اغتيال المفتي تجاوز "الخط الأحمر" لأول مرة في الحرب اللبنانية فصل جديد في مخطط التفتيت: تغييب الرموز الروحية اجمع المراقبون السياسيون اللبنانيون والعرب والدوليون. على اعتبار اغتيال مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد، جريمة تتجاوز "الخط الأحمر" لمستوى الاغتيالات التي شهدها لبنان منذ اندلاع الحرب قبل أربعة عشر عاماً، لأنها الأولى التي تتناول زعيماً روحياً لطائفة كبرى، مع أنها ليست الأولى في مسلسل اغتيال رجال الدين المسلمين والمسيحيين على السواء، وأبرزهم الشيخ صبحي الصالح والمونسينور خريش والشيخ حليم تقي الدين. كما أنها الثانية التي تستهدف تغييب كبار القيادات في الطائفة السنية، بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رشيد كرامي. وترقى جريمة اغتيال المفتي خالد الى منزلة اغتيال وحدة لبنان وإرادة العيش المشترك وصيغة الاعتدال والحوار، وهو الذي عاش رمزاً حياً للوحدة الوطنية يجسدها في أصدق معانيها، ورفع راية الاعتدال موصداً الأبواب في وجه رياح التطرّف، حتى أن ظلّه كان يزعج كثيرين من رجال السياسة لإصراره على حراسة مستلزمات التعايش الإسلامي المسيحي، في إطار التمثيل المعبّر للإرادة الإسلامية الحقيقية، طوال سنوات الحرب. ومن العناصر التي تميز شخصية الشيخ حسن خالد، انه لم يكن مجرد زعيم روحي تقليدي لطائفة ينتمي اليها رئيس مجلس الوزراء في لبنان، إذ سجّل انجازات ريادية عديدة لم تألفها دار الفتوى قبله. فهو اول مفتي لبناني يزور فرنسا المرجع التاريخي للمارونية السياسية، وذلك في حزيران/يونيو 1986، والأول الذي يزور بكركي مقر البطريرك الماروني، حين هنأ على رأس وفد إسلامي البطريرك صفير إثر انتخابه، والأول الذي يستقبل الكاردينال اوكونر رئيس أساقفة نيويورك الكاثوليكي في لقاء طويل، وكان يدرس القيام بزيارة إلى الفاتيكان، "لضمان ما يوفر للبنان أمنه واستقراره وعيش بنيه في ظلال من التفاهم والسلام والأمن". والى جانب التزامه بالانفتاح الديني، حرص المفتي خالد على الالتزام بنهج الانفتاح السياسي النابذ للتطرف والعنف المتحرك بكثير من الحكمة والروح الوطنية المسؤولة، وذلك من خلال قيادته "اللقاء الإسلامي" الذي كان يمثل تيار الوعي العقلاني في بيروت الغربية، والذي تعرض لخلل في بنيته الهيكلية بعد غياب المفتي، وقبله الرئيس تقي الدين الصلح ـ ومن القناعات التي تمسك بها "اللقاء الإسلامي" برئاسة الشيخ حسن خالد، التصلّب في رفض الأمن الحزبي والإصرار على الأمن النظامي، في إطار مناصرة المؤسسات الشرعية وعدم الاعتراف بالميليشيات. وقد أبلغ "اللقاء" هذه القناعة إلى المسؤولين السوريين، خلال اجتماع عُقد في دمشق عام 1986. ويخشى المراقبون السياسيون ان يكون اغتيال المفتي بداية فصل جديد في مخطط كيسنجر لتفتيت لبنان، ربما يكون آخر الفصول، وهدفه تغييب القيادات الرمزية لما تبقّى من وحدة لبنان وإرادة العيش المشترك على أرضه، وذلك بعد نجاح الفصل الأخير الذي استهدف تفريغ الرئسات الثلاث وقيام حكومتين وجيشين وشلّ مجلس النواب. وفي حال نجاح الفصل الجديد، ليس من المستبعد ان يصبح التقسيم او التفتيت أمراً واقعياً مكرّساً يصعب ازالته، في بلد لا يدوم فيه شيء إلا المؤقت. وكان المفتي الشهيد، الذي تولّى الزعامة الروحية لحوالي 800 ألف مسلم سنيّ لبناني طوال 23 عاماً، ينتهج خطاً معتدلاً ويدعو إلى حل سياسي للأزمة اللبنانية يعتمد على إلغاء الطائفية السياسية وإتاحة الفرصة أمام الجميع لتولي المناصب الرسمية على أساس الكفاءة والمقدرة، وليس على أساس "6 و6 مكرر"، أي توزيع لبنان حصصاً على الطوائف، أو التقاسم المتوافق عليه بين الطوائف اللبنانية الرئيسية الست (الموارنة، الشيعة، السنة، الأرثوذكس، الدروز، الكاثوليك). ومن آخر كلمات الراحل الكبير التي ردّدها قبل ساعات من استشهاده، وبعد تحذيره من احتمال اغتياله: "ماذا يريدون؟ نحن دعاة اعتدال وضد التطرف. نحن ضد الهوج. نحن ندعو إلى الحكمة. هذا خطنا ولن نحيد عنه". لكن هذا لم يمنع من اغتياله، بل كان سبب اغتياله، "واغتيلت معه مبادئ الفضيلة والمحبة والانفتاح، وقُتل العلم والعقل والرأي، ونُحرت الرصانة والشجاعة"، كما قال الرئيس الدكتور سليم الحص الذي كان بالغ التأثر وهو يودّع صديقه الكبير. وبحجم الخسارة الفادحة، ودّع اللبنانيون الشيخ حسن خالد في تظاهرة وطنية شعبية عارمة اشترك فيها أكثر من مائة ألف شيعّوا الفقيد الكبير إلى مدافن الإمام الأوزاعي، وهم يهتفون: "كنت لوطنك حسناً، وستبقى في قلوبنا خالداً". وشمل الحداد الرسمي والشعبي لبنان بمختلف مناطقه وطوائفه، وفتحت البطريركية المارونية أبوابها لتقبل التعازي، في أول خطوة من نوعها، ووقف البطريرك صفير يستقبل المعزّين، تأكيداً على التمسك بالوحدة الوطنية وإرادة التعايش اللتين استشهد المفتي من اجلهما، كما أقفرت الشوارع في المناطق الشرقية استجابة للإضراب الذي دعت إليه "الجبهة اللبنانية". وفي العالم الإسلامي، كان وقع الجريمة مدوياً. وعبّر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز عن بالغ أسفه لهذا الحادث "الذي يؤلم المسلم وغير المسلم، لا سيما انه كان متعمّداً"، ودعا الى التهدئة "وعدم قيام رد فعل عنيف حتى لا يُستغل ذلك استغلالاً سيئاً"، كما طالب بالبحث عن الجناة وبمعاقبتهم العقاب الرادع. وأصدرت "رابطة العالم الإسلامي" بياناً تنعي فيه مفتي لبنان وتعبّر عن عميق حزنها وألمها لاغتياله. ووصفت الرابطة الشيخ حسن خالد بأنه كان عضواً نشيطاً في مجلسها التأسيسي وفي المجلس الأعلى العالمي للمساجد، وأن "الأمة الإسلامية فقدت باستشهاده واحداً من أبرز علمائها العاملين ودعاتها المخلصين، تحلّى بالعلم والتواضع ودماثة الخلق وحسن الخصال". كما أعلن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، استنكاره لهذه الجريمة النكراء، وأوصى المسلمين في لبنان "بالالتزام بالحق والصبر عليه والتعاون على البر والتقوى والتعاون على استتباب الأمن وإنهاء النزاع، وأن يُعامل أصحاب الجريمة بما يستحقون". الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير وزير الدولة السعودي رئيس ديوان المظالم ووزير العدل بالنيابة، تلقى النبأ "بقلب يعتصره الأسى، على أثر الأساليب الهمجية التي دمرت الوحدة الوطنية في لبنان، بالاعتداء على رموز وحدته ودعاة التعايش والسلام بين مختلف الفئات والطوائف". ودعا أبناء لبنان إلى إدراك أبعاد المؤامرة التي تهدف إلى تشتيت شملهم. الشيخ عبد العزيز الخياط وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية، وصف الراحل الكبير بأنه كان عالماً جليلاً، كثير الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والتربوية التي تهم المسلمين في لبنان، مشيراً إلى أن أعداء الإسلام تربصوا به فكان لهم ما أرادوه، لكن الله سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد. ودعا الوزير الأردني المسلمين في لبنان إلى "توحيد صفوفهم وجمع كلمتهم، ليحموا مجتمعهم ويصونوا مصالحهم ويحافظوا على قياداتهم الدينية والسياسية، لأن أعداء الإسلام يتآمرون عليهم، وعليهم أن يكونوا على استعداد دائم لحماية أنفسهم وأسرهم ومجتمعهم الإسلامي المتميز". واعتبر منور شاذلي وزير الشؤون الدينية في جمهورية اندونيسيا، ان اغتيال الشيخ حسن خالد "تطور خطير"، وناشد الأطراف اللبنانية الاحتكام إلى صوت العقل والى المساعي الحميدة التي تبذلها اللجنة السداسية العربية، وأكد على ضرورة وقف نزيف الدم في لبنان. ونعى القاسم بوسنينة وزير الدولة للشؤون الدينية في تونس المفتي الشهيد بقوله: "أننا نعزي أنفسنا والعالم الإسلامي بفقد عالم جليل ورجل من رجال الدعوة الإسلامية، كرّس حياته للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، كما كرّسها لدعوة اللبنانيين جميعاً إلى الوفاق وتجنب العنف". ورأى السفير اللبناني وعميد السلك الدبلوماسي في المملكة العربية السعودية الدكتور ظافر الحسن، "إن عملية الاغتيال تستهدف هدم جسر متين وصابر من جسور التفاهم والتواصل بين الشعب اللبناني، فكلما اتجهت المحنة اللبنانية إلى الحلحلة أو الهدوء، سواء بمبادرة داخلية لبنانية أو بجهود عربية، تتحرك الأيدي الخفية لتحول دون ذلك". ومهما يطل عمر الأزمة اللبنانية، فان اسم الشيخ حسن خالد سيظل في طليعة قافلة شهدائها، وستسقي دماؤه الطاهرة تربة لبنان الغد، وستزيد من تعلّق الشعب اللبناني بصيغة الوحدة الوطنية والعيش المشترك، وعناده في مواجهة المؤامرة المستمرة، مهما عظمت التضحيات وسما الفداء، ايماناً من هذا الشعب بقناعة المفتي خالد "بان التقسيم أمر خيالي ولا سبيل إلى تنفيذه ابداً". |