القصة الكاملة للمرحلة الخطيرة التي سبق اغتيال المفتي الشهيد حسن خالد أسرار بالغة الخطورة ووقائع تنشر لأول مرة يكشفها في هذا الحوار سعد الدين حسن خالد، أخطرها وأهمها تفاصيل المرحلة الخطيرة التي سبقت اغتيال المفتي حسن خالد في تلك الجريمة النكراء في عام 1989. حوار الشراع مع نجل المفتي الشهيد تناولت وبالتفصيل بعض خبايا المرحلة الأخيرة التي سبقت اغتيال والده بما اعتراها ورافقها وتخللها من مواقف وأحداث وأسرار ووسائل وأقوال وتهديدات وتحذيرات سواء عبر الهاتف أو عبر موفودين او عبرة أصدقاء أو عبر قصف أو عبر قصف محيط مكتبه في دار الفتوى وصولاً الى تحركاته الأخيرة في مساعيه لعقد قمة عربية من أجل حل الأزمة في لبنان مروراً بقوله الشهير الذي يختصر تلك المرحلة بمخاطرها والتي سمعه البعض يقول: "ليقتلوني إذا أرادوا ولكن لماذا قصف الأبرياء والآمنين؟" نجل المفتي الشهيد كشف تفاصيل اللقاء العاصف مع نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام في طرابلس والذي حضره المفتي وبعض أعضاء اللقاء الاسلامي في دارة الرئيس الشهيد رشيد كرامي والذي كان في قرار المفتي واللقاء الاسلامي بتسمية الرئيس الحص خلفاً للرئيس كرامي دون التشاور معه مادة خلافية حولت اللقاء الى بداية مرحلة من الجفاء بين المفتي والسوريين والتي تحولت لاحقاً الى حالة من الانقطاع بين المفتي وسورية. فقد كان الشيخ الراحل حسن خالد يرفض فكرة التدخل في تفاصيل الشأن اللبناني كما كان يعرب دائماً عن امتعاضه ورفضه لفكرة تخوين الناس من قبل أي كان ومن دون أي مبرر وتحت أي غطاء وكان يحرص على سورية ولكنه كان يرفض فكرة حصر العروبة في سورية فقط دون سائر الدول العربية. سعد الدين خالد يعرض في هذا الحوار شريطاً من المواقف الهامة للمفتي الشهيد الذي كان همه الأول وحدة اللبنانيين ووقف الحرب، فحرص على ابقاء تواصله مع القيادات الإسلامية والمسيحية خلال الحرب، معتبراً بأنه لا أحد في لبنان يجوز له أن يلغي أحداً. ... وهذا غيض من فيض في الحوار مع نجل المفتي الشهيد، نعرضه كما يلي: • اليوم الذكرى السادسة لاستشهاد المفتي الشهيد حسن خالد، هل كان الشيخ الراحل في حالة حذر من عملية اغتيال تطاله، وهل من تهديدات تلقاها؟ ممن؟ وماذا كان يقول عنها؟ ـ حتى نتكلم عن هذا الموضوع، يجب أن تتعرف على شخصية المفتي الشهيد حسن خالد وما هي الأمور الأساسية التي طبعت هذه الشخصية، ومنها: ايمانه المطلق بالله سبحانه وتعالى، وبالقضاء والقدر، تربيته الإسلامية والعربية المحافظة جداً. دراسته لعلم المنطق والتوحيد التي تركت أثراً على مناحي تفكيره وطريقة عمله وأسلوبه وسعة صدره بالاستماع وقدرته على الحوار ومفهومه للوطنية الصادقة والعروبة المنفتحة. فهذه الأمور أثرت في كل عمل كان يقوم به إن من خلال توليه منصب الإفتاء، في أصعب فترة من تاريخ لبنان أو من خلال عمله في مختلف المناصب التي تولها وصولاً الى الدور الذي كان يقوم به خلال الحرب والذي كان يتنوع بين ما هو ديني وما اجتماعي وما هو سياسي وما هو وطني ومن هنا كان يعلم دقة المرحلة وخطورتها وكان يعلم تماماً مدى الأخطار التي تحيط به. كان الشيخ الشهيد يعيش جو التهديدات والتحذيرات والأخطار التي كانت تحيط به وكان يستقبل الكثير من حملة الرسائل سواء الصادقة او المبطنة او المحذرة الا انه كان دائماً يرفض فكرة الخوف وكان متمسكاً إلى أبعد الحدود بإيمانه برب العالمين وبإيمانه بوحدة هذا الوطن ووحدة بنيه مهما كان الثمن. • ممن كانت تأتيه هذه التهديدات؟ ـ كانت كما قلت تصله عبر أشخاص وعبر رسائل أخرى تنوعت ووصلت في وقاحتها الى قصف ومحيط منزله ومحيط دار الفتوى وصولاً الى الطريق التي كان يسلكها يومياً. غير أن رده الدائم كان (قل لن يصيبنا إلى ما كتب الله لنا) وإلى ذلك الحين لن نتنازل عن حقنا وعن كرامتنا وعن تأدية مسؤولياتنا الوطنية مهما كانت الظروف والأوضاع. • أجهزة الاستخبارات السورية، كانت يومها برئاسة اللواء غازي كنعان... هل كانت تأتيه تهديدات بواسطة اللواء كنعان؟ ـ لم تكن تهديدات... • نصائح؟ ـ كانت تأتيه نصائح متعددة ومن عدة جهات منها ما هو حريص ومنها ما هو ملتبس غير أنه كان يملك ما يكفي من القدرة على تحليل الأوضاع وتظهيرها في الشكل الصحيح. • ممن؟ ـ من عدة جهات داخلية وخارجية. • من كان ينقل له هذه الرسائل هل كانوا لبنانيي؟ ـ كما قلت كانت الرسائل تصله من عدة جهات بينهم الحريص وبينهم الخبيث، غير أنه كان قادراً على التمييز. • مثل من؟ ـ بينهم من يعمل في الأجهزة المتعددة وبينهم إعلاميين وبينهم من يتعاطى الشأن السياسي والاجتماعي وبينهم من كان يتعاطى في الشأن الدبلوماسي. وغيرهم إلا أنه رحمه الله كان متمكناً من معرفة الصادقين ومن معرفة كوامن الأمور وخبايا المآرب والأهداف. • هل كان ينقلون كلاماً مباشراً من اللواء كنعان بأن يكون حذراً؟ ـ كانوا ينقلون كلاماً من عدة اتجهات كما قلت غير أن المصدقية في الأمر كان يعود الى مدى تقبله من سماحة المفتي رحمه الله. • رسائل من الرئيس الأسد ومن نائبه؟ ـ كان تصل رسائل متعددة ومن جهات عديدة من منظمات ومن دول وقيادات وغيرهم: بعضه مشكوك في أمره وبعضه الآخر نتركه للتاريخ. • واعتبرت نوعاً من التهديد؟ ـ كان بعضها يحمل حرصاً وبعضه يحمل التهديد المبطن وبعضه يحمل التحذير وبعضه يحمل المساعدة غير أنه يبقى أمر المصداقية لا يمكن أن نبت بأمره لانه كان ملك سماحته رحمه الله كان يحتفظ بدقة المعلومات وحساسيتها لنفسه حتى لا تستثمر باي اتجاه خاطئ. • هل تواصلت اللقاءات التي كانت تتم بينه وبين المسؤولين وخاصة الرئيس الأسد؟ ـ كان المفتي يعقد لقاءات عديدة مع الكثير من القيادات العربية ومن بينها الرئيس حافظ الأسد، وأذكر أن لقاء عقده المفتي مع الرئيس الأسد حدث بعد انقطاع طويل وقد فوجئ والدي بكون اللقاء لم يتطرق الى التفاصيل المعقدة والخطيرة التي كانت تحكم الساحة اللبنانية بالرغم من أنه قد تم التحضير له كثيراً وامتداده لساعات وقد خرج المفتي منه متضايقاً لكونه كان يحرص دائماً على أن تقوم سوريا بدور ايجابي في الأزمة اللبنانية وقد كون والدي قناعة بعدها من أنه يعتقد بأنه ربما أن صورة الأوضاع المعقدة في لبنان لم تكن تنقل على حقيقتها الى الرئيس الأسد. كان الرئيس الأسد يحث والدي على ضرورة التشاور معه. • وكأنه تحذير بألا يفعل شيئاً بمفرده؟ ـ الجميع يعرف أن الشيخ حسن خالد ليس من النوع الذي يقبل التحذير إلا في ما هو لصالح الوطن والشيخ حسن كان من أشد الحريصين على الوطن وكان يحرص على التشاور مع سوريا ومع غيرها من الدول العربية ولم يكن التشاور يوماً يتخطى حدود المصلحة الوطنية في لبنان. فقد رسمت المصلحة الوطنية سقفاً لحركة الشيخ حسن خالد وبالرغم من ذلك فقد كان رحمه الله لا يتجاهل عناصر الترابط في الأمة العربية متفهماً بعض ما هو مرتبط بالمصلحة القومية العليا. • لماذا تحدثت عن أن هناك انقطاعاً بينه وبين سوريا، ولماذا حصل هذا الانقطاع؟ وكيف رتب هذا اللقاء؟ ـ الكل كان يعلم بأمر التجاوزات الكثيرة التي كانت تحصل في الشارع اللبناني، خاصة أن خطورة الأوضاع وصلت إلى مرحلة أصبح أمر تحملها يتطلب جهداً وطاقات كان يزيد ندرتها الجو الخطير الذي كان يعصف في لبنان. • أنت تتحدث عن الفترة ما بين عامي 1985 و1989. ـ حتى ما قبل ذلك، كانت العلاقة التي تربط الشيخ حسن خالد بالدولة السورية علاقة تحكمها مصلحة الشعب اللبناني ومصلحة العرب في تلك المرحلة غير أنه كان دائماً يوجد بعض المشاكل والتجاوزات. • وكان يرى أن هناك تجاوزات سورية؟ ـ عندما كان يرى أن هناك تجاوزات، كان يؤمن بأن عليه أن يبلغ عن هذه التجاوزات ويحاول الحد منها لأن المصلحة العامة لنجاح مساعي سوريا لإعادة الوحدة اللبنانية وعودة المؤسسات، كما كنا نعتقد أن دور سوريا في لبنان، هو دور إسعافي لانقاذ لبنان من الطائفية ومن المناطقية، فإذا كان هذه هو المسعى أو الغرض الرئيسي من الوجود السوري في لبنان، فهذا الأمر يتعارض مع التجاوزات وبعض الانتهاكات التي كانت تحدث. • وهذا قبل نظام الوصاية؟ ـ إن نظام الوصايا لا يفرض عادة إلا على من يشعر الآخر بأنه قاصر، إن ما عنيته سابقاً كل التجاوزات التي كانت تتداخل فيما بينها على الساحة اللبنانية وكانت سورية بالطبع احدى أطرافها وكان هناك آخرون. • مع من كان يتكلم الشيخ حسن خالد، هل كان يخاطب اللواء غازي كنعان أم يلتقي مع ضباط سوريين في بيروت؟ ـ كان حريصاً جداً أن يكون لقاءه مع الرئيس حافظ الأسد أو نائبه عبد الحليم خدام. الشيخ حسن خالد شخصية لا تستطيع أن تتعامل مع اجهزة الاستخبارات او مع اي اطراف غير شرعية وبالتالي فإن هذا النوع من التعامل فيما لو كان اضطرارياً لم يكن يلزمه بقول أو بفعل أو بمواقف إلا في ما كان يتوافق مع المصلحة الوطنية.كان المفتي مرجع للمسلمين لم يكن لديه مشكلة أن يقابل أي كان من أجل لبنان، ولكنه لم يكن يستطيع أن يساوم في ما يتعلق بالمصلحة الوطنية، كما أنه كان يرفض التكلم بأمور يعتقد هو بأنها من مسؤولية الراعي الأول. كان يعتقد بأن الكثير مما جرى في لبنان في ذلك الوقت كان يصل الى الرئيس حافظ الأسد، وبأغلبيته كان يصل مشوهاً، كانت تركب الأمور ربما. الشيخ حسن خالد عانى كثيراً من تركيب الأمور كما تعاني منها اليوم، توصيف الناس، وضعهم في خانة الخيانة، كان هذا يضايق الشيخ حسن كثيراً. وأكثر ما كان يضايقه أنه كان يرفض فكرة توزيع شهادات العروبة الشهادات الوطنية على هذا أو ذاك طبقاً للمقاييس والمصالح واللواءات فقد كان رحمه الله جازماً في قوله: بأن الوطنية والعروبة مبادئ لا تقبل التأويل أو المساومة أو التلوين. فقد كانت تربيته الإسلامية وتربيته العربية ومعاصرته لعبد الناصر وكل الثورات العربية التحررية في مواجهة الاستعمار ومواجهة ما كان يسمى في ذلك الوقت بالرأسمالية وغيرها أساس في تكوين شخصيته وفي طريقة تصرفه في القول والفعل، وهو عندما وصل إلى منصب الإفتاء، لم يصل إلى هذا المنصب كونه طالب مناصب، بل تولاه نظراً لقناعته بقدرته على فعلٍ شيء ما للصالح الإسلامي والوطني. كان المفتي خيار الرئيس جمال عبد الناصر وإجماع المسلمين في لبنان الذي وجدوا فيه رجلاً صالحاً لتولي هذا النوع من المناصب الدينية الوطنية. • هذا يعني أن جمال عبد الناصر استقبل الشيخ حسن خالد قبل أن يصبح مفتياً؟ ـ نعم، والكثير من القيادات في بيروت رأت في الشيخ حسن خالد الإنسان البيروتي المميز، الذي له بصماته في الشارع البيروتي والشارع الإسلامي، والشارع اللبناني، عبر المنطق، وعبر الجمع، وعبر وحدة الكلمة، فرأوا فيه هذا الرجل الذي يمكن أن يوحد الصف الإسلامي الذي يساهم في وحدة الصف الوطني، وفعلاً نجح. • عودة إلى حواره مع السوريين. اللقاء الأخير، قال له الرئيس الأسد أنه "بيسوى قبل أن تعمل شيئاً أن تراجعنا" كأنه ضابط مخابرات يوصي أحد أتباعه، ألا يفعل شيئاً إلا بأمره قبل هذا اللقاء حصل انقطاع، لماذا هذا الانقطاع بين المفتي الشهيد والرئيس حافظ الأسد؟ هل طلب مواعيد ولم تحدد له مع الرئيس الأسد أو مع نائبه؟ ـ في الحقيقة إن كلاً من الرئيس حافظ الأسد والمفتي حسن خالد هم أن بين يدي رب العالمين وللتاريخ عليّ درٍ كبيرٍ من التقدير والاحترام وكان المفتي يبادله ذلك أيضاً. والمفتي خالد ئيس من النوع التي تفضلت وتكلمت عنه بما يتعلق بالتعامل ما بين رجال بالمخابرات ومن يتعاطى الشأن العام فكل من تعامل مع المفتي كان الاحترام سيد الموقف، أما عن الجفاء والانقطاع فهو قد حدث بعد استشهاد الرئيس كرامي وما حصل في دارة آل كرامي حينها. • ماذا حصل يبدو وكأن هناك صداماً حصل مع عبد الحليم خدام؟ ـ في حزيران /يوليو 1987 اغتيل الرئيس رشيد كرامي في أيام عصيبة. كان لبنان يتوقع نوعاً من حالة انتقالية الى الأفضل. • كان هناك حوار بين كميل شمعون ورشيد كرامي وقيل أن هناك اتفاقاً بين الاثنين؟ ـ الساحة كانت مؤهلة لحل ما، فقد كان اللبنانيين يومها كانوا تواقين لأي نافذة ضوء تعيد الأمل وتوقف النزف فكانت تبذل مساعي عديدة من أجل ذلك. • وكان هناك ثوابت إسلامية أعلنها المفتي الشهيد وبالاتفاق مع الإمام محمد مهدي شمس الدين. ـ نعم فقد أعلن الشهيد في أوائل الثمانينات الثوابت الإسلامية العشر، بعد انتخاب الرئيس أمين الجميل، وكان هناك تجاوب من الرئيس أمين الجميل، بعد انقطاع طويل معه أصبح هناك فرصة للحوار وللحل في جو لبناني بمساعدة عربية، هذا الجو المطمئن دعا الشيخ حسن خالد إلى الخروج من لبنان والقيام بجولة عربية لتأمين الدعم لهذا الحل. • من زار؟ ـ زار بعض الملوك والرؤساء العرب، لوضعهم في هذا الجو الايجابي طالباً منهم أن يساهموا بكل امكاناتهم لدفع هذا الحوار، حيث زار السعودية ومصر والكويت والإمارات العربية المتحدة. • هل زار الأردن أو العراق؟ ـ لم يزر العراق نظراً للخلاف السوري – العراقي، وهذا قسم من المشكلة العربية، وتجنباً للحساسيات. اغتيل رشيد كرامي، وكان المفتي خارج لبنان، قطع زيارته للسعودية وعاد الى لبنان، وعند وصوله الى المطار، كانوا يعلمون أنه يريد الذهاب الى طرابلس للمشاركة في التشييع فطلب منه احد الأجهزة عدم الذهاب الى طرابلس مروراً بما كان يعرف بالمنطقة الشرقية من بيروت غير أنه كان مصراً على ذلك فتوالت النصائح وعرض عليه تأمين طائرة مروحية تنقله الى الشمال فرفض وأصر على الذهاب بالسيارة، ليقول لكل اللبنانيين بأن الأراضي اللبنانية هي ارض لكل اللبنانيين، وأن فكرة التقسيم مرفوضة رفضاً تاماً، وأن كل اللبنانيين المتقاتلين هم ابنائي وهم اخواني وانا على استعداد لمواجهتهم ولأثبت للعالم بأن اللبنانيين هم في صف واحد وانما بحاجة الى من يدفع هذه المسيرة الى الوحدة. • كلامه جاء من وحي ما يعتقده اتفاقاً بين الراحلين رشيد كرامي وكميل شمعون؟ ـ اعتقد ان هذا هو اولاً ايمانه لأنه لم يقطع علاقاته مع معظم القيادات المسيحية العقلانية الروحية والسياسية منذ الحرب اللبنانية وحتى لحظة استشهاده. دائماً كان على تواصل تام. كان يقول بأن الحرب هي على الوطن بأجمعه وعلى الشعب كل الشعب بكامل طوائفه وكان يحرص على القول للمقربين منه بأن الحرب عليه وعلى البطريرك صفير إنما هي حرب على الخط الوحدوي في لبنان وحرب على تلاقي اللبنانيين فيما بينهم، وكان يقول لنا بأنه سمع بأن هناك محاولات لاغتياله ولاغتيال البطريرك صفير وكان يتساءل: لماذا تقصف بكركي ودار الفتوى في اليوم نفسه! أنا افهم ان يقصف الإجرام بكركي وحدها في سياق العنف الأعمى والمرفوض المتبادل وأفهم أن يقصف البعض دار الفتوى في سياق العنف المرفوض ذاته إلا أنني لا أفهم كيف تقصف دار الفتوى وبكركي معاً في التوقيت والزمن الواحد. فغادر