إعلان الاغتيال
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: قال الله تعالى: « وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء » إن تغييب الشهيد مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ لبنان إنما هو حلقة من حلقات التآمر على وجود هذا الوطن ووحدته وعروبته وحريته وزرع الفتنة في الصف الواحد. لقد فقدنا فيه قائداً ملهماً وعقلاً نيراً ورؤية مستقبلية مشرقة. لم يكن مفتياً للمسلمين فحسب بل كان علماً من أعلام لبنان والمنطقة العربية والعالم الإسلامي، بذل حياته وعمره في خدمة المسلمين وقضاياهم المصيرية، ومضى مفكراً وكاتباً ومرشداً، ومات شهيداً، فكان له الذكر الطيب في الدنيا والجزاء الحسن في الآخرة، لعل عزاءنا فيه ما تركه من مبادىء وما زرعه من خصال طيبة كريمة ومواقف صادقة ثابتة سيبقى صدى صوته مدوياً معلناً وحدة المسلمين واللبنانيين وتحقيق كرامة الوطن وحرية المواطنين فيه. صيدا في 18/5/1989 م مفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين تقبل التعازي بالشهيد حسن خالد في دار الإفتاء والأوقاف بصيدا ثلاثة أيام إن الله يختبر تصميم المؤمن على معركة الحق بالمخاوف والشدائد والفواجع، ويبتليهم بنقص من الأموال والثمرات يشحذ الهمم، ويستجيش مكنون القلوب، ويزيل الغبش عن العيون. وما حادثة اغتيال الشهيد الكبير مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد غدراً وعدواناً إلا ابتلاء من الله للمؤمنين، واختباراً لتصميم اللبنانيين على المضي في معركة الحق حتى النهاية، وقطع دابر المنافقين والمتعاملين مع الشيطان الرجيم والمنسقين مع إسرائيل والمستعمرين. فتغييب الشهيد القائد الملهم، والداعي للوحدة الأمين، والساعي لخير لبنان والمسلمين، وجميع المواطنين لن يثني ويقلل من عزم المصلحين، ولا من تعميم المخلصين ومضاء المقاومين، ولن يدع للفتنة محلاً، ولا للتفرقة مكاناً، ولا للتقسيم مجالاً، بل سيزيد إصراراً على متابعة معركة المصير حتى النصر. وقد لمسنا هذا الإصرار والتمسك بوحدة الوطن من إجماع اللبنانيين على استنكار الجريمة الأليمة وشجبهم للأساليب الخسيسة التي يلجأ إليها المتآمرون على وحدة هذا الوطن وعروبته وحريته ومن تبادلهم التعازي في جميع أنحاء لبنان. وإننا بعد ثلاثة أيام على تقبل التعازي في دار الإفتاء في صيدا نعبر عن أسمى تقديرنا واحترامنا لكل من شاركنا العزاء من قيادات ومؤسسات وجمعيات وأفراد، شاكرين موقفهم النبيل، سائلين المولى تعالى أن يتغمد الفقيد الشهيد برحمته ويلهمنا جميعاً الصبر والرضا، ويساعدنا على المضي في معركة الحق حتى النصر. صيدا في: 20/5/1989 م اغتيال الرموز الوطنية والدينية لن يوقف مسيرة الإنقاذ والتحرير ما زالت المؤامرة على وحدة لبنان قائمة، ومخططات الكيان الصهيوني لتجزئته واقتطاع جنوبه سارية، ومسلسل الاغتيال المجرم الآثم يمتد ليطال القادة الروحيين والوطنيين ويوقع البلبلة في صفوف المواطنين، فكلما لاحت في الأفق بارقة من الأمل أو فتحت نافذة تطل على مدخل للحل أو ارتفع صوت يجاهر بالحق