على مبدأ اضرب المفتي تتبدد الرعية - المسيرة 22 أيار 1989
على مبدأ اضرب المفتي تتبدد الرعية سوريا الأسد تكمل اغتيال طائفة!
قبل أيام من اغتياله كان لدى مفتي الجمهورية اللبنانية الراحل الشيخ حسن خالد شعور بأنه مستهدف في هذه المرحلة وطلب من الدكتور سليم الحص تعزيز الحماية الأمنية حول دار الإفتاء وزيادة عناصر المواكبة له من قوى الأمن الداخلي. وترافق هذا الشعور ـ الهاجس مع تطور سياسي، تمثل في رفض المفتي خالد تلبية دعوة كان تلقها مطلع الشهر الجاري إلى زيارة دمشق. وقيل يومها ان الرفض جاء لأسباب بروتوكولية، لأن الدعوة لم توجه في شكل رسمي ولائق، وإنما تولى تسليمها رئيس جهاز الاستخبارات في بيروت العميد علي حمود، في حين ذكر البعض الآخر أن الزيارة لم تتم لأسباب أمنية، لأن المفتي آثر عدم مغادرة العاصمة في الظروف الصعبة التي تمر بها والبقاء إلى جانب الناس في معاناتهم. وكل ذلك لا يخفي حقيقة ان رفض الشيخ خالد الذهاب إلى دمشق عائد لأسباب سياسية، تتصل أساساً بالاختلاف الكبير في وجهات النظر بينه وبين المسؤولين السوريين في هذه المرحلة. وقرار المفتي خالد "إدارة ظهره" لدمشق اعتبرته القيادة السورية تجاوزاً للخط الأحمر وتأكيداً على وجود مشكلة سنية متنامية. والسلوك السوري في أحوال كهذه واضح لا لبس فيه: كل من يخرج على طاعة الرئيس الأسد يخرج من المعادلة إلى الأبد. اغتيال الزعيم الروحي للسنة هو الاغتيال الثالث الكبير بعد اغتيالين مشابهين في الظروف والحجم، استهدف الأول الزعيم الدرزي كمال جنبلاط العام 1977 واستهدف الثاني الزعيم المسيحي بشير الجميل العام 1982. الزعماء الثلاثة شكلوا في مراحل زمنية متباعدة وظروف "مفصلية" متشابهة خطرا استراتيجياً على السياسة السورية في لبنان، وتحولوا، كل من موقعه واعتباراته، عقدة أساسية تعيق تنفيذ الخطط السورية وتهدد بإفشالها. والاغتيال الأخير يأخذ حجمه من حجم الوطن الراهن الذي أتت العملية الإجرامية في سياقه. ومن الحجم السياسي الذي بلغه المفتي خالد في الأعوام الأخيرة. السنة كطائفة وكيان سياسي هم المتضررون والمستهدفون بهذه الضربة الموجعة التي أصابت رأسهم ورئيسهم، لأن ما حدث يشكل في الواقع اغتيالا للمحاولة الهادئة، وربما كانت الأخيرة، التي حاولها الشيخ حسن خالد في اتجاه جمع الشتات السني و"تأطيره" سياسياً والتأكيد على الخصوصية والشخصية المستقلة للطائفة السنية، بعدما دأب السوريون على طمس معالمها وضرب الواحد بعد الآخر. ولذلك أتت عملية الاغتيال كأنها تهدف إلى ترويض الطائفة السنية ولا يمكن فصلها عن سياق مخطط "الإلغاء المنهجي" الذي تنفذه "سوريا الأسد" ضد هذه الطائفة على مراحل وفي أشكال مختلفة تفاوتت بين الإخضاع، كما هي الحال مع "حركة التوحيد الإسلامية" في طرابلس، أو الإلغاء كما حصل مع تنظيم "المرابطون" في الغربية، أو النفي القسري كما حصل مع الرئيس صائب سلام والنائب عبد المجيد الرافعي، أو الاغتيال كما حصل مع الشيخ صبحي الصالح والمستشار الرئاسي محمد شقير. لكن اغتيال المفتي خالد يبقى الأخطر والأشد وقعاً. هذا الشريط المتواصل من التوتر والعلاقة التصادمية يشير بوضوح إلى أزمة في العمق بين سوريا والسنة تكاد تعود إلى أول أيام الحرب والتحالف السني مع الفلسطينيين الذين شكلوا قبل الثمانينات القوة المنافسة لسوريا في لبنان والساحة الإسلامية تحديدا. وإذا كان الخيار الفلسطيني الذي اعتمده السنة قبل العام 1982 سبب النفور والفتور في العلاقة مع سوريا، فإن الخيار الشيعي الذي اعتمدته دمشق بعد العام 82 شكل سبباً إضافياً لحال النفور هذه. وهذا الخيار تمثل على مستوى المنطقة بتأييد إيران ضد العراق وتمثل في لبنان بالانحياز إلى جانب الشيعة ودعمهم للاستيلاء على الحكم على حساب "الصدارة" السنية. والانحياز السوري إلى الشيعة تأكد في مؤتمر لوزان، حيث ظهر اختلاف في المصالح السنية ـ الشيعية، وترجم عملياً في تمكين حركة أمل الشيعية من السيطرة على بيروت الغربية وبلغ الأمر أخيراً حد تعهد مطالب الشيعة، وهذا ما يقصده السوريون بتغيير النظام، وتشير معلومات في هذا المجال إلى وعد شخصي قطعه الرئيس الأسد للشيخ محمد مهدي شمس الدين صيف 88 بأن يكون الرئيس أمين الجميل آخر رئيس ماروني وألا تكون انتخابات جديدة إلا في ظل نظام