أصابع الخميني: بيروت تعيش أجواء الفتنة المذهبية مجلة الوطن العربي – موضوع الغلاف- 14 الى 20 أيلول 1984 – العدد 396. مشايخ إيران أخفقوا في "تصدير الثورة" عبر الخليج، فحاولوا تصديرها من لبنان بيروت لن تتحول إلى مستعمرة خمينية هل يرضى نبيه بري أن تصبح "أمل" ستارا لتحركات مشايخ وعملاء إيران؟ الاعتذار للمفتي خالد وتبويـس اللحى أسلوب مرفوض للتستر على المخطط الإيراني كتب وليد أبو ظهر: تهريب البضائع الفاسدة له ألف باب وباب. ولدولة الخميني أكثر من بضاعة فاسدة ترغب في تصديرها. و«الثورة الإيرانية» على تخلفها وسوء سمعتها صنف من أصناف هذه البضاعة المعروضة للتصدير. و«تصدير الثورة» يأتي في صلب المشروع السياسي للنظام الإيراني. ولكن هذه «الثورة» التي أثبتت أنها لا تجيد السباحة من ضفة إلى ضفة في الخليج، وإنها كسيحة غير قادرة على عبور حدود العراق، فلماذا لا يتم شحنها إلى بلد بعيد غير بلد المنشأ، ليعاد تجهيزها وتركيب قطع تبديلها، ومن هناك يجري تسويقها وتعميمها؟ ولماذا لا يكون لبنان، مثلاً، «منظمة جمركية حرة» يجري تجميع البضاعة الفاسدة فيها، سيما أن كل ظروفه الأمنية وتناقضاته الاجتماعية والسياسية والطائفية والمذهبية تؤهله لأن يكون سوقاً محلية استهلاكية للبضاعة ومنطلقا أيضاً لتصديرها. وهكذا جرى شحن البضاعة، وتم تسريبها عبر الحدود الفالتة، بمساعدة الحلفاء والأصدقاء الذين غضوا النظر طمعا في بركة الخميني ونشدانا للجنة والثواب عند الله. وبعد التوقف في محطات الانتظار والتعبئة داخل وخارج الحدود، جرى الزحف الخميني إلى بيروت بعد الانسحاب الإسرائيلي و«هزيمة» المارينز، و«سقوط» بيروت الغربية المسلمة في يدي حركة «أمل»، وتوزع الجيش الوطني على الوية ملونة بألوان الطوائف والمذاهب. بيروت الغربية في ظروفها البائسة هذه، أصبحت في نظر المؤسسة الحاكمة في إيران بؤرة صالحة لاستهلاك وانتشار البضاعة الفاسدة. فالطائفة الإسلامية السنية التي تشكل غالبية سكان هذا الشق الكبير من المدينة، اعتبرت في نظر مشايخ حزب الله الإيرانيين، «مهزومة» مع الدولة والجيش والكفار من «المارينز»، واستحقت عليها «الجزية» تدفعها من مالها وأمنها وكرامتها وحقوقها. وساعد على هذا التمادي في ترويج البضاعة الفاسدة وارتكاب التجاوزات الخطيرة، تستر مشايخ إيران في لبنان وراء حركة «أمل» الشيعية، وقدرتهم على التحرك في أوساطها مستغلين نمو المشاعر المذهبية على حساب المشاعر الوطنية والقومية نتيجة أخطاء العرب في لبنان وسنّي الاقتتال الطويلة التي رافقها وسبقها غياب الاهتمام اللبناني الرسمي بالطائفة الشيعية. أيضاً ما ساعد «حزب الله» الإيراني على السباحة في «بحيرة» بيروت، عجز الدولة عن فرض هيبتها، وتخبط مؤسستها العسكرية التي هي أساساً رمز القوة والوحدة الوطنية في أي بلد، في مهاوي وحبائل هذا العجز. فبعدما كانت المؤسسة العسكرية متهمة بالتحيز للطائفة المارونية، إذ بها تداوي هذا الاتهام بما هو أخطر منه، وهو فرز قواتها على أساس مذهبي وطائفي، وتوزيع الألوية على حسب طائفية ومذهبية المناطق. والأدهى والأمر أن نصيب بيروت الغربية كان اللواء السادس، وهو في غالبيته