لبنان أمام القمة هؤلاء قتلوا حسن خالد.. وهذه هي الأسباب يأخذ هذا العدد من "الوطن العربي" طريقه إلى الطبع قبل يوم واحد من اجتماعات القمة العربية. ولا أحد يستطيع أن يتكهن بما ستسفر عنه هذه الاجتماعات من قرارات محددة بشأن لبنان، ولكن البعض شاء أن يمهد للقمة بحادث بشع أشبه ما يكون بالرسالة الدموية إلى الأقطاب العرب، وهو حادث اغتيال مفتي الديار اللبنانية الراحل فضيلة الشيخ حسن خالد. تقول هذه الرسالة أن أصحابها سيعرقلون الحل العربي الوحيد الممكن لأزمة لبنان، وأنهم على استعداد لتجاوز أية خطوط حمراء. هذه باختصار هي الرسالة التي راح ضحيتها الشيخ حسن خالد بكل ما يمثل من معان ورموز لا تخفى على أحد. وقد كانت هناك مقدمات ومؤشرات تدفع فضيلة المفتي، بكل ما عرف به من عقلانية واعتدال وإحساس عالي بالمسؤولية، إلى مرمى النيران. ان الرجل لم يكن مجرد شخصية دينية رفيعة المستوى، وإنما هو موقف تبلور في آتون الحرب. وقد كان من الصعب دائماً المساس بهذا "الموقف" بسبب المكانة العظيمة التي احتلها في نفوس المسلمين والعرب واللبنانيين جميعاً. ولكن تطور الأحداث بشكل خطير في الآونة الأخيرة دفع حسن خالد لأن يوظف موقفه اللبناني العربي المسلم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وهكذا أتيح له ان يشكو دمشق للجزائر. ولم يقصِّر في تحديد شكواه وإيضاحها بالتفصيل والوقائع. وانتهى في حواره مع الأشقاء الجزائريين إلى أن الأخوة السوريين هم السبب في التقسيم الفعلي للبلاد، وأنه.. "لا حل" من دون رحيلهم عن لبنان. وبالطبع، فقد استطاع السوريون ان يلتقطوا شكوى حسن خالد. * وفي زيارته للخليج اشتكى المفتي أيضاً همه، وكعادته كان صريحاً غاية الصراحة، فأشار بدقة ووضوح إلى ممارسات النظام السوري في لبنان. وهي ممارسات سلبية إلى أقصى الحدود، لم يعد في الإمكان احتمالها. وأيضاً كان من الممكن للآذان السورية أن تلتقط أنين المفتي وان تتنصت على وجيعته. * طلب منه السوريون العديد من المرات ان يزور دمشق، ولكنهم فوجئوا به يعتذر. وكان اعتذاره احتجاجاً عملياً على التمادي السوري في ذبح لبنان. كان الرجل يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ويلمس بكلتا يديه، ولم يكن ليستطيع ان يكون شاهد زور. وجاء الاعتذار عن عدم تلبية الزيارة لدمشق إعلاناً مهذباً عن "الغضب". * قامت المخابرات السورية بحركة "صغيرة" لا تجوز ولا تليق، حين أمسكت بابن المفتي وضربته. * ولكن الشيخ حسن خالد الذي لا يهتز من هذه الصغائر اتسم بالشجاعة حتى النفس الأخير، إذ انه كان يدري بالفيتو السوري على بعض الأنظمة العربية، ومع ذلك فقد أقام حواراً جدياً وخصباً مع هذه الأنظمة التي يرى السوريون في الاتصال بها جريمة لا تغتفر. تلك كانت المؤشرات والمقدمات التي انتهت باغتيال الشيخ حسن خالد، ومهدت في الوقت نفسه للقمة العربية برسالة مضادة للحل العربي. لقد كان المخطط الطائفي وما يزال هو تفريغ لبنان من الزعامات السنية، سواء بإرغام بعض الزعماء على المغادرة، أو اغتيال البعض الآخر.. ولكن لبنان العربي ليس طائفياً، لذلك فهو يرى في القمة العربية ملاذاً من الهاوية التي يدفعه إليها الطائفيون. إن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن لسورية دوراً منذ استقلالها في المنطقة. هذا الدور من أيام خالد العظم إلى شكري القوتلي إلى اليوم يصغر ويكبر حسب الظروف الإقليمية والدولية. من يستطيع نسيان دور سورية في الخمسينات. والموقف من الأحلاف والدخول في وحدة عربية مع مصر؟ بهذا الدور كانت سورية تكبر ومعها العرب دون الحاجة إلى أية غزوات للبنان أو غير لبنان. ولكن الدور السوري في الحرب اللبنانية لم يرتبط مطلقاً بالمصلحة العربية العليا، فكانت هذه الدماء والخراب والدمار للبشر والحجر من أقسى العقوبات التي أنزلها الدوري السوري بلبنان والعرب معاً. خسائر، خسائر، خسائر على طول الخط وعلى مختلف الجبهات، بدءاً من الجبهة مع إسرائيل وانتهاء بالجبهة الاقتصادية مع الليرة مروراً باستنزاف وطن الحريات والثقافة والتعايش. لذلك تقول انه ليس من دور مطلق لسورية في لبنان أو في المنطقة. وإنما هو دور يكبر ويصغر حسب فعاليته في "اللعبة" الإقليمية والدولية من جهة، ومدى ارتباطه بالمصلحة العربية القومية من جهة أخرى. ونحن نعلم ان هناك اتفاقاً أميركياً ـ سوفياتياً الآن يربط الأزمة اللبنانية بالقضية الفلسطينية. ومن الطبيعي أن "يلعب" النظام السوري في ظل هذا الاتفاق، أي في الحيز الزمني الذي يستغرق حل المشكلة الفلسطينية. واللعبة السورية تتقدم إلينا بسؤالين: ماذا يكون الأمر لو انسحبت القوات السورية اليوم واستؤنفت الحرب الأهلية غداً؟ ثم... لماذا لا تنسحب إسرائيل أولاً؟ ولا شك أن القمة العربية ستواجه هذين السؤالين في صيغ متعددة. ان قاموس المناورات السورية قادر على ولادة هذه الصيغ المبهمة الغامضة المائعة التي تقود إلى المتاهات. لذلك، فإننا، ونحن ندرك أبعاد الاتفاق الأميركي ـ السوفياتي واتساع الهامش الذي يستغله السوريون لاستمرار اللعبة في لبنان، نقول ان الرد العربي على "مرحلة انتظار الحل للمشكلة الفلسطينية" هو: * التعريب الحقيقي للأزمة اللبنانية يبدأ بانسحاب شامل للقوات السورية. انسحاب شامل من الأراضي، وانسحاب شامل للرجال والعتاد. وبدلاً من القول "إسرائيل أولاً"، فان الانسحاب السوري يتم كقرار عربي. ويبقى واجب العرب مجتمعين ان يفرضوا على إسرائيل بكل الوسائل الممكنة انسحابها من الأراضي اللبنانية وتنفيذ قرار مجلس الأمن 425. ليس الانسحاب الإسرائيلي واجباً سورياً فقط، وإنما واجب عربي أولاً وأخيراً. * استعادة الشرعية اللبنانية إلى كل مرافئ الدولة وعلى كل أرض لبنان، بإنهاء جميع الميليشيات المسلحة بمختلف اتجاهاتها وأصولها ومصالحها وعلاقاتها. وإعادة تأهيل العناصر البشرية في هذه المليشيات في إطار الجيش اللبناني الشرعي الواحد، وتسليم جميع الأسلحة لقيادة هذا الجيش. * تحل فوراً محل الجيش السوري والمليشيات قوات عربية ـ لا مراقبين ـ تنتمي إلى دول لا مصلحة لها في لبنان. * ينعقد مؤتمر وطني لبناني برعاية جامعة الدول العربية، على مرحلتين متقاربتين: الأولى شديدة الاستعجال لانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة إجماع وطني جديدة واستعادة العافية لمرافق الدولة الأساسية وتشغيل دولاب العمل الحكومي الشرعي. أما المرحلة الثانية من المؤتمر ذاته وبمساعدة الجامعة العربية أيضاً، فإنها تختص بالنظر في الخطوط العامة للإصلاح السياسي الذي يعود بعدئذ إلى اللبنانيين وحدهم انجازه دستورياً وقانونياً وإجرائياً. * تنبثق عن الجامعة العربية لجنة جديدة تساعد لبنان، بعد الإيقاف العملي للنزف، على استعادة عافيته الاقتصادية، ولو في شكل منح عاجلة تتسلمها الدولة الشرعية إن هذه الخطوات ليست أكثر من حل مرحلي للأزمة اللبنانية، فهي أزمة متشعبة وبالغة التعقيد. ثم أن المداخلة الدولية المتمثلة في الاتفاق الأميركي ـ السوفياتي، لها وزنها الفاعل في جميع الأحوال. ولذلك كان المطلوب على الفور ـ وفاء لدماء حسن خالد وعشرات الألوف من اللبنانيين ـ هو التعريب الحقيقي للأزمة حتى يتوقف النزف. وليس من تعريب دون الانسحاب السوري الناجز، والحضور السريع المكثف لقوات الأمن العربية. كان السوريون يقولون دائماً أن أمن سوريا من أمن لبنان. ونحن نقول أن أمن لبنان هو أمن قومي عربي وليس أمناً سوريا فقط. ولو ـ لا قدّر الله ـ وقع التقسيم في لبنان اليوم، فانه واقع لا محالة غداً في سورية، وبعد غد في العراق وبعده في مصر. لن ينجو أحد من التقسيم لو أنه ـ لا قدر الله ـ وقع في لبنان. وهذه هي رسالة حسن خالد الذي أراد آخرون ان يقولوا بدمه: لا حل عربياً في لبنان. نقول نحن أن العكس هو الصحيح، فلا حل سوى الحل العربي في لبنان، لأن ما يهدد هذا الوطن الصغير يهدد أيضاً وفي نفس الوقت الوطن الكبير. إننا نعرف أعداء لبنان من هذا المنطلق بالضبط، فليس هناك من يريد تفتيته إلى شظايا سوى دعاة تصدير الثورة من ناحية ودعاة الحدود الآمنة أو حزام الأمن البشري من ناحية أخرى. والمقصود هو حزام الأمن من الدويلات الطائفية والمذهبية. ولم يكن لبنان أكثر من تجربة، لو نجحت ـ لا قدر الله مرة ثالثة ـ لما كان هناك مانع من انتشارها في كل الوطن العربي.. فالذين يريدون تمزيق لبنان هم أنفسهم لا غيرهم الذين يريدون شرذمة الأمة العربية. ومن هنا كان إنقاذ لبنان إنقاذاً لجميع العرب. |