المفتي إلى طرابلس بسيارته بالرغم من التحذيرات، وفوجئ على الطريق بعكس ما صور له، في كل منطقة كان يمر بها، كانت الميلشيات المتحاربة تقف وتؤدي له التحية وتنزله بالقوة من سيارته وتكرمه أشد التكريم. هذا الأمر أثار حفيظة البعض داخل لبنان وربما خارجه فقد فاجئ المفتي الجميع وفتح موضوعاً كان مطوياً وهو موضوع الحوار. فقد كان الحوار سلعة بيد البعض ليتاجروا بها وليؤججوا الحرب. وكان المفتي يرفض فكرة المتاجرة بالوطن وبالحوار فيه. وصل الشيخ حسن خالد الى طرابلس ودخل منزل الشهيد رشيد كرامي فوجئ بنائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام موجوداً بين القيادات هناك بما فيهم أعضاء من اللقاء الإسلامي وكان الجو مكفهراً كان بعضه يعود في اكفراره الى حادثة استشهاد رشيد كرامي في ما كان بعضه الأخر عائداً في اكفراره وتأزمه الى مناقشة عاصفة حدثت حينها وكان محورها خطوة إسراع اللقاء الإسلامي بتسمية الرئيس سليم الحص خلفاً للرئيس الشهيد كرامي مما أثار حفيظة السيد عبد الحليم خدام الذي كان متحفظاً جداً على ذلك. وكان المفتي خالد ممتعضاً جداً لما حدث هناك وكان ذلك عائداً لتمسكه بأحقية اللبنانيين بأخذ قراراتهم دون تدخل من أحد ما أعطى اللقاء الإسلامي غطاءً شكلت عباءة المفتي خالد سياح أمان سياسي ما جعل الأوضاع تأخذ طابع التأزم. • ماذا رد خدام؟ ـ كان فاجعة استشهاد الرئيس كرامي بخطورتها ورداء الحزن الذي عم لبنان حينها كافياً في تلك اللحظة لإيقاف النقاش الحاد عند هذا الحد وحدث بعده نوع من الجفاء ليتحول لاحقاً إلى قطيعة. • هذا الانقطاع حصل في العام 1987 بعد اغتيال الشهيد رشيد كرامي. ـ نعم بعد هذا التاريخ حدثت القطيعة كان المفتي رجل العيش المشترك، رجل عروبياً بكل معنى الكلمة ولكن عروبته لا تقف عند سورية بالرغم من أهيمتها للبنان ولكنها لا تبد أن تشمل الدول العربية الأخرى لأن الهم العربي هو هم واحد مشترك بين جميع أقطار الأمة ولا يمكن أن تنفرد به دولة دون أخرى أو قطرٌ بمعزل عن الآخر، كان الشيخ حسن خالد رجلاً لا يستطيع أن يضبط عروبته من مساحة ضيقة وهذا هو بعده الذي تربى عليه، البعد الذي يتكلمون عنه البعد الجغرافي والبعد التاريخي، البعد العربي، وكانت هذه مهمته في الحياة، كما كان يعتقد، وكان يعتقد أن ما فرقه الاجنبي في الحدود يجب أن يتم تجاوزه بالتواصل وبالمشاركة والحوار بين جميع الدول العربية. كان يعرف أهمية التاريخ وأهمية العلاقات الجيدة التي يجب أن يمتاز بها لبنان وسورية وكان يعترف بأهمية المصالح المتبادلة بينهما غير أنه كان حريصاً أن يتم ذلك ضمن المصلحة الوطنية في كل من البلدين في جوٍ أخويٍ وصريح ومتواز. • فماذا حصل من مظاهر العداء السوري للشيخ حسن خالد، ما الذي ظهر منها؟ ـ كان هناك جفاء وكان هناك انقطاع ولم يكن للعداء مكاناً في قاموس الشيخ حسن خالد تجاه العالم العربي أو تجاه أي دولة عربية يومها وكان في أقصى الظروف يعمل على التواصل من أجل المصلحة الوطنية والمصلحة القومية. كانت جهوده تثمر حيناً وتذهب هدراً أحياناً ولم يثنيه ذلك يوماً عن التنازل عن فكرة الوطن الذي يريد وفكرة العروبة التي يفهمها. في هذا الجو كان هناك دائماً من يأتيه بالنصائح. • من الذي كان يحمل هذه النصائح؟ ـ العديد من الحريصين كان يأتون الى الشيخ حسن بالنصائح وبالرسائل فكان يلقى بعضهم تفهماً وكان بعضهم الآخر يذهب في سبيله وتطور لاحقاً الوضع في لبنان لتصبح الدائرة التي يتجول ضمنها المفتي خالد هدفاً في الصراع الذي كان يتخبط بها لبنان حينها، فكان القصف يطال محيط منزله ومحيط مكتبه في دار الفتوى والطريق التي كان يسلكها يومياً. كان هذا القصف نوعٌ من الرسائل الخطرة التي كانت تودي بالكثير من الأبرياء وتقض مضاجع المفتي حزناً عليهم الذي سمع يقول يوماً الى العديد من زواره: إذا أرادوني قتلي فليقتلوني ولكن لماذا قتل الأبرياء؟ هذا النوع من الرسائل التي تحمل الجرأة والمرارة في مضمونها أرسلها المفتي الى كل من يهمه الأمر. • هل ارسل الى سوريا من يبلغهم ان هذا هو رأي الشيخ حسن خالد؟ ـ لقد قلت لك أن هذا النوع من الرسائل أرسل الى الجميع. • من كان يرسل؟ ـ كان هناك العديد من المتطوعين في حمل الرسائل في اتجاهات مختلفة وكان المفتي خالد يلجئ اليهم لتسمية الأشياء بأسمائها دون مواربة او مساومة فقد كانت الجرأة تحكم افعاله واقواله ولم يكن يخش سوى رب العالمين. • ما هي واقعة الحديث الذي نقل على لسان السفير الكويتي احمد الجاسم الذي قال فيه أن المفتي أخبرني، وقبل أنها أدت الى اغتياله. ـ في هذا الجو زار السفير الكويتي أحمد الجاسم سماحة المفتي في دار الفتوى، فأخبره بما يحصل وبما حصل خلال الأسابيع الماضية وبأن القصف هو قصف مركز يطال دار الفتوى ويطاله شخصياً ويطال منزله وردد له أيضاً استنكاره لقتل الأبرياء مردداً جملته مجدداً: إذا كان البعض يريد قتلي فليقتلني ولكن ما ذنب المواطنين الأبرياء ليقتلوا. وأذكر حينها أن جدالاً حدث في البلد حول مصدر القصف. • كأنه يقول لهم، لا تقصفوا، بل اغتالوني وحدي. ـ كان المفتي خالد يردد دائماً قول سبحانه وتعالى "قل ما يصيبنا إلا ما كتب الله لنا". غير أن همه كان حياة المواطنين. • ومع ذلك عندما استشهد، استشهد معه حوالى عشرة أشخاص وبينهم شقيق عماد الترك وابراهيم الترك من ابناء المنطقة وآخرين. عندما تبلغ الشهيد حسن خالد أن يرحل من لبنان، ماذا كان رده؟ ـ جاءه من نصحه بالمغادرة الى فرنسا للإقامة هناك فما كان منه إلا أن رفض الفكرة مشدداً بأنه لن يغادر البلد لأي سبب كان، وبأنه سيبقى في لبنان بين الناس يناضل معهم ويشاركهم أحاسيسهم ومشاكلهم ومصائبهم وأن هذا قرار لن يعود عنه مهما كلف الأمر. • اغتيال الشهيد في 16 أيار/مايو 1989 خلال ما اطلق عليه (حرب التحرير) من عون ضد السوريين، أو الحرب التي سميت بـ(حرب عون)، هل كان هناك تواصل بين المفتي الشهيد وبين ميشال عون؟ ـ بعد تعيين الرئيس أمين الجميل للعماد ميشال عون لتشكيل حكومة، نشأ كما نعلم جميعاً وضع شاذ، وكان ينذر بتقسيم لبنان خاصة بعد وجود حكومتين فيه، كان المفتي خالد متضايق جداً من هذا الوضع الخطير وكان يعمل جاهداً لإنهائه بأقل قدر من الخسائر منعاً لتقسيم لبنان وتدويل أزمته. هذا ما كان يسعى إليه المفتي وهكذا وأمام هذا الوضع، كان المفتي هو الانسان العاقل الذي يتعاطى مع وضع ميشال عون وسليم الحص (أي الحكومتين اللتين كانتا موجودتين) بشكل يساعد على التخفيف من أي أزمة يمكن أن تتسبب في زيادة الشرخ بين اللبنانيين كان المفتي دائماً رجل الحوار الدائم. • هل اتصل بميشال عون؟ ـ هناك اتصالات بين الشهيد وبين ميشال عون. وكان هناك سعياً لترتيب أمرٍ ما بينهما ولكنه لم يستكمل بسبب اغتيال المفتي الشهيد. • هل كانت هناك محاولات للقاء؟ ـ كانت هناك محاولات عديدة، وكان هناك اتصالات مباشرة وغير مباشرة، كان هناك نوع من الارتياح لدى المفتي الشهيد حسن خالد على أن ميشال عون يمكن وبعد أن أصبح الأمر واقعاً يمكن أن يشكل فرصة ما لتفاهم ما يمكن أن ينقل البلد من هذه المرحلة الخطيرة إلى مرحلة من الهدوء الذي يمكن أن يسمح للبنانيين بالتلاقي والتفاهم فيما بينهم حول أي مستقل يريدون لوطنهم في إطارٍ من الوحدة الصلبة أرضاً وشعباً ومؤسسات. كان المفتي يرى انهياراً للمؤسسات وتشرذماً من الشعب والأرض والمؤسسات لذا كان يعتقد بأن ربما كان ميشال عون ونتيجة للأوضاع المستجدة يمكن أن يساهم انطلاقاً ببعده العسكري وتربيته العسكرية في البدء بالعمل على تفاهم ما مع سائر الأطراف للانتقال بالبلد إلى حول الجنرال عون الى طرف في الصراع بإرادته أو ربما بغير إرادته ما جعل لبنان يفقد حينها فرصةٌ كانت ربما لو توفر لها المزيد من الجهود لساهمت في تخفيف الخسائر عن وطنٍ كان يعاني الويلات والمرارة. • هل كان يؤمن بدور المؤسسة العسكرية الوطنية اللبنانية في مواجهة الميليشيات؟ ـ كان المفتي رجل مؤسسات وكان أول من أنذر في بداية الحرب بالانتباه الى المؤسسة العسكرية بأنها هي صمام الأمان الوحيد لعدم انهيار لبنان، ويومها طالب بمجلس عسكري من مختلف الطوائف حتى لا يصار الى تقسميه، ولكن في وقتها لم ينتبه أحد الى هذه المشكلة. • كان هناك مشروع فلسطيني لتقسيم الجيش وهذا ما حصل، بالمناسبة هل حصل صدام بين المفتي الشهيد وبين المنظمات التي كانت تسيطر على لبنان؟ ـ لا شك بأن ايمان الشيخ حسن خالد بالقضية الفلسطينية هو الذي دفعه في البداية الى نصرة ومساندة العمل الفدائي الفلسطيني، إنما عندما تجاوز العمل الفلسطيني حد التدخل في القضايا اللبنانية الداخلية، اصطدم الشهيد حسن خالد مرات عديدة مع الرئيس ياسر عرفات رحمه الله، شخصياً، وحذره بأن ما يفعله هو خطر ليس على لبنان فقط وان على القضية الفلسطينية على وجه الخصوص. • هل هدده الفلسطينيون؟ ـ الفلسطينيون ضايقوا الشهيد حسن خالد كثيراً. • كيف؟ ـ في تحركاته وأعماله وبعض الأمور السياسية في لبنان التي كانوا يتدخلون بها. كان المفتي خالد يرفض دائماً فكرة تدخل غير اللبنانيين بالشؤون اللبنانية سواء كان هذا الغير عربياً أو دولياً. • كيف أمضى الأيام الأخيرة من حياته وهو يتنقل من مكان إلى آخر، تحت القصف، هل جمعكم وأوصاكم بشيء؟ هل نبهكم إلى أنه قد يغتال، وهل كتب وصية سياسية او شخصية على هذه القاعدة؟ ـ رحمه الله، كان يشعر بأن هناك من يضمر له الأذى وأنه كان عرضة للاغتيال في أي وقت ولكنه كان يؤمن بأن الموت قدر محتوم وإن قدر الإنسان لا يؤجل ولا يقدم، لذلك كان يقول دائماً أن على الإنسان أن يجاهد ويعمل إلى أن يأذن الله بأمر كان مفعولاً. كان يعلم بأن هناك من سيحاول اغتياله ولكنه لم يكترث. • لن تكون محاولة... بل اغتيال؟ ـ كما قلت محاولة الاغتيال أو محاولة لإرهابه فهو لم يكترث ولم يتراجع قيد أنملة عن ما هو مقتنع به وكان على دراية بأن أيدي الغدر والظلام تملك ما يكفي من تقنيات ووسائل شيطانية لإلحاق الأذى بشكل محكم بكل من يعمل من أجل المصلحة الوطنية في لبنان. • تماماً كما فعلوا في عملية الشهيد الرئيس رفيق الحريري؟ ـ صحيح، وليس هذا فقط بل كان هم الشيخ الشهيد حسن خالد وهو العارف بخطورة الأخطار المحيطة به بأن لا يذهب معه ضحايا، هذا كان همه الوحيد حياة الناس الأبرياء. • الشهيد في هذه الحالة وهو مدرك وواثق انه سيقتل الم يبحث عن نقطة لقاء، لقطع الطريق على محاولة اغتياله، مع السوريين مثلاً، أو ألم يطلب حماية عربية من المملكة العربية السعودية وأصدقائه هناك، من مصر من الكويت ألم يحاول فتح حوار؟ ـ في ظل تلك الظروف بما فيها من تعقيدات وأخطار كان المفتي على قناعة بأن ما قام به كان دائماً لمصلحة لبنان والعرب وأنه في ظل هكذا نوع من الأوضاع المحاطة بالضباب لم يعد بالإمكان فعل أي أمر آخر يمكن أن بقي الإنسان من أن يلاقي قدره. • هل تعتقد أنه كان يخشى في تلك اللحظة أن يقدم تنازلات عن أفكاره ومبادئه؟ ـ لم يكن التنازل أمراً وارداً في طريقة تصرف المفتي فيما يتعلق بالشؤون الوطنية: كانت الثوابت الوطنية لديه مقدسة ولم يكن يقبل الحوار إلا من أجل تطوير الأوضاع في لبنان نحو الأفضل: لم يكن رحمه الله من هواة تضييع الوقت أو تضييع الفرص: وهو من أجل الحوار كان يتصل بالجميع وكان الجميع يتصل به. • ألم يتصل به مثلاً اللواء غازي كنعان؟ ـ لقد قلت لك سابقاً بأمر الجفاء والقطيعة التي حدثت بعد استشهاد الرئيس كرامي. • هل كان عندما تحصل تجاوزات يتصل بالسوريين ولا يجيبونه هاتفياً مثلاً؟ أو يرسل أحداً ولا يستقبلونه؟ ـ كان دائماً حريصاً على علاقته مع كل المسئولين العرب السوريين وغيرهم، وبحكم هذه العلاقة، كما ذكرنا، الواقع اللبناني ومصالح اللبنانيين، لم يكن يتصل بالسوريين أو بغيرهم لمصلحة شخصية أو لمأرب خاص أو لوضع، لا سمح الله، خارج عن إطار مصلحة اللبنانيين جميعاً.
• البلاد العربية كلها، تقريباً، حذرت الرئيس الشهيد رفيق الحريري قبل اغتياله، هل جرى تحذير المفتي الشهيد حسن خالد عربياً؟ ـ كان هناك معلومات عديدة وصلت إليه من جهات متعددة من الداخل والخارج وكان هناك الكثير من الرسائل والنصائح غير أنه لم يكترث وبقي يعمل وكأن شيئاً لم يكن. كان المفتي حسن خالد حريصاً على التواصل مع جميع الأطراف اللبنانية الإسلامية والمسيحية وهو كان وخلال الحرب التي عصفت بلبنان على تشاور دائم مع الإمام موسى الصدر ومع الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله والبطاركة خريش ومن ثم صفير وسائر البطاركة والمطارنة والعلماء المسلمين وكان أيضاً على تواصل مع كل من كان يبذل جهوداً من أجل وأد الفتن في لبنان كان المفتي خالد لا يتردد في الاتصال بأي كان من أجل لبنان وربما كان هذا الأمر يثير حفيظة البعض الذين كانوا ربما يريدون من الشيخ حسن خالد أن يقبع في منزله ليثبت أيام العيد ويكتفي بذلك فقط كان يقول دائماً بأن تأدية المسؤوليات أمانة وطنية وأن تأدية الأمانات إلى أهلها واجب مهما بلغ الثمن. لم يكن المفتي يسكت عن الآم المواطنين وأوجاعهم وعن المصائب التي كانت تصيبهم من جراء الحرب والاقتتال الميلشياوي وكان يرفض فكرة الهيمنة وكان يردد دائماً بأن أهل مكة أدرى بشعابها، وكان ضد الميليشيات وضد السلاح الغير الشرعي، وكان يبحث دائماً عن وطن المؤسسات في وطنٍ ضاع فيه كل شيء. • لنتكلم عن المفتي بين أسرته: هل جلس إليكم المفتي حسن خالد في تلك الفترة الحرجة التي كانت تصله فيها تهديدات هاتفية أو رسائل مباشرة. وقال لكم استودعكم لأنني معرض للاغتيال، هل قال لكم من الذي يهدده، هل ذكر أن سوريا التي ستغتاله؟ ـ إن الإيمان بالقضاء والقدر يهنئ الإنسان على القبول بكل ما قدره له الله تعالى وأن كل إنسان يعمل في الشأن العام أو مناضلاً في قضية ما لا بد وأنه معرض لأي حدث في أي وقت فما بالنا وأن هذا الرجل هو المفتي حسن خالد صاحب المبادئ الوطنية الذي كان إلى جانب العديد من الشخصيات الوطنية الذين يحملون غصن الزيتون في مواجهة الحديد والنار، عاش معنا في أيامه الأخيرة وكنا نشعر بأنه في صفاء تام مع نفسه ومعنا كان يعبر عن محبته لأسرته بشق الطرق والوسائل ويظهر عمق إنسانيته تجاه الكثير من المسائل الدنيوية ورقته وتواصله الدائم مع إيمانه بالله سبحانه وتعالى هذا الرجل الذي حرم من ممارسة حقيقية في بيته ومع عائلته كان يطوف بيننا ويذكرنا أنه ربانا على الصدق وعلينا أن نحافظ على الصدق ويقول ربيتكم على الإخلاص فحافظوا على الإخلاص ربيتكم على الإيمان فكونوا مؤمنين، ربيتكم على حب الوطن فحافظوا على هذه المبادئ وكونوا وطنيين كان يذكرنا بالصلاة وبمسيرته، ويسألنا هل أخطأت معكم في شيء؟ فإذا فعلت فهو من فعل محبتي لكم وحرصي عليكم. • دمعت عيناك يا أبا حسن. ـ الحمد لله.. وكان يوصينا دائماً بتأدية الأمانات إلى أهلها وأداء زكاة المال لأنه يساعد في ظهره وتنميته، وفي منزله في منطقة عرمون، وكان حريصاً على أن يجمع العائلة يوم الأحد، وقبل اغتياله بيومين، جمع العائلة كلها، شقيقاتي وبعولهن، خالاتي وعماتي، جمعهم في عرمون وقام بصنع حلوى (الكنافة) بيديه ووقف معهم يتحدث في أمور الحياة ودور الإنسان في هذه الحياة، كيف يموت الإنسان ويكون راضياً. • خطبة وداع! ـ وكأنها خطبة وداع، ردد كثيراً مواضيع دارت حول الغرض الأساسي من الحياة وخلق الإنسان ودوره في الحياة وأن لكل أجل الكتاب وأن الحياة فرصة للإنسان ليثبت قدرته على العطاء، وقف ناظراً إلى بيروت وتأملها وقال هذه المدينة حافظوا عليها بمبادئها لا تغيروا فيها ولا تقاليدها. ويوم الاغتيال ترك مفاتيحه في خزانة والدتي وفيما بعد اكتشفتها. • عادة كان يأخذها معه؟ ـ مفاتيح منزله طبعاً، كان يضعها في جيبه دائماً والظاهر أنه تركها يوم الاغتيال. • عامداً؟ ـ كان الأمر مثيراً للتعجب لم يحدث هذا الأمر قط قبلاً كانت المرة الأولى التي يتركها في المنزل ويخرج. بعد الاغتيال فتحت والدتي خزانتها فوجدت المفاتيح في مكانها، وهنا فيما يتعلق بذلك اليوم المشؤوم وعلى العكس ما ترد حينها فإني أؤكد بأننا عندما انتشلنا جثة الشهيد لم تكن محترقة كما تردد على بعض الألسن فقد أصيب بشظية واحدة في الرأس وتسببت بالوفاة الفوري. ما زلت منذ ذلك الوقت أحتفظ بساعته التي كان يضعها في يده وجواز سفره. • لماذا كان جواز سفره في جيبه؟ ـ كان يستعد للذهاب الى المملكة العربية السعودية، لمتابعة ما سبق أن طلبه من العاهل المغربي بشأن عقد قمة عربية من أجل لبنان. كان المفتي يسعى بكل جهد وكد من أجل لبنان الوطن وكان أيدي الشر تعمل في الخفاء لملاقاة سعيه وتعطيله: اغتيل المفتي خالد قبل عشرة أيام من انعقاد القمة العربية التي انعقدت في الدار البيضاء وكان رئيس المؤتمر والداعي إليه العاهل المغربي الحسن الثاني من أكثر المؤتمرين حزناً على الشهيد الكبير إذ قيل لنا أنه صعق عندما بلغه اغتيال المفتي الرجل السمح الذي كان أحد أبرز رموز الاعتدال في لبنان، والداعي القوي لاعادة اللحمة إلى شعبه وأرضه. كما حزن الملوك والرؤساء العرب، ان معظمهم اذا لم نقل كلهم: عرفوا الراحل الكبير، والتقوه مرات عديدة، وعرفوا فيه الاعتدال وبعد النظر في الأمور الوطنية وساعياً قوياً إلى اعادة السلام والوحدة في لبنان. • هل تعتقد أن أحداً منهم ما زال موجوداً في السجون السورية؟ ـ الأمر لم يكن محصوراً فقط بالسجون السورية كان هناك الكثير من السجون التي تطبق العقوبة على الأحرار وعلى الوطنيين وعلى من يبحث عن وطن أفضل. • هل اتصل أحد من المسؤولين الأمنيين السوريين بكم بعد استشهاد المفتي حسن خالد؟ ـ لم يتصل أحد. • وبعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري جاء نائب الرئيس عبد الحليم خدام ليؤدي واجب العزاء. ولم يأت أحد رسمياً... ـ إلى دار الفتوى جاء الكثير من الشخصيات السورية، أما إلى منزلنا فلم يأت أحد. • كيف فسرتم هذا الأمر، هل رفضتم استقبال احد من المسؤولين السوريين كما رفضت أسرة الرئيس الحريري استقبال احد من المسؤولين السوريين؟ ـ لا نقفل دار المفتي أمام أحد، إننا نحافظ دائماً على القيم التي ربانا عليها المفتي ولم تكن بيروت في ذلك الوقت تتحمل المزيد من الضغوط والحساسيات والجميع يذكر ما كان يحدث في تلك الأيام التي عصفت ببيروت ولبنان لذا كنا حريصين دائماً في ذلك الوقت على عدم القيام بأي خطوة يمكن أن تفسر في هذا الاتجاه أو ذاك ويمكن أن تتسبب لأهلنا في بيروت ولبنان المزيد من المآسي التي كنا بالتأكيد لا نبحث عنها. • خسرتم الشهيد المفتي وسكتم؟ ـ لم نخسر المفتي وحدنا لقد كان خسارةً وطنية وعربية وإسلامية وإن الصمت لا يفسر دائماً بأنه نوع من الضعف أو الخنوع فالصمت في المحن يعتبر من أشد المواقف تعبيراً. لذا فإننا وسط الجو المحزن والغاضب حينها ارتأينا تجميد بعض الاتصالات مع بعض الأطراف التي كان المفتي خالد على تواصل معها وقد كانت غايتنا من ذلك تهدءة الأمور لتمرير هذا الوضع الصعب دون تسبب بالمزيد من المصائب. • ولكن حصل بعد ذلك اتصالات بينك وبين مسؤولين سوريين: هل جربت أن تفتح حواراً حول هذا الموضوع معهم؟ ـ وجود سورية في لبنان كان واقعاً لم يكن أحداً قادراً على تجاهله فقد كانت الحياة السياسية في لبنان على تماس وعلى تقاطع مع الحركة السياسية في لبنان. ونحن لم نكن العداء لسورية ولن نكون كذلك. لذا في العام 1992 حدثت بعض اللقاءات مع السوريين من اجل توضيح بعض المواقف التي كانت تثار حولها الغبار. من أجل ذلك كنت حريصاً على عدم التسبب بما يمكن أن يحوله البعض في الشارع أو في غيره بطريقة خطأ يمكن أن يستشف منه البعض استفزازاً لهذا الطرف أو ذاك بما فيهم السوريين. • اعتبر استفزازاً للسوريين؟ ـ كنا حريصين على إكمال مسيرة المفتي: تلك المسيرة الوطنية التي عاش المفتي وعمل واستشهد من أجلها لم نكن نرغب باستفزاز احد في لبنان أو خارجه ولم نكن نبحث عن ما يمكن أن يساهم في تعقيد الأمور هذا هو موقفنا وهذا ما كنا نوضحه لجميع الأطراف بما فيهم السوريين. ومن هذا المنطلق حصلت لقاءات مع النائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام في دمشق. • هل حاول أن ينفي أمام مسألة اغتيال والدك الشهيد؟ ـ لقد نفى السيد خدام أي علاقة لسورية بحادثة اغتيال والدي كما أن مسؤولين آخرين نفوا ذلك أيضاً وكنت أتكلم مع السيد خدام في تاريخ العلاقات بين لبنان وسورية وفي الدور الذي لعبته ببيروت على مدى تاريخه الحديث وعن مدى تثبت أهل بيروت بالعروبة. • لم يكن يحب البيارتة؟ ـ كان يعتقد أن بيروت هي جامعة الوطن بكل أطيافه وكنت أشدد أمامه أن أي حل للأزمة في لبنان لا بد أن ينطلق من بيروت لأن بيروت هي صورة مصغرة عن الوطن. • هل قابلت الرئيس بشار الأسد؟ ـ قابلت الرئيس بشار الأسد قبل استلامه منصب رئاسة الجمهورية. • ألم يتطرق الى موضوع استشهاد الشيخ حسن خالد؟ ـ تطرقنا الى عدة مواضيع تهم المواطن العربي وعندما قابلت الرئيس بشار لم يكن بعد يتولى مسؤوليات في سورية، كان يتحدث عن التضامن العربي وعن الهموم العربية بما فيها هموم المواطنين على مختلف أقطارهم وأعتقد أن هذا النوع من الأحاديث لا بد أن يلقى تفهماً واهتماماً من جميع أطياف الأمة العربية لكون المستقبل هو واحد مهما حمل الحاضر من خلافات وانقسامات. • هل جرت مقارنة يوماً ما في الحوار بينك وبين عبد الحليم خدام، بعد اغتيال الشهيد كمال جنبلاط فقد قلت لك أن السيد خدام نفى بشدة أي علاقة لسورية بعملية اغتيال والدي قائلاً لي بأنه كان غاضباً جداً بما حدث. أما فيما يتعلق باستشهاد كمال جنبلاط فلم نتطرق لحادثة الاغتيال ذاتها بالرغم من تطرقنا الى تاريخ العلاقات التي كانت تربط بين سورية والعديد من الأطراف في لبنان بما فيهم وليد جنبلاط وقبله والده الشهيد كمال جنبلاط. • كان خدام يقول لك تمشي على طريق وليد جنبلاط؟ ـ لقد قلت لك بأنه كان يسرد لمحة تاريخية عن علاقة سورية بلبنان خاصة بالحقبة التي كان فيها لبنان ضحية الحرب. • بالإجمال كيف تصف علاقة المفتي الشهيد بالسوريين؟ ـ كانت علاقته بالرئيس الأسد ونائب الرئيس السوري خدام قبل الاجتياح الاسرائيلي لبنان جيدة جداً وبقيت بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان فقد كان المفتي خالد يعتبر سورية عمق لبنان الطبيعي ويعتبر أن لبنان هو نافذة سورية على العالم لذا كان المفتي خالد يحاول التوفيق ما بين العمق والنافذة في إطار من التوازن في العلاقات الأخوية بين الدولتين في إطار السيادة لكل منهما مع تفهمه لضرورة التنبه الى المصالح المشتركة والأهداف المشتركة والتي هي أهداف لا تنحصر في سورية ولبنان بل تعداها الى العالم العربي مع اعطاء العنصر الجغرافي في أولوية في تميز العديد من الأمور. • انت كإبن الشهيد وكسياسي وانسان لمن تحمّل مسؤولية اغتيال الشهيد حسن خالد؟ ـ الى الذين كانوا يريدون اللاعقل، اللامنطق، اللاحوار الذين كانوا يريدون وطناً ممزقاً ليس فيه مؤسسات ولا قوانين بل زعامات تتبع الغريزة وليس العقل، أعداء الحرية والوحدة والعيش المشترك. • هذه القمة التي حصلت وأدت الى اللجنة الثلاثية تم اتفاق الطائف؟ ـ نعم، ولكن للأسف وصلت الرسالة بعد اغتياله بيوم واحد، وافق ملك المغرب على استقبال قمة عربية لهذا الغرض، يومها وقف الملك الحسن الثاني، كما اذكر، وقال لقد خسرنا رجل الحوار ورجل محبة وداعي سلام وايمان في احلك الظروف التي يعيشها لبنان وتعيشها الأمة العربية لذلك ندعو اللبنانيين ان يحذوا حذوه وان يمشوا على مسيرته وان يمشوا على خطاه لأن لبنان لن يستقيم الا بهكذا رجال. • عند اغتياله هل خرجت تظاهرات تشييع هل حمّل المتظاهرون مسؤولية علنية لسوريا عنه؟ ـ بالتأكيد كان هناك غضب عارم وقد اتجهت انظار الشارع بغضبه نحو سورية: لقد كانت سورية أحد أهم الممسكين بالأمن في ذلك الوقت بشكل مباشر أو غير مباشر وكان الكثير من الضباب يحكم الأجواء السياسية في ذلك الوقت وكانت قطيعة تحكم العلاقات بين المفتي خالد وسورية في ذلك الوقت ولا أعرف إلى أي مدى أستطيع به أن أحدد أنا سعد الدين خالد مسؤولية الجهة التي تقع عليها الكارثة التي حلت بنا. إلا أنني أترك هذا الأمر للتاريخ. • كانت هناك حرب علنية في بيروت بين عون وبين سوريا؟ ـ كان المفروض أن يحمل أحدهما المسؤولية. • لماذا لم يحمّل الشارع المسلم الذي كان يشيع المفتي الشهيد، ميشال عون مسؤولية الاغيتال؟ ـ لأن الفترة التي سبقت الاغتيال شهدت نوع من الجفاء والقطيعة كما قلت سابقاً بين المفتي خالد وسورية، الشارع اللبناني كله مسيسٌ وكان على دراية بما كان |