جديد... حيال هذا الغزو الشيعي المنظم سياسياً والفوضوي عسكرياً وبرعاية مباشرة من سوريا، اضطر السنة إلى الانكفاء إلى حدود لقاء سياسي أسبوعي يستظل حماية دار الإفتاء. ولم يكن له ما يريد ولكن كانت له القدرة على تعطيل ما لا يريد، بفعل ما اشتهر به المفتي خالد من دهاء. وإذا كانت سوريا أظهرت في السابق توجهاً واضحاً "لئلا يكون للسنة أي تنظيم أو وجود عسكري، أرمزياً كان أم فاعلا. فإنها تعلن اليوم: ممنوع على أن يكون للسنة زعيم واي وجود سياسي، خصوصاً عندما يتحول هذا الوجود مشكلة وعبئاً، وينظر إليه كاختراق و"دفرسوار" سياسي في مناطق سيطرتها. وهذه النظرة سادت الأشهر الأخيرة بعد 23 أيلول الماضي، نتيجة التأثير الحاسم الذي كان للمفتي خالد على الدكتور الحص والفاعليات السنية في عدم مجاراة خطة "الحكومتين والجيشين". وبعد 14 آذار الماضي نتيجة الموقف المدروس الذي صاغه المفتي، في وقت تعتبر دمشق أن مجرد الوقوف على الحياد في هذه المعركة خيانة. وكان حلفاء سوريا، وفي مقدمهم وليد جنبلاط يرصدون باستياء بيانات اللقاء الإسلامي الخالية من أي اشارة الى العماد ميشال عون والمطالبة باخراج السلاح الثقيل من احياء بيروت الغربية، وتعني ضمنياً اخراج من في حوزته هذا السلاح ـ كما كانوا يرقبون بقلق التنسيق العلني بين اللقاء الاسلامي وبكركي، وكأنه امتداد محلي للتناغم "الاقليمي" بين المحور السني في المنطقة بزعامة العراق من جهة والمنطقة الشرقية من جهة ثانية. وهذا التنسيق بلغ مداه في لقاء القيادات الروحية واللجنة العربية السداسية في الكويت، حيث حرص المفتي خالد على احاطة البطريرك الماروني برعاية خاصة. وترى مصادر مراقبة في الغربية ان الخلاف المعلن بين الدكتور الحص وجنبلاط لم يكن الا تظهيرا لخلاف اكبر يتفاعل بين اللقاء الاسلامي وسوريا، بلغ أوجه في المدة الأخيرة عندما اعلن السنة التزامهم الخيار العربي من دون تحفظ والتزامهم مقررات تونس الداعية الى وقف نار من دون قيد أو شرط وحماستهم "الزائدة" لمجيء المراقبين. وأصبح المفتي خالد المسوق الرئيسي للحل العربي. وموقفه هذا وضعهم في أقرب مسافة من العماد عون ووضع سوريا أمام تحد كبير ومشكلة اسلامية كانت بحسب النظرة السورية في أساس تمييع المعركة السياسية وجعلها دون المستوى المطلوب، خصوصاً على صعيد الموقف من العماد عون. من هذا المنطلق يعد اغتيال المفتي خالد بمثابة رسالة دموية مباشرة الى الدكتور الحص الذي يمر بأزمة نفسية وصحية خانقة، وبات يشعر بحراجة الموقف وتعاظم مسؤولياته، بعدما أصبح كل "الأرث السني" في عهدته باغتيال المفتي خالد بعد الرئيس الراحل رشيد كرامي وابعاد الرئيس صائب سلام. ماذا يعني اغتيال المفتي وماذا يمكن ان ينتج عنه؟ اول نتيجة مباشرة ستكون على صعيد وضع الطائفة السنية التي وقعت في اليتم السياسي، وستعرف حالا من الضياع والصدمة على مستوى القيادة السياسية، بالتزامن مع حال من النقمة والتوتر على مستوى الشارع والرأي العام. والانعكاس الثاني سيكون على اعمال اللجنة العربية ومشاريع الحلول والتسويات في شكل عام، لأن الاغتيال قطع خط الاتصال الاساسي وجسر العبور بين الشرقية والغربية، وأوجد حلقة مفقودة في السياسة اللبنانية. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك ليقول ان الاغتيال سيؤثر على المدى القريب في دور البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير الذي كان يشكل مع المفتي خالد "ثنائياً منسجماً، ويقصد به استطرادا ضرب الثنائية المارونية ـ السنية. انفجار عائشة بكار الذي أصاب بشظاياه القمة العربية ومشاعر الزعماء العرب، يخشى أنه أصاب أيضاً الهدنة الأمنية التي زادت احتمالات انهيارها، في ظل أجواء التوتر والتطرف وسقوط رمز الاعتدال والتهدئة. ويخشى أن تبادر سوريا الى تفجير الأوضاع للتغطية على عملية الاغتيال وتحويل الانظار عنها، وللحؤول دون حضور العماد عون القمة. واغتيال المفتي خالد يكشف عمق المأزق السوري الراهن في لبنان ومدى "استشراس" الأسد في معركته، من دون التفات الى محاذير واعتبارات، حتى لو وصل الأمر الى توجيه "ضربة مكشوفة" على مرأى ومسمع من القوات السورية المتغلغلة في احياء الغربية. هل وقع الرئيس الأسد في المحظور؟ وهل يكون اغتيال المفتي خالد الشرارة لمرحلة حافلة؟