ويطالب بالوقوف في وجه الانحراف والتعامل المشبوه أو يدعو إلى الحفاظ على الوحدة سرعان ما ينكفئ الأمل، ويخنق الصوت، وتصعد الأزمة وتعاود المؤامرة سيرها من جديد، بالأمس أقدمت يد الغدر على اغتيال رئيس مسؤول وزعيم موثوق، ورمز من رموز النضال المغفور له الشهيد رشيد كرامي، لأنه كان متمسكاً بعقيدته ومبادئه الوطنية لا يحابي عليها ولا يساوم، وفياً لوطنه، مدافعاً عن الحرية والعزة والكرامة، داعياً إلى الحوار البناء الموصل إلى صيغة الوفاق الذي يقوم عليها بناء لبنان الجديد الواحد الموحد العربي المستقل على أساس من العدل والمساواة بين جميع المواطنين. لقد اغتالته اليد المجرمة، وهو ماضٍ في جهاده ونضاله من أجل إنقاذ لبنان من أزمته، وجمع كلمة فئاته وأحزابه، وصون وحدته من التقسيم وتحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي، وبسط سيادته على جميع أراضيه، إلّا أن هذه الجريمة النكراء تركت بصمات إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى تغلغل العملاء المأجورين بين الصفوف، ووجود خلايا في بعض التجمعات والتنظيمات المسلحة وألوية الجيش، ومدى ضخامة التآمر على وحدة هذا البلد، وعيش بنيه المشترك. وقد أثبتت الاغتيالات السابقة للرموز الوطنية والدينية هذا الأمر، وها هي اليوم من جديد تطال عالماً جليلاً، وساعياً لخير لبنان والمسلمين، وداعياً للوحدة والحوار البناء توصلاً إلى الوفاق، وقائداً وضع جميع إمكانياته، ونذر حياته لإنقاذ لبنان من محنته، وتحرير أرضه، وإصلاح ذات البين بين الأفرقة المتنازعة بالحكمة والموعظة الحسنة، ألا وهو المغفور له الشهيد حسن خالد مفتي الجمهورية. أجل امتدت إليه هذه اليد المجرمة، وهو متمرس بجهاده وكفاحه، يجاهد في سبيل خدمة الإسلام والمسلمين، والإبقاء على وحدة لبنان واللبنانيين ومنع تقسيمه والحرص على ما امتاز به من عيش مشترك. نحن لا ننكر أننا فقدنا في اغتياله، وبخاصة في هذه المرحلة المصيرية، قائداً ملهماً وعلماً من أعلام لبنان والمنطقة العربية والعالم الإسلامي، نعلم ونؤمن أن حادثة وفاته هي من قبيل الابتلاء من حكيم عليم لمدى صبرنا على الشدائد والمصائب الجسام، ومن قبيل الاختيار لتصميم المؤمنين على المضي في معركة الحق والتحرير حتى النصر، ولمدى وعي الوطنيين لما يحاك ضدهم من جانب الصهيونية الحاقدة، والصليبية المتعصبة والدول ذات الأطماع الاستعمارية وما يعدونه لمواجهة أساليب الإرهاب التي يلجأ إليها العدو والمتعاملون معه، ووسائل الإجرام والاغتيال وزرع الفتنة بين المواطنين. وليعلم الجميع إننا من الذين يتقبلون ابتلاء الله بالرضا والتسليم، ونصبر على ذلك لنفوز بالنصر المبين، والأجر العظيم يوم الدين. وليعلموا أن الإرهاب بشتى أساليبه، والاغتيال بمختلف وسائله ووجوهه والتفجير أنى كان وبأي طريقة حدث، لن تثني من عزائم المؤمنين، ولا من تصميم المصلحين، ولا من مضاء المقاومين، ولن تدع للفتنة محلاً، ولا للتفرقة مكاناً، ولا للتقسيم مجالاً، ولا للعدو مقراً ولا ممراً، بل سنزداد إيماناً وإصراراً على متابعة المعركة حتى