شيعي المذهب. ونتيجة لذلك فقد وجد نفسه بعد «سقوط» بيروت عاجزا حتى عن القيام بمهمة التفريق وفك الاشتباك بين الميليشيات المذهبية بحكم هذا اللون الغالب وبحكم سقوط مظلة «الشرعية» عنه. يكفي هنا ان استشهد بتقرير سري كتبه أحد ضباط اللواء إلى رؤسائه يشرح فيه حالة اللواء: «ان فقدان الضباط القادة من رتبة مقدم ورائد وعقيد في قيادة اللواء جعل الإدارة العسكرية تحت رحمة الرتباء. وجميع الرتباء يرقون منذ 1976 دون دورات دراسية، لذلك يبدو منظر العسكريين ومظهرهم أسوأ من مظهر الميليشيات. وإرادتهم في القتال معدومة كلياً. والانضباط العسكري معدوم، خاصة أن المهمة مفقودة والعدو غير محدد، وكذلك الصديق في أوامر العمليات الصادرة عن القيادة أو عن اللواء». ومشايخ حزب الله يدركون وضع اللواء السادس تماماً، ويستغلون عواطفه المذهبية في تحركهم وخططهم، وهم قانعون سلفا بأن الأداة الأمنية الرسمية الأولى في بيروت الغربية، أي هذا اللواء ذاته، عاجزة أو مستنكفة عن وضع حد لتجاوزاتهم واستفزازاتهم. والدليل أن قوات اللواء السادس مثلا وقفت متفرجة على عملاء «حزب الله» وهم يحرقون القنصلية السعودية ويرفعون صور الخميني عليها. يقول التقرير السري في هذا الصدد: «إن تصرفات العسكريين في بيروت والضاحية تنذر بأسوأ الاحتمالات ولا يمكن أن تترك على الغارب، لأنها سوف تؤدي حتما إلى انهيار اللواء السادس وانفجاره بفعل الصراع المذهبي المتأجج. لذلك لا بد من اعتماد خطة صريحة وواضحة لإعادة اللواء السادس إلى حيث كان عليه في السابق...» إن أزمة اللواء السادس هي جزء من كل. إنها جانب واحد من محنة وأزمة طائفة إسلامية كريمة في لبنان. ولأكن هنا صريحا وواضحا ولنسمّ الأشياء بمسمياتها. فقد كفانا نحن في لبنان اللف والدوران والاستعانة بلغة الرموز والمعميات التي ظللنا نستعين بها في الحديث عن الأخوة والتعايش الإسلامي الماروني أو المسيحي، إلى أن فوجئنا بأن هذا التعايش يتهاوى وينهار تحت مطرقة الاختبار، وتذوب «حلاوة التكاذب» الذي عشناه عشرات السنين. فاليوم نواجه خطر انقسام أكبر من خطر الانقسام الطائفي الإسلامي – المسيحي. انه خطر الصدام بين أكبر طائفتين إسلاميتين، وهما الطائفتان السنية والشيعية اللتان عاشتا فعلا وفاقا استمر عشرات السنين من عمر لبنان الحديث، إذا لم نقل مئات السنين منذ أهال الزمن الرماد على نار التفرقة المذهبية في المجتمعات العربية الإسلامية. لا أريد أن أسهب في التفصيل عن الحرمان الذي عاشته الطائفة الشيعية داخل تركيبة لبنان الحديث، فقد سبقني إلى هذا الكثيرون، وهو أمر واقع ومعروف. ولا أريد أن أقول أن هذه المرارة كانت سبباً من أسباب تسعير الحرب اللبنانية التي ما زلنا ننكي بنارها منذ عشر سنين. إنما أريد أن أتحدث مباشرة عما نحن فيه اليوم من خطر، وفي بيروت الغربية بالذات. وهنا لا بد أيضاً من الحديث بصراحة وجرأة عن «أمل». والحديث موجه إلى مسؤولها الأول نبيه بري من منطلق المحبة والغيرة الصادقتين لا الكاذبتين، ومن منطلق رؤيتي لما يدبر لأمل وللطائفتين السنية والشيعية من خلال تفجير الصراع بينهما. وآبدا من ظروف «سقوط» أو «إسقاط» بيروت الغربية