اغتيال حسن خالد محاولة لاغتيال الوحدة الوطنية - جريدة الشرق 23 أيار 1989
ودعت بيروت عصر يوم 17 أيار الماضي مفتيها ومفتي الجمهورية اللبنانية في وداع مهيب لم تشهده في تاريخها بعد. فبالرغم من انقطاع التواصل بين أجزاء الوطن وبالرغم من التهجير القسري الذي فرض على أبنائها بعد القصف العشوائي المجنون في الحرب القذرة المستمرة، رغم هذا كله كانت بيروت وفية لسماحة المفتي. مئة ألف من أبنائها ساروا وراءه إلى مثواه الأخير ومئتا ألف أو أكثر من نسائها وأطفالها ضاقت بهم شرفات وأسطح البنايات المشرفة على طريق موكب الجنازة وهذا ليس بغريب وإن ظنه البعض غريباً فالرجل الذي زحفت بيروت لوداعه كان وفياً لها كما كان وفياً لها كما كان وفياً لكل لبنان وان كرمته بيروت نيابة عن كل لبنان. لقد حمل سماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد في قلبه وعقله هموم المسلمين واللبنانيين ودافع عنها وناضل من اجلها ولم يبدل تبديلاً في قوله كلمة الحق من أجل أن يحقق للمسلمين واللبنانيين ما يتطلعون إليه من مساواة وعدالة وإخاء. لقد كان ضمير الأمة وقلب الوطن ورمز وحدة هذه الأمة وهذا الوطن. لقد جعل من دار الفتوى سقفاً لكل لبنان فحينما بدأ التفتت الذي ينذر بالتقسيم كانت دار الفتوى تقف قوية بحسن خالد ضد التفتيت والتقسيم والتشرذم المذهبي. هذه الحالة الموحدة والتوحيدية أرهبت أعداء لبنان الذين يعملون للتفتيت والتقسيم فحكموا عليه بالإعدام ونفذوا حكمهم في 16 أيار 1989 لتمرير مؤامرتهم ضد الوطن والمواطن ضد الأرض والمؤسسات لان شيخ الشهداء ومفتي الشهداء كان كبيراً، وقف في وجه مؤامرة التفتيت والتقسيم، ودعا الى المعايشة الوطنية والتوحيد والتوازن السياسي لذلك اغتالوه ليغتالوا معه لبنان الوطن ولبنان العروبة والتوازن السياسي. لقد قضى في سبيل مبادئه والتي كان في طليعتها العمل من أجل الاستنهاض بواقع المسلمين في لبنان والاستنهاض بالواقع الوطني عموماً. لقد شدد على الإصلاح السياسي مدخلاً نحو بقاء لبنان وبدون هذا الإصلاح وبدون هذا التوازن وبدون الإرادة الوطنية المتوازية قال "لا نستطيع أن نبني وطناً، كما كان يؤكد دائماً لأننا في هذه الحالة سنقع فريسة التقسيم والتفتيت واقامة حكومتين دينيتين وهذا مما لا نرغب فيه لانه لا مصلحة للبنان ولا للبنانيين في اقامته" هذا ما أكده قبل أن يقع لبنان في هذه التجربة المريرة. وكان مفتي المطالب الوطنية في العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية فهو أكد دائماً على "أن يكون كل اللبنانيين متساوين في الحقوق كما في الواجبات ابتداء من المواطنية العادية حتى أعلى درجات المسؤولية السياسية". فاغتياله هو اغتيال لنهجه الإصلاحي والسياسي والاجتماعي ولدوره الديني واغتيال لدور دار الفتوى الكبير الذي بقي قوياً متماسكاً في وجه هذه الحرب وهو الذي وصف هذا الدور قائلاً: أن الجانب السياسي لدار الفتوى مجاله مواقف مفتي الجمهورية العامة التي تقتضيها الظروف وما اجتماعات دار الفتوى خلال الأحداث وحتى اليوم إلا دليل على ذلك، دليل على دورها في التعبير عن الإرادة الإسلامية الوطنية التي حصرت دوماً على وحدة لبنان العربي، والمساواة التامة بين بنيه. لذلك صادفنا في جهادنا هذا الذي نرجو مقبولاً عند الله العراقيل من داخل الصف الإسلامي ومن خارجه إلا أننا بصمودنا وإصرارنا استطعنا بعون الله أن نذلل كل هذه الصعوبات والعراقيل. وقال: "نحن نرى والتجربة التاريخية القاسية التي عاناها لبنان أن هناك تداخلاً بين الدين والسياسة مما يصبح للسياسي دور ديني مطالب به ولا يمكن التخلي عنه، ولعالم الذين دور سياسي مطالب به أيضاً ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتخلى عنه". هكذا لعب سماحته هذا الدور فكان رجل التوازنات الوطنية ومفتي الإصلاح السياسي ونقطة الارتكاز في أي لقاء وطني وفي أي اجتماع داخل وخارج لبنان يبحث في القضية اللبنانية وفوق هذا وذاك كان داعية إسلامية كبيرة ما زال المسلمون السوفيات والبولنديون والبلغاريون والصينيون يحفظون له في قلوبهم وعقولهم مآثره في الدعوة الإسلامية فقد كان النافذة التي أطلوا منها إلى العالم الإسلامي والتي اطل منها العالمان العربي والإسلامي عليهم. لقد قال له رئيس الاتحاد الإسلامي البولندي في 8 آذار 1989: أننا سنبقى بخير ما دمت معنا وما دمت ترعى شؤوننا. فليس غريباً إذاً أن يعلن المسلمون البولنديون الحداد العام تكريماً له يوم الجمعة الماضي في 19 أيار ويقيموا صلاة الغائب في مناطقهم وليس غريباً أن يرثيه مفتي بلغاريا العام بأنه كان مرشداً روحياً كبيراً سيبقى المسلمون البلغار يحفظون له مآثره في قلوبهم وعقولهم. لذلك نقول أنها خسارة كبيرة لا يمكن أن تعوض وهذه هي الحقيقة. وأملنا كبير، بل أن الواجب علينا أن نعمل جميعاً لتبقى دار الفتوى في موقعها الحالي نقطة ارتكاز في بقاء لبنان والواحد، لبنان التوازن السياسي والمساواة والعدالة والديمقراطية التي دفع شهيدنا حياته ثمناً لها.