النصر. فإلى جنة الخلد يا رشيد كرامي ويا حسن يا شهيدا الإيمان والأمانة، والكلمة الجريئة والجهاد المتواصل، فقد أديتما قسطكما من الكفاح والنضال بصدق وإخلاص، وقدمتما الدم الطاهر حفاظاً على الوحدة والعزة والكرامة والحرية ونشر العدل والإصلاح فطيبا نفساً، وقال تعالى: « يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي » صدق الله العظيم. تحريراً في 31/5/1989 م مفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين في صيدا: واصلت الهيئات والشخصيات الوطنية والإسلامية توافدها على دار الإفتاء معزية باستشهاد سماحة المفتي خالد. ففي دار الإفتاء الإسلامية ـ صيدا التي تتصدرها صورة سماحة الشهيد المفتي حسن خالد، تقبل مفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين آنئذ التعازي بالشهيد الشيخ حسن خالد بحضور قاضي صيدا الشرعي الشيخ أحمد الزين، رئيس دائرة الأوقاف الإسلامية ـ صيدا الشيخ محمد دالي بلطة، الشيخ سليم سوسان، الشيخ حسين المرح، الشيخ محرم العارفي، الشيخ نزيه نقوزي، الشيخ عزت ياسين، وعضوي المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الحاج محيـي الدين القطب والمحامي عبد الحليم الزين، وأعضاء الهيئة الإدارية لدائرة الأوقاف ـ صيدا (محمد علي الجوهري، المهندس مصطفى بيطار، مصطفى الزين، ووجيه كالو). وكان أبرز المعزين مفتي زحلة والبقاع الشيخ خليل الميس، نائب صيدا الدكتور نزيه البزري، رئيس التنظيم الشعبي الناصري المهندس مصطفى معروف سعد، قاضي صيدا الجعفري العلّامة السيد محمد حسن الأمين، نائب الأمين العام للتنظيم الشعبي الناصري الدكتور أسامة سعد، قائد جيش التحرير الشعبي ـ قوات الشهيد معروف سعد أبو درويش سكيني، المسؤول التنظيمي للجماعة الإسلامية في الجنوب الشيخ محمد عمار، الشيخ غازي حنينة، الشيخ عبد الله الحلاق، الشيخ عبد اللطيف الرواس، الشيخ خليل الصلح، الشيخ محيـي الدين حجازي، رئيس بلدية صيدا المهندس أحمد الكلش ونائبه نزيه بعاصيري، قائمقام صور وبنت جبيل غسان حيدر، قائد اللواء الثاني عشر العقيد الركن محمد سعد على رأس وفد من الضباط، قائد سرية الدرك، الأرشمندريت سليم غزال، الأب نقولا صغبيني، الأب أنطوان سعد، الأب جوزيف واكيم، وفد من جريدة اللواء ضم رئيس قسم المناطق غازي فريج ومسؤول مكتب جريدة «اللواء» في الجنوب الزميل هيثم زعيتر، وفد من الزملاء الصحافيين العاملين في صيدا، رئيس غرفة تجار صيدا علي الشريف، رئيس تجمع صناعيي الجنوب عضو تجمع الصناعيين اللبنانيين المهندس سيد الحريري، الدكتور غسان حمود، سليم مملوك، وفد من اتحاد نقابات العمال والمستخدمين في الجنوب، وفد من مؤسسة الحريري، وفد من ثكنة الكنيسات برئاسة مسؤولها محمود الحريري وعضوية وفيق الحريري وتيسير الحريري ومصطفى الحريري رئيس مركز صيدا الثقافي، نزار رواس مختار بلدة طبايا، المهندس عبد الواحد شهاب، المحامي سليم زعيتر، الدكتور علي الشيخ عمار على رأس وفد من الجماعة الإسلامية، وفد حركة أمل إقليم الجنوب ضم المسؤول السياسي الحاج جميل حايك المسؤول الإعلامي