الدكتور مروان قباني، واحد من الذين عملوا مع سماحة المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، من خلال منصبيه المهمّين في دار الفتوى: مدير عام الأوقاف الإسلامية، والمسؤولية الأولى في لجنة صندوق الزكاة. وهي المؤسسة التي أنشأها المفتي الشهيد ومنحها كل عناية ورعاية. الدكتور قباني أدلى لـ"الموقف" بشهادته عن المفتي الشهيد، من موقع الشاهد القريب.
خسارة كبرى
• كيف تتلمسون أثر غياب المفتي الشهيد على اللبنانيين عموماً، والمسلمين خصوصاً؟
ـ لا شك أن سماحة المفتي رحمه الله، هو من الرجال القلائل الذين كان لهم دور مميز في التاريخ اللبناني عموماً والإسلامي خصوصاً، وذلك يعود إلى أكثر من ناحية إما ذاتية أو موضوعية. فقد كان رحمه الله، له من الصفات الشخصية، من علم شرعي والتزام خلقي وضوابط سلوكيه ما يؤهله لهذا الدور المميز حدا فلم ينشط في سبيل مصلحة خاصة ولا لكسب دنيوي إنما كان يخدم قضية آمن بها وتفانى من أجلها ودفع حياته ثمنا لها. أما من الناحية الموضوعية فإن الوضع اللبناني بتركيبته الطائفية المعقدة والسياسية المتشابكة سمحت له بإظهار هذا الدور والنجاح به على شتى الأصعدة التي مارسها، أو كان له مشاركة بها. من هنا فإن غيابه يمثل خسارة كبرى للبنانيين الذين فقدوا فيه قياديا رفيع المستوى بل قلّ أمثاله، وكذلك فقد فيه المسلمون قائداً عمل ما استطاع من أجلهم مدافعا عن وجودهم مطالبا بحقوقهم وبالأسلوب الذي يرضي الله وتحقيق مبادئ الإسلام في الحياة.
موقعه العربي والعالمي
• من خلال مرافقتكم له في رحلاته، كيف تقيمون الموقع الذي حققه المفتي الشهيد على الصعيدين العربي والدولي؟
ـ إن الروح الدعاوية للمفتي الشهيد مع ما يرافق هذه الروح من انفتاح على جميع الناس بمختلف اتجاهاتهم كانت حافزا له لإقامة سلسلة كبيرة من الاتصالات والصداقات العربية والعالمية. فعلى المستوى العربي كان من أنجح العلماء الذين عرفهم العرب بسعة افقه ووفرة اطلاعه وتعاطيه مع جميع قضاياهم بالشكل الذي يعطي صورة عن مدى عمق فهمه لتشعبات القضايا العربية المتنوعة حتى يمكن لي أن أرى فيه زعيماً عربياً مهما كان موضع تقدير من قادة العرب وعلمائهم ومؤسساتهم وهذا ما لمسناه واقعيا خلال مرافقتنا له لفترة من الزمن. أما على الصعيد العالمي فلا يقل دوره عما سبق وذكرنا. فقد عقد مجموعة من الصداقات العالمية نجح من خلالها بإبراز دور الإسلام الحضاري وتشريعاته الدقيقة وذلك من خلال عرضه لمبادئ الإسلام على جميع من التقاهم من مسؤولين عالميين وعلى مختلف المستويات حتى أننا سمعنا في أكثر من مرة صدى لقاءاته بأن بعض المسؤولين قد فاجأهم وجود عالم مسلم على هذا المستوى من الفهم الحضاري للإسلام ودوره في العالم وكل هذا كان منطلقا من إيمانه بالدعوة الإسلامية وعرض الإسلام بشكله الحقيقي. ولقد سمحت لنا الفرصة أن نرافقه في العديد من بلدان العالم كان فيها خير ممثل للإسلام. وقد تجلى هذا الدور الهام في اللقاء الأخير الذي عقد في الكويت للزعماء الروحيين اللبنانيين مع اللجنة السداسية العربية للاتصالات من اجل لبنان. لقد كان تحركه المميز جداً، وفهمه للتركيبة اللبنانية وإيمانه بوحدة البلاد وضرورة العيش المشترك فيها أمرا لافتا يمكن لي أن أصفه بأنه ترك بصمة على مسار التاريخ اللبناني من خلال ذلك اللقاء.
انجازاته الاجتماعية
• هل يمكن أن تلقوا الضوء على اهتمامات سماحة المفتي وانجازاته على الصعيد الاجتماعي؟
ـ خلال الأحداث الدامية التي عصفت بالبلاد، كثرت كما هو معروف المآسي الاجتماعية والمعيشية لدى آلاف المواطنين وكان الكثير منهم يتوجهون إلى دار الفتوى للعثور على حل لمشكلتهم فكان طبيعيا من الرجل الذي يحمل صفات العالم المسلم المتفاعل مع الناس أن يتجاوب مع مطالب وآلام المواطنين. بل أن الأمر تعدى التجاوب البسيط لمساعدة الحالات الفردية بإنشاء مؤسسات ترعى الأوضاع الاجتماعية واستطاعت هذه المؤسسات خلال سنوات أن تلعب دوراً مهماً على صعيد الخدمة الخيرية الاجتماعية. فصندوق الزكاة الذي أنشأه رحمه الله في بداية عام 1984 كان قمة في العطاء وكان يقول عنه انه من أهم أعمال دار الفتوى في تاريخها، وذلك لأن هذا الصندوق تمكّن من مدّ يد المساعدة الفاعلة لآلاف الحالات. وكذلك الأمر بالنسبة إلى هيئة الإغاثة والإعمار التي نشطت في مجالها ثم بإنشاء المراكز الطبية والاهتمام بتطوير مؤسسات الدكتور محمد خالد الاجتماعية في الأوزاعي بقسميها: الأول دار الأيتام والثاني مركز التأهيل الطبي، وكل هذه المؤسسات باتت من تاريخ هذا البلد وواقعه ومستقبله. وكل ذلك كان بعد توفيق الله بفضل ذلك الرجل الذي كان يتألم لآلام الناس ويفرح لأفراحهم. ولا ننسى مطلقا جهوده خلال السنوات الثلاث الأخيرة في الأشهر الرمضانية في خلال رحلاته لجمع الزكاة في البلاد العربية أو الغربية وكانت هذه الرحلات مضنية لرجل لم يعد في مرحلة الشباب وكان يعود منها في كل مرة وقد ألّمت به الآم التنقل والتعب.
الاستمرارية
• كيف ترون مسألة الاستمرارية في دار الفتوى ومؤسساتها بعد غياب المفتي الشهيد؟
ـ لقد كان رحمه الله واعيا لقضية استمرارية العمل المطلوب من دار الفتوى لذلك لم يعتمد على الجهد الفردي إنما أقام مؤسسات من خلال الدار، وبطبيعة هذه المؤسسات أنها تجمع عشرات من العاملين والمتطوعين والمتعاونين لتحقيق هدف معين وهذا خير معين على استمرارية الفكرة. وقد كان حرصه على تجميع أكبر عدد ممكن من رجال الخير والمهتمين بالقضية الاجتماعية حول هذه المؤسسات ليضمن استمرارية العمل وفعاليته الدائمة. بل لعليّ لا اكشف سراً أنه في الأشهر الأخيرة قبل استشهاده كان يحرص على إنشاء مركز للتخطيط في دار الفتوى، وكلف مجموعة من الاختصاصيين بوضع المشروع الذي كان يحتاج فقط قبل وفاته إلى إصدار القرار النهائي لنقل هذا المشروع إلى حيّز الوجود. وسيصدر القرار أن شاء الله تحقيقا لرغبته وسينشأ مركز في دار الفتوى تحت اسم "مركز الدكتورة زاهية قدورة للتخطيط والإنماء في دار الفتوى" وسيعلن أن شاء الله في حينه عن خطط وأهداف هذا المشروع. ويمكنني التأكيد أن مسؤولي الإفتاء هم بحمد الله من الذين يسيرون على نهج الشهيد ويؤكدون على خطه وسيتابعون دفع هذه المؤسسات التي تركها نحو أهدافها. المرجع: مجلة الموقف التاريخ: تشرين الثاني 1989 |