في يدي الحركة وحلفائها دون أن أشير إلى ملابسات هذا السقوط فهذا له حديث آخر، إنما أقول ان أهل بيروت السنّة استقبلوا ما حدث بلا مبالاة في بادئ الأمر، سيما أنهم كإخوتهم الشيعة كانوا مستائين من التجاوزات التي ارتكبت باسم «الشرعية» أو تحت ستارها بعد الانسحاب الإسرائيلي من المنطقة. ولكن ما حدث بعد ذلك كان شيئا يدعو إلى الاستغراب والدهشة، ثم راح يدعو إلى التساؤل، ووصل الحال الآن إلى حد الاستياء المنذر بأن الانفجار قادم لا محالة بين أخوة وأشقاء الأمس. لقد تحوّل الانتصار في الضاحية الجنوبية إلى سلوك عجيب في بيروت الغربية. فبدلا من التأكيد على الروابط التي لا تنفصم بين السنة والشيعة، راحت المظاهر المسلحة تأخذ شكل عرض عضلات وسط الشوارع بل في عمق "الزواريب" وبشكل استفزازي واضح. بل ارتكبت تجاوزات، وصلت إلى حد ارتكاب جرائم وفرض خوات، واهانة كرامة المدنيين، والاستيلاء على ممتلكاتهم ودخول بيوتهم الآمنة. وعندما ترتفع الشكوى وتتصاعد، تصدر البيانات والتصريحات الاعتذارية، ويذهب الرسل إلى زعماء الطائفة السنية، وفي مقدمتهم المفتي الشيخ حسن خالد، للاعتذار. وتحول الاعتذار مع التكرار إلى مهزلة وراء التحجج بالعناصر غير المنضبطة والفالتة، ووراء إلقاء التهم على إسرائيل وعملائها. وكأن هذه اللهجة التي سمعناها وألفناها من قبل باتت تنطلي علينا، وكأن تبويس اللحى يستطيع في النهاية أن يمحو أثر الاهانات في النفوس والقلوب، أو يبرئ الجروح ويكفكف الدموع. أنا لا أبرئ إسرائيل وعملاءها، ولكن أقول ان استمرار استفزاز مشاعر السنة في مدينتهم ومناطقهم، وتعمد إرهابهم، هما اللذان يسمحان لإسرائيل وعملائها بحرية الحركة وتوسيع الثغرة بين الطائفتين. ولأضرب مثلاً واحداً، لا مئات الأمثلة. لقد تحوّلت ذكرى اختفاء السيد موسى الصدر في 31 آب/أغسطس الماضي إلى عملية إرهاب مسلحة وجماعية ضد سكان بيروت. فقد أقيمت الحواجز وانطلقت الشعارات والهتافات، وراح المسلحون يتعرضون للمدنيين. وكأن سكان المدينة هم الذين خطفوا الشيخ الجليل، أو هم الذين سكتوا عن خطفه وتحالفوا مع المتهم بخطفه وتصفيته كما يفعل سادة إيران هذه الأيام. أقول للسيد بري، وهو الرجل الذي يفهم ويعتبر: لماذا هذا كله؟ لماذا ترتفع البنادق والرشاشات وينهمر الرصاص في الهواء احتفالاً بوصول دبلوماسي أجنبي إلى عاصمة لبنان؟ لماذا هذه التظاهرة المسلحة التي رافقت وصول محمود نوراني القائم بالأعمال الإيراني الجديد؟ هل هو دبلوماسي عادي؟ أم قائد فرقة؟ أم ممثل دولة محتلة للبنان؟ أم آية من آيات الله العظمى له معجزات وكرامات؟ هل كان يحدث هذا من قبل مثلا لدبلوماسي أجنبي، أو حتى لدبلوماسي عربي؟ هل خرج مسلمو بيروت في تظاهرة مسلحة أو غير مسلحة حتى في ذروة الحماسة الناصرية لاستقبال السفير المصري عبد الحميد غالب أو للقائم بأعماله؟ ولو فرضنا جدلاً أن ذلك حدث، فربما كان يمكن اعتباره تعبيرا عن عاطفة ومشاعر لبنان العربية. أما السيد نوراني فهو دبلوماسي صغير الرتبة، ثم أنه يمثل دولة أجنبية لا عربية، والاحتفال به على هذه الطريقة لا يتناسب مع سيادة لبنان، بل لا ينسجم مع كرامة وخصوصية الطائفة الشيعية، كطائفة لبنانية وعربية في النهاية. وأقول للسيد بري: كيف يرضى بأن يستقبل نوراني بهذه الهالة من النور و«القواص»، ويجري حرق وتدمير قنصلية عربية، بل وإرهاب قنصليات وسفارات عربية. هل لأن هذه السفارات أبت عليها غيرتها العربية وإشفاقها على سمعة لبنان الرسمي، لتستغني عن الحراسة الرسمية، بحراسة الميليشيات كما تفعل السفارة الأميركية مثلا، التي تدفع الثمن نقداً وعداً دولارات لحراسها غير الرسميين؟ آمل ألا يذهب السيد نوراني إلى قصر بسترس أو إلى السيد بري ليحتج على سلوكي اللادبلوماسي تجاه الزفة التي وصل بها سعادته إلى لبنان. وأعود إلى نبيه بري لأقول، وبصراحة لا دبلوماسية فيها، ان احتجاج المسلمين في لبنان كان ينصب قبل الحرب وخلالها على اتهام بعض التنظيمات المسيحية بالإغراق في عصبيتها الطائفية. نعم لقد عمَّقت الحرب الجرح الوطني بحيث تسللت إليه «الغرغرينا» المذهبية، وارتدّت كل طائفة أو مذهب إلى حصنها الطائفي وقوقعتها المذهبية. ولكن ألا تقدم «أمل» في مظهرها الحالي وتصرفاتها صورة مغرقة وقاتمة الألوان للتعصب المذهبي؟ لا أحسب أن الشيخ موسى الصدر أو الزعماء الروحيين والسياسيين للطائفة في وقت من الأوقات قد أرادوا لها ذلك؟ بل لا أظن أن السيد نبيه بري يطلب لها ذلك اليوم ولا أحسب أنه يريد أن تتحول إلى مجرد ستار عريض أو عباءة فضفاضة لتحركات الخميني وأتباعه وأعوانه و«قطع التبديل» التي يستعين بها على الساحة اللبنانية. لأعود إلى التقرير السري الذي رفعه أحد ضباط اللواء السادس إلى قيادته. ولعل السيد بري لديه نسخة منه. ويقرأه كما أقرأه أنا. يقول التقرير في حديثه عن «أمل»: «لم تستطع حركة أمل استيعاب الطائفة الشيعية لأسباب تتعلق بخصوصية رجل الدين فيها... والمستوى التنظيمي والأعضاء القياديون في حركة أمل غير مؤهلين وغير قادرين بوضعهم الحالي على استيعاب الطائفة الشيعية أو السير بالطائفة الشيعية، بالمستوى العملي والاستراتيجي للطائفة المارونية والدرزية. وفي هذا المجال ما زالت قيادة حركة أمل قيادة باطنية غير معلنة وغير ثابتة الولاء. والقادة وجدوا أنفسهم أمام مهام غير معدين لها، أو أن ارتباطاتهم السابقة تمنعهم عن التحدي أو ممارسة التحدي في القيام بالأدوار القيادية الوطنية والصريحة». وأمضي مع نبيه بري في قراءة التقرير. فبعد أن يتحدث عن عداء الطائفة الشيعية لإسرائيل وهو أمر بالطبع لا أحد يمكن أن ينكره، يضيف: «كما تحرم الطائفة الشيعية على نفسها التعامل مع إسرائيل وتتصدى منفردة لها، وفيما يشكل ارتباطها الروحي بإيران أو ارتباطها أو ارتباط فئات منها بالثورة الإيرانية مشكلة في الظروف الحالية، تجد الطائفة الشيعية عائقا أساسيا في التعامل مع المسلمين العرب، القادرين على الدعم والتمويل. وقد وضعتها قضية اختفاء الإمام الصدر في استحالة التعامل مع ليبيا، وبذلك تتعرض إلى إرباكات أساسية بفعل التناقض في الانتماء والولاء، وتلتزم أمل بهذا الانتماء، وتتعرض بالتالي لأقسى المشاكل مع رجال الدين الموالين لإيران، وتخسر من قاعدتها بنتيجة معارضة حزب الله في الضاحية». وأقطع على السيد بري قراءة التقرير لأقول له أن من المرجح أن يكون واضعه أحد ضباط اللواء السادس الشيعة الذي يشعر ويحس بأزمة الطائفة ومحنة «أملها» في لبنان، ثم أمضي معه في قراءة التقرير: «... لم تستطع حركة أمل التحول إلى حركة إسلامية عربية لأنها لم تستوعب في قيادتها عناصر سنية، كما لم تستطع التحول إلى حركة إسلامية عربية لتصبح مقبولة من العالم الإسلامي العربي...» وبعد، ماذا أقول للأخ بري؟ أن النتائج التي توصل إليها التقرير السري سبقه إليها الكثيرون ممن يرون ويعتبرون في بيروت وغير بيروت من أبناء الطائفتين الشيعية والسنية. ولكن لماذا لا يجري وضع حد لمحنة الانتماء؟ ان التصريحات التي تندد بالتجاوزات وتعتبرها حوادث فردية تحفل بها الحياة اليومية في لبنان، لا تحل المشكلة الأعمق... مشكلة الانتماء. الذي حدث أنه في لحظة من اللحظات، بهرت ثورة الخميني عيون أبناء الطائفة وهم في حالة إحباط تامة مما جرى في لبنان. ثم جاء «سقوط» بيروت أو «إسقاطها» في يدي «أمل» ليجعل من هذا الانبهار وهما خادعا للنفوس، وارتقى هذا الوهم إلى مستوى الظن بإمكانية فرض هيمنة أو سيطرة مسلحة على منطقة أو مناطق إسلامية أخرى بالتحالف مع قوى لبنانية وغير لبنانية – إيرانية مثلاً – بانتظار لحظة الاقتسام أو التقسيم في لبنان، وبحيث تكون للطائفة حصة المسلمين الأكبر. لا شك أن هناك أيضاً من يدغدغ ويحفز هذه الأوهام والظنون والإحساسات. ولعل أول من يفعل ذلك النظام الإيراني ومشايخه ودبلوماسيوه وعملاؤه ومخربوه المبعوثون إلى لبنان، وكذلك كل الأطراف الأخرى التي لا تريد لبنان وطناً واحداً لا طائفياً أو مذهبياً. لماذا يريد نظام الخميني ذلك؟ الجواب واضح وصريح. وهو الرغبة في السيطرة على مقدرات لبنان أو معظمه، وجعله القاعدة أو المرتكز للمد الإيراني، وإذا شئت، المد الإيراني الشيعي المذهب، الذي يريدونه أن يخترق الكثافة الإسلامية السنية الممتدة من الخليج إلى لبنان. ثم لماذا هذا التأكيد على شيعة لبنان، وتركيز حزب الله على تذكيرهم بمذهبيتهم ومحاولة ربطهم بعجلة المخطط الإيراني؟ السبب، وبصراحة أيضاً، لن نظام الخميني أخفق وإلى حد كبير في إيقاظ الترسبات والعنعنات المذهبية لدى شيعة الخليج، وتحويلها إلى قوة فاعلة وراء خطوط الدفاع العربية، لتكون بمثابة طابور خامس مذهبي. لنأخذ العراق مثلا، بعد ست سنين من قيام نظام الخميني، وبعد خمس سنين من الحرب مع العراق، نجد أن الجنوب العراقي غلّب ولاءه الوطني العربي على ولائه المذهبي، لا لنقص في صدق المشاعر الدينية لدى هؤلاء العراقيين، ولكن لأن قضية الانتماء قد حسمت نهائياً في ظل وجود نظام عربي راسخ ومتين، ومنطقي مع نفسه ومع مواطنيه، ومتجاوب مع حاجات الحياة اليومية لهؤلاء المواطنين على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية والمذهبية. ما الوطن؟ أليس البيت والعمل والحرية، بما فيها حرية العبادة؟ أليس الوطن هو الكرامة؟ نعم. هذا هو الشعور بالانتماء. لقد قدم النظام كل ذلك لمواطنيه واستحق منهم أن ينال ولاءهم والتفافهم حوله. اضرب ذلك مثلاً لا مبالغة فيه ولا دعاية ودليلي هو هذه الحرب. لقد كانت فرصة كبيرة للتردد والانحياز والانقضاض. فما الذي حدث؟ لقد اختار العراقيون جميعا الولاء للوطن وحسموا مشكلة الانتماء تماماً، سيما وهم يرون ماذا حل في البيت الإيراني على يدي نظام الخميني. سقوط بيروت الغربية مهزلة مكشوفة والسلاح والإرهاب ليسا وقفاً على طائفة دون أخرى وأقول للأخوة الشيعة في لبنان: ألا يستدعي موقف النظام في طهران الرثاء وهو يحاول استخدامهم كمخلب قط في إثارة الفتنة الكبرى في بلدهم الصغير ووطنهم الكبير، بينما هو يقصف أخوتهم في البصرة مثلاً، بحمم المدافع؟ قد يكون من الصعب مخاطبة العاديين بلغة المنطق وهم في ذروة الحماسة والاستشارة. لذلك كان توجهي لزعماء الطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان، وبينهم السيد بري، وغيره من ساسة وزعماء مسلحين وروحيين. لا شك أن معظمهم يدرك مخاطر الصدام بين السنة والشيعة في بيروت. وأقول أيضاً بلا مبالغة أن هذا الصدام سيكون أشرس من الاشتباك بين الشياح وعين الرمانة أو بين الشرقية والغربية طوال سنين الحرب والذي اتخذ طابع المبارزة المدفعية والصواريخ والرشاشات من وراء المتاريس. وسيكون أشرس من الحرب المذهبية التي نكتوي بنارها في طرابلس، ذلك أن الصدام في بيروت الغربية سيأخذ طابع الاقتتال من بيت إلى بيت ومن حي إلى حي بحكم التعايش السلمي والإسلامي المنقطع النظير الذي كان قائماً حتى الآن. إن السلاح ليس حقاً إلهيا مقدساً من حقوق فئة أو طائفة أو مذهب في بلد يعيش تحت حكم شرعة الغاب. ووجوده في يد دون يد لا يخوّل صاحبه أن يفرض نفسه ومنطقه وظله ومصالحه على أخوة له في المواطنية والدين. لا يجوز مثلا لرجل دين في وزن ورتبة الشيخ عبد الأمير قبلان المفتي الجعفري الممتاز أن يفتي بأن «بيروت لقاطنيها». القوة لا تجتز احتلال البيوت واقتحامها بقوة السلاح. هذا مبدأ إسلامي لا نقاش فيه. ثم أن فتواه تجيز للإسرائيليين عندئذ الادعاء، بأن «الجنوب لمحتليه» الذين فرضوا احتلاله على اللبنانيين من أبناء مذهب الشيخ قبلان بقوة السلاح. إن الإرهاب لغة الدهماء والضعفاء. وأحياء بيروت الغربية وأزقتها وشوارعها ليست خطاً واحداً سالكاً فقط للإرهابيين من حملة السلاح. إنه قابل لأن يصبح سالكاً على أكثر من خط. وهو أيضاً مشروع للذين يعانون ويكابدون من الإرهاب والتجاوزات المسلحة في بيروت الغربية. وأقول، وبصراحة، إن بيروت الغربية لا تقبل بأن تكون مستعمرة إيرانية، أو محمية خمينية، يرتع فيها عملاء النظام من إيرانيين وغير إيرانيين، ليتكلموا باسمها، ويفرضوا عليها ما لا تريد، ويرفضوا باسمها ما تريد. ستظل لغة بيروت عربية بلهجاتها اللبنانية المسموعة أمام الجميع، ولن تشوبها لكنة أعجمية أو فارسية. ودليلي على ما أقول أن طرابلس التي تقف صامدة منذ سنين في وجه الحصار، فيها من السلاح والمقاتلين ما يكفي للصمود سنين. والذين يظنون أن السلاح حكر على فئة أو طائفة لا يعرفون أن بلدا ينهار فيه النظام وتقوم فيه حروب أهلية، فيه ألف باب وباب لتسريب السلاح، ومن هو على استعداد لتقديمه وتزويد الناقمين به. ودليلي أيضاً أن لعبة الحرب اللبنانية الطويلة، كما شهدنا وخبرنا، قضت بترجيح كفة هذا الطرف على ذاك بتسليحه وتعبئته وتنظيمه، ثم العودة إلى ترجيح الطرف الآخر بتسليحه وتنظيمه وتعبئته ووضعه في مواجهة الطرف الذي كان يظن أنه الأقوى وأن الغلبة ستظل له دائماً وأبداً. هل تريد الطائفة الإسلامية الشيعية، زعماء سياسيين وروحيين وشبابا مسلحين وغير مسلحين هذا المصير؟ لا. ولكن هناك من يريد. وهناك من يصر على المضيّ في عملية التفجير إلى نهايتها، وأقول أن الطرف صاحب المصلحة الآنية في تفجير التناقضات والنزاع المسلح بين السنة والشيعة في لبنان هو نظام الخميني، لخدمة مخططه الأكبر والأوسع والهادف لتفجير التناقضات العربية الموازية للتناقضات اللبنانية، من طائفية وعرقية ومذهبية، في المشرق العربي كله. ألا يلتقي ذلك مع المخططات الأخرى التي تريد تفجير كل ما بقي في لبنان عبر تفجير التناقضات بين أبنائه ومناطقه؟ بل لماذا لا أقول ان مخطط النظام الإيراني في بيروت الغربية لا يلتقي مع المخطط الإسرائيلي في صيدا؟ ولا يتفق وينسجم مع المخطط الإسرائيلي في منطقة الخروب حيث يتعرض أبناؤه السنة لعملية ترويع لإجبارهم على الهجرة والهروب؟ ثم ألا يلتقي كل ذلك مع ما يجري في الجنوب المحتل؟ لقد أحكمت قوة الاحتلال الإسرائيلية إغلاق منافذه، وأطلقت القوى الطائفية والمذهبية التي سلحتها ووضعتها في مواجهة بعضها بعضا في عملية «فرِّق تسد» واضحة. والهدف تطويع وإخضاع غالبية سكان المنطقة، وهم من الشيعة، لمشيئة الاحتلال. السؤال الآن هو كيف لا يعي زعماء الطائفة ما يراد لهم عبر تقاطع وتداخل هذه المخططات؟ كيف لا يدركون أن الطائفة الشيعية لا يمكن أن تحارب على أكثر من جبهة، لا يمكن أن تكون منتصرة على شقيقتها الطائفة السنية في بيروت، وهي محتلة ومقهورة تحت النير الإسرائيلي في الجنوب؟ هل من مصلحة «أمل» والطائفة الشيعية، جرها ودفعها إلى صدام مسلح مع الطائفة السنية في بيروت وأبناء الطائفتين يعانون ويكتوون بذلك وقهر الاحتلال في الجنوب بدءا من صيدا إلى آخر قرية على الحدود؟ بالقطع لا. إنما هناك من لا يعي ذلك، ولا يهمه في النهاية مصير مئات الألوف من الشيعة في الجنوب وفي بيروت، إنما يهمه تسخير هذه الكتلة البشرية الكبيرة بكل ما تحمله في ساحة لاوعيها من مشاعر المرارة التاريخية والسلفية، وبكل ما كابدته من مرارة الحرمان الاجتماعي والسياسي في تاريخها الحديث... تسخير كل ذلك في خدمة مخطط التفجير الكبير بدءا من لبنان إلى الخليج وبالعكس. هل أحتاج إلى شواهد وأدلة أخرى؟ ربما، ذلك أن الغوغائية السياسية التي تسيطر على الساحة اللبنانية، والتي تحولت في النهاية إلى هذه الهستيريا أو الهلوسة المذهبية، تعمي البصائر وتجعل صوت المنطق والعقل خافتا أو غير مسموع أمام الحناجر المبحوحة بالصراخ، ووسط الصدى المدوي بالرصاص، رصاص الفرحة بانتصار مؤقت، وزائف، واحتلال لحي أو لزاروب أو شطر لضاحية أو مدينة. يكفي أن أقول أن مجرد إعلان من جانب نبيه بري، قد لا يقدم أو لا يؤخر، مجرد الإعلان عن رفع مظلته السياسية عن أي مسلح في الضفة الغربية، كان كافياً لتحديه والرد عليه بعملية مروعة في صبيحة يوم مقدس مبارك استهدفت الرجل الذي سعى إليه لتهدئة الخواطر، وأعني به الرئيس الوزير سليم الحص، بل استهدفت رمزا إسلامياً أكبر، وهو مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد نفسه، الذي يعتبر الزعيم الروحي والمرجع الأكبر للطائفة السنية في لبنان. وقد لا تكون حياة الشيخ حسن خالد وسليم الحص تهم الذين كدسوا كل هذه الكمية من المتفجرات. ولكن في المقابل، هل من تحد لسلطة نبيه بري وزعامته لـ«أمل» ولندائه الأخير أكبر وأشد صلافة من هذا التحدي؟ قد يرد قائل؟ ولماذا توحي بأن العملية من تدبير «حزب الله» وعملاء إيران؟ وليست من تدبير إسرائيل وعملاء إسرائيل؟ والجواب، ألا يكفي مجرد الاشتباه المدعوم بالقرائن وتسلسل الأحداث لتوجيه أصبع الاتهام لإيران وعملائها بنفس القوة التي يوجه فيها أصبع الاتهام لإسرائيل وعملائها؟ وأليس من دواعي الرثاء والإشفاق لقضية أولئك المتعاطفين مع نظام الخميني في لبنان، وبالذات داخل الطائفة الشيعية، ليصبح الاتهام لإسرائيل بالتدمير والتخريب في لبنان، موازيا للاتهام ذاته لإيران؟ لا أريد أن أخاطب مشايخ حزب الله من إيرانيين. فهؤلاء لديهم مهمة موكلون بتنفيذها في لبنان. فلا جدوى من مخاطبة ضمائرهم ووجدانهم، كذلك لا أريد أن أخاطب مباشرة أشخاصاً على شاكلة الشيخ حسن فضل الله، أو من الذين اشتروا والمحسوبين على السنّة من أمثال ماهر حمود وصلاح قرقدان في صيدا... فهؤلاء جميعا مجرد «قطع تبديل» إيرانية داخل الطائفة الشيعية وخارجها، مهمتها مساعدة الإيرانيين على تأريث الأحقاد وإشعال الفتنة. إنما أترك هؤلاء إلى حكم وطنهم وشعبهم وأمتهم يوم عودة الوعي، ويوم يأتي الحساب. أعود فأقول أن الذين يظنون أن الطائفة السنية التي تكابد نار الحصار في طرابلس، ومهانة الإذلال في بيروت، وقهر الاحتلال في صيدا... ليست وحدها، ولا يمكن استفرادها والنيل من مكانتها واغتصاب دورها، ذلك أن تاريخ هذه الطائفة هو عملياً وواقعياً تاريخ العرب في لبنان، وتاريخ لبنان مع العرب، وهو تاريخ يبعث على الفخار، ذلك أنه كان حافظا لوجود لبنان العربي المتميز بخصوصيته، كذلك كان تاريخ هذه الطائفة سجلا باهرا للانفتاح على الطوائف المسيحية والحوار معها، كما كان صفحة مشرقة للتعايش المزدهر مع الطائفة الإسلامية الشيعية، خالية من كل الشوائب. وإذا كان هناك من يمد يده إلى إيران للتعاون معها وللتآمر على لبنان والعرب من خلال ضرب الطائفة السنية ومكانتها فيه، فمن البديهي أن يكون لهذا المخطط رد فعل سيتمثل قطعا بمجابهة عربية، وأيضاً من الخليج إلى لبنان، للمخطط الإيراني لإشعال الفتنة الكبرى بين المذاهب الإسلامية في الوطن العربي. اللهم أشهد. فقد بلّغت وحذرت. وليكن ذلك بصراحة وجرأة «الوطن العربي» على قول الحق، لا تخشى في ذلك لومة لائم، ولا تراعى فيه الحساسيات الكاذبة، ولا تحاول أن تدور وتلف لتغطية ما قد انكشف وانفضح وبان. إن الذين يستغلون عاطفية المأساة التاريخية في النفس الشيعية التي بُنيت عبر قرون على تنمية مشاعر الحزن والتفجع والمرارة، يلعبون بها وبحاضرها ومستقبلها. ولكن مهما بلغت أيضاً مرارة التمزق والانكسار العربيين، فلن يسمح العرب بتمرير مخطط الفتنة الكبرى عبر لبنان، وعبر بوابات بيروت. كما لم ولن يسمحوا بمروره عبر حدود العراق ومياه الخليج. والغد لناظره قريب.
|