المحامي ملحم قانصوه ومسؤول منطقة صيدا الحاج محمد صالح، المسؤول السياسي لمنظمة حزب البعث العربي الاشتراكي في الجنوب قاسم غادر والمسؤول العسكري علي بغدادي، وفد من الحزب الشيوعي اللبناني في الجنوب ضم الدكتور حكمت الأمين وحسن شمس الدين، وفد من منظمة العمل الشيوعي في لبنان ـ فرع الجنوب ضم عدنان الزيباوي وعصمت قواص، منظمة الاشتراكيين الثوريين، محيـي الدين جويدي، يوسف خضرا عن حزب العمل الاشتراكي العربي، المسؤول السياسي للحزب الديمقراطي الشعبي غسان عبدو، أمين سر قيادة العمل الوطني الفلسطيني في لبنان زيد وهبة، وفد من إقليم لبنان لحركة فتح برئاسة معتمد الإقليم معين شبايطة ونائبه فتحي أبو العردات، وفد من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ضم عضوي اللجنة المركزية أبو فادي راجي وأبو نزار، وفد من اللجان الشعبية الفلسطينية ولجان الأحياء في منطقة صيدا، رئيس المركز الثقافي للبحوث والتوثيق الدكتور مصطفى دندشلي، الدكتور أسعد النادري، وفد تجمع أبناء روم برئاسة أسعد مرعي، رئيس مجلس إدارة شركة الرجاء للاستثمار يوسف قهوجي، رئيس مصلحة الصحة في الجنوب الدكتور أنطوان ضاهر، وفد من مصلحة هاتف الجنوب برئاسة رئيس منطقة الجنوب المهندس زهير النقيب وعضوية المهندس عبد الوهاب البزري فؤاد رمضان الحاج مروان حجازي، رئيس مصلحة كهرباء لبنان في الجنوب المهندس موسى طرابلسي، وفد مجلس كنائس الشرق الأوسط، وفد رابطة الطلاب المسلمين في صيدا، وفد النجدة الشعبية اللبنانية، رئيس هيئة الإسعاف الشعبي الدكتور عماد عكاوي على رأس وفد من الهيئة، رئيس دائرة التربية في الجنوب الدكتور رضا سعادة، رئيس المجلس الإداري لجمعية المقاصد ـ صيدا الدكتور جودت الدادا ورئيس مجلس الأمناء الدكتور عدنان النوام، رئيس نقابة معلمي المدارس الخاصة في صيدا وليد جرادي، رئيس المجلس الإداري لمدرسة صيدون الوطنية فاروق الزعتري ومديرة المدرسة نازك مجذوب، وأحمد مجذوب، مديرة مدرسة الفنون الإنجيلية في صيدا وداد خوري، مدير دار العناية إميل اسكندر، مدير الجامعة اليسوعية في صيدا مصطفى أسعد، وفد من المدرسات في المدارس الرسمية، وفد الجمعية اللبنانية للصداقة والتبادل الثقافي برئاسة محمد رامز الصلح، رئيس محكمة الاستئناف البدائية في صيدا بشير مجذوب، وفد من المحامين في صيدا، وفد من الأطباء، وفد من رعاية الطفولة والأمومة، وفد لجنة الأمهات ضم ماجدة وهبي شعيب وهنا أبو ظهر، وفد من جمعية السكري ضم الدكتور محمد صنديد وناهد جوهري، مفوض الجنوب لقدامى الكشاف المسلم ممدوح الكردي، ومفوض الكشاف المسلم في الجنوب المهندس صلاح الدين بسيوني، مفوض الجنوب لكشافة الجراح رياض الأسير، مفوض الجنوب للنادي الكشفي اللبناني هشام الأسعد، مفوض الجنوب لكشاف التربية الوطنية أحمد الحاج، مفوض الجنوب للكشاف اللبناني ماهر السايس، وفد من الصليب الأحمر اللبناني في الجنوب، وفد من دار رعاية اليتيم صيدا، وفد من المركز الثقافي الإسلامي الخيري، وفد من جمعية جامع البحر، وفد من الهيئة الإسلامية للرعاية، وفد من جمعية مسجد