ماذا عسانا نقول في ذكرى غيابك عنا، وقد أصبحت الأمة بأسرها سائرة في ذات الطريق التي مشيتها منذ خمسة عشر سنة خلت وختمتها بمسك شهادة إلى الله، بعد أن تركت في أرضه شراعاً صلباً لسفينة وطن جهد وثابر وعائد وسط العواصف والأعاصير من أجل أن يبقى واحداً موحداً أرضاً وشعباً ومؤسسات. هو الغياب الذي لم نشعر بوحشيته، لكونك حاضر أبداً معنا بفكرك وصلابتك ومواقفك وطيب كلامك الذي ما يزال يراود النفس لدينا ويهذبها ومعها العقل المستنير دائماً به ذخيرة تزيدنا قوة وتزيد الوطن مناعة والشعب تضامناً، فتعطي المضمون نقاوته والشكل صدقيته والواقع حاجته والواجب التزامه والحق قدسيته. ماذا عسانا نقول في هذه الأيام التي نرى فيها مواكