهم وفي مرتجاهم.. المسلمون بما يعانون من أثقال الطائفية والمذهبية، إنهم في انبعاثهم الجديد، في انطلاقة الإسلام الجديدة، في الصحوة الإسلامية ما يرجى منها، وما يخاف منه عليها، من داخلها، ومما يحيط بها. كل ذلك كان هماً من همومه، وشغلاً كبيراً من شواغله، والله يعلم أننا بكينا معاً، وفرحنا معاً، في هذا الهم الكبير والرجاء الكبير، وخيبات الأمل المريرة، والآمال المشرقة في مسارات ونجاوى حملها معه إلى قبره، وسأحملها معي إلى قبري، والنقطة المتوهجة في كل ذلك هي وحدة مسلمي لبنان على ما يتجاوز الشيعية، والسنية، والدرزية في القضية الكبرى، قضية وحدة الأمة الإسلامية، حول قضاياها، وفي الصميم منها قضية فلسطين. أيها الأخ العزيز، يا رفيق الطريق، ويا رفيق الساعات الصعبة، لم نفترق بعد، كما لا يفارقنا الإمام موسى الصدر في حضوره وفكره، ولو انتزعك منا فخ الموت، فأنت ساكن في القلب، حاضر في الذهن، ماثل في الذاكرة. ولكن لا يسعني إلا أن أعترف بأنَّ الوحدة قاسية، وأن الغربة التي كان يزيلها حضورك في أحيان كثيرة، غدت أشد قسوة وأشد مرارة. والمسؤولية التي كنا نحملها معاً، غدت أشد ثقلاً، والقمم الروحية حين تدعو الحاجة إليها من أجل لبنان، من أجل خلاص لبنان وشعبه، من أجل السلام والوفاق فيه، ستُعقد وأنت فيها. أعاننا الله على أن نفي بكل عهودنا ومواثيقنا معه، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل عواقب كل أمورنا خيراً. والحمد لله رب العالمين. من كلمة كتبها في "اللواء" في الذكرى الأولى لرحيل المفتي الشهيد في 16/5/1990.
|