الإمام علي، وفد من مركز الرازي الطبي، الدكتور عبد الرحمن النقيب، الدكتور حاتم زيدان، الدكتور عبد السلام مجذوب، الدكتور باسل عطا الله. رثاء الشهيد الشيخ حسن خالد: في 21 شوال 1410هــ/16 أيار 1990م، ألقيت في رثاء الشهيد حسن خالد كلمة في دار الفتوى تحت عنوان: «الشهيد الشيخ حسن خالد رفيقي في القضاء» وهذا نصها: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث بالحق رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه النيرين وبعد: فيا أبا سعد الدين، يا شهيد العطاء والوفاء، سلام عليك وعلى روحك الطاهرة، وبارك جهادك من أجل الدعوة للخير وعمل الصالحات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الله، وطبت منزلاً مع الأبرار، ومنزلة مع الشهداء والأحرار، وجزاك الله عنا خير الجزاء. وتكرر قوله تعالى: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي » يا أيها الحفل الكريم: تعرفت على الشهيد الكبير لأول مرة في أواخر عام 1953م عندما كنت أشغل منصب مستشار لدى محكمة الاستئناف الشرعية في بيروت وكان رحمه الله يشغل منصب نائب قاضي بيروت الشرعي. ومنذ ذلك الوقت تأصلت بيننا علاقة قوية، وظلت هذه العلاقة تنمو وتشتد إلى أن امتدت إليه اليد المجرمة القذرة، فغيبه الموت إلّا إنه ما زال حياً في نفوسنا، حياً في كل دعوة صادقة للاعتصام بحبل الله، ووحدة الكلمة والقرار، حياً في كل مسعى يؤدي إلى الوفاق، وإصلاح النظام، حياً في كل ثورة على الظلم والفساد، وخنق الحريات، وفي كل انتفاضة بوجه التعسف والتسلط والاعتداء على الحرمات والمقدسات وحقوق الله والناس. تقلد الفقيد الشهيد منصب القضاء وهو واثق من أهليته في فصل الخصومات وقطع المنازعات والحكم بالعدل بين الناس، ومتمكن من علمه ونزاهته لا تميله الدنيا، ولا يستفزه الطمع، ولا تأخذه في الله لومة لائم، يعالج القضايا والدعاوى والمشاكل التي تعرض عليه بعمق وروية وفهم وهدوء أعصاب، لا يعكره غضب، يسعى دائماً للإصلاح بين الزوجين، حرصاً على دوام العشرة وسلامة العائلة والمجتمع، ويبذل جهده في التوفيق بين المتداعين، وإسداء النصح إليهم قطعاً للخصومات، وتقوية لصلات القرابة والروابط الاجتماعية بينهم. وقد عُرف رحمه الله بغزارة علمه، وسعة اطلاعه ومعرفته، وشدة ذكائه وفهمه وطهارة قلبه، وصفاء ذهنه وتفكيره، ورجاحة عقله وصلاحه، وحسن خلقه، ومضاء في عزيمته، وهذه الصفات هي التي جعلت منه قاضياً عادلاً، وحاكماً ناجحاً، ومرجعاً لحل المشاكل والمنازعات، وفصل الخصومات. وكنا قبل أن يشغل منصب مفتي الجمهورية نلتقي في مناسبات كثيرة، ونتبادل الرأي في بعض الأمور المتعلقة بسير المحاكم وانتظامها، وفي بعض المواضيع الهامة المعروضة على كل منا في نطاق محكمته. ولم ينقطع رحمه الله عن مواكبة القضاء الشرعي بعد انتخابه مفتياً للجمهورية اللبنانية والاهتمام بقضاته ومساعديه القضائيين، ولا عن مراقبة سير العمل في جميع المحاكم الشرعية واحتياجاتها، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وتعيين القضاة الذين تتوافر فيهم الشروط المنصوص عليها في قانون تنظيم المحاكم الشرعية لعام 1962م إلى جانب توافر الشروط الشرعية من علم وفهم وحكمة وذكاء، وتعيين المساعدين القضائيين الذين تتوافر فيهم الشروط القانونية المطلوبة، والسلوك الحسن، وذلك بحكم رئاسته لمجلس القضاء الشرعي الأعلى الذي يتولى اختبار وتعيين القضاة والمساعدين القضائيين. وإني رافقته عضواً في مجلس القضاء الشرعي الأعلى أكثر من ثماني سنين، فخبرت خلالها ما كان يتمتع به (رحمه الله) من تجرد ونزاهة ومراقبة الله والضمير ومصلحة القضاء، والنهوض به، وبخاصة في الاختبار الشفهي والخطي الذي يتولاه مجلس القضاء في اختيار القضاة والمساعدين والمناقلات التي لا تتم إلا بموافقته ورأيه. كما أنه رحمه الله كان يمارس مراقبة القرارات التي تتعلق بشؤون الأوقاف، ومصالح المسلمين بحكم رئاسته للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، فقد نصت المادة 51 من المرسوم الاشتراعي ذي الرقم 18/55 المعدل: «يتخذ المجلس الشرعي الأعلى قراراته بأكثرية الأصوات، قراراته نافذة بذاتها ويجوز لمفتي الجمهورية أن يطلب من المجلس المذكور إعادة النظر في أي منها لمرتين اثنتين لأسباب وجيهة يوردها في مذكرة الطلب، وذلك خلال عشرة أيام من تاريخ تبليغه القرار». وبموجب هذه المادة، كان رحمه الله يراجع قرارات اللجنة القضائية المحالة إليه، ويدقق فيها، فإذا وجدها صحيحة عادلة قضى بنفاذها، وإلّا تقدم بطلب إعادة النظر فيها مبيناً الأسباب الوجيهة وموضع الخلل، والنقص فيها في مذكرته ليصار إلى ما يقتضيه الحق والعدل والمصلحة العامة. وبالجملة فإنه كان مثال القاضي العادل المتحلي بالعلم والفهم والذكاء والخلق الحسن ومراقبة الله، وظل أسلوب القاضي ومحاكمته للأمور والمشاكل بروية وحكمة وبعد نظر ملازمين له طيلة إشغاله منصب مفتي الجمهورية اللبنانية لا يفارقانه في جميع تحركاته وتصرفاته وتصريحاته ومواجهة المشاكل الاجتماعية، والقضايا السياسية، والشؤون الوقفية والإسلامية، والقرارات المصيرية. فكل قضية أو شأن أو أمر يتعلق بحق من حقوق الطائفة، أو يرتبط بمصير الوطن أو سياسة الدولة، أو مصلحة إسلامية وعربية لا يمكن أن يعطي رأيه ويصدر قراره إلّا بعد دراسة عميقة تتناول جميع جوانب الموضوع وخلفياته، وبعد الاستئناس برأي مستشاريه من أهل الخبرة والسياسة العلم والإدارة، وبعد وضع الحيثيات كما هو الحال في صياغة الحكم القضائي، وعندئذٍ يصدر قراره أو يعلن رأيه. وكان يحذر من التفرد بالقرارات المصيرية الذي أصبح أسلوب بعض القيادات في لبنان، ويعتبره الداء وعلة البلاء، فاسمعوه وهو في خطبة عيد الفطر لعام 1985م يقول: «إن التفرد بالقرارات المصيرية هو الداء وعلة البلاء، فالإصلاح بات يطرح من منظور الطائفة لا من منظور الوطن، ومن رؤية لمصلحة المذهب لا من رؤية لمصلحة الأمة، ومن موقع الطامع في كل مكسب لا من موقع المستعد لكل عطاء، بمثل هذا الأسلوب أصبح الشأن عند البعض في مصالحة الإصلاح في لبنان». وفي الخطبة نفسها عام 1985م حدد رحمه الله حق سورية في المشاركة في صياغة قرار المصير بأسلوب منطقي قضائي حيث يقول: «وإذا كان لكل القوى التي شاركت في المقاومة، وشاركت في إسقاط اتفاق السابع عشر من أيار حق شرعي في المشاركة في صياغة قرار المصير فإن لسورية الحق الشرعي الأول في المشاركة في هذه الصياغة، لأنها هي التي قادت، وهي التي ضمت، وهي التي ساندت، وهي التي خاضت كل المعارك الوطنية وعلى كل الجبهات. لقد كان لسورية على جبهة الإصلاح السياسي في لبنان دورها الكبير، وإننا اليوم وفي هذا المأزق الخطير الذي نعيشه نتطلع إلى عودته لنمارسه بوعي كبير، ومسؤولية تاريخية». وإنه رحمه الله، مع حرصه على تجنب الوقوع في مطب من المطبات المغرضين، أو مزلق من مزالق المتآمرين، لم يسلم من ألسنة أصحاب المصالح والمستفيدين من الفوضى والأوضاع الشاذة ولا من ألسنة العملاء الطامعين والمستعمرين وأعداد المسلحين. وإنه رغم حنكته السياسية ومرونته في التعاطي مع القضايا والمشاكل التي تبرز على الساحة، ورغم اعتداله في مواقفه ومساعيه في إيجاد الحوار البناء بين الأطراف المتنازعة، وحرصه على الوحدة والعيش الوطني المشترك، رغم كل هذا فقد امتدت إليه اليد المجرمة القذرة، ونحن بحاجة إلى قيادته الحكيمة، ومواعظه المفيدة، وتطلعاته الخيرة، وخبرته بالأوضاع القائمة فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون. فيا أبا سعد الدين، يا شيخ حسن، يا شهيد الوفاء والعطاء، ها قد مضى عام على استشهادك، والمؤامرة على وحدة لبنان ما زالت قائمة، ومخططات العدو الإسرائيلي لاقتطاع جنوبه لا تزال سارية، ومسلسل التفجيرات والاغتيالات والتقاتل بين الإخوة يسير في المدار المحدد له، والأوضاع في تدهور، والأحقاد في تفجر، والشرعية في تعثر، والدولار في ارتفاع والغلاء في ازدياد، والشعب المغلوب على أمره سائر إلى زوال، والبلاد في خراب ودمار، وحملة السلاح من الخارجين على الشرعية في تقاتل وصراع يمعنون في التدمير والخراب والقتل، ويعملون على تنفيذ خطط الطامعين ودول الاستعمار. يا أبا سعد الدين كنت تنصح بالصبر منها هو أوشك أن يؤدى للردي بالشعب، وكنت تنادي بأن شريعة لبنان الحضاري الدين والعقل، فإذا بشريعة الهوى والفشل تسيطر وتسود وتصبح مدار التفاوض والحوار، ومطلب أهل التسلط والاغتصاب. لقد هالك الخراب والدمار في بيروت إثر المعارك التي دارت بين المنظمات والأحزاب، فماذا نقول اليوم بعد أن دكت معالم بيروت بالمدافع والصواريخ، وهجر أهلها، وحصدت القذائف ورصاص القنص الكثير من الضحايا، وتبعتها بيروت الشرقية، وما زالت رحى حرب ضروس تدور في أرجائها ومناطق من المتن والجبل، ويمعن الفريقان في التدمير والتخريب والقتل والتهجير دون هوادة ولا رحمة. إننا لن نتخلى عن رسالتك ولو بعد أن غيبك الموت، تنصحنا بالصبر، وتحثنا على الاعتصام بحبل الله، ووحدة الكلمة والقرار، ومتابعة مسيرة الإنقاذ والتحرير وتطهير الأرض من الاحتلال الغاصب، وتحريم التقاتل بين الإخوة، والعودة إلى تعاليم الإسلام وأخلاق القرآن، فإن فيها الدواء والشفاء. وختاماً نردد الآية الكريمة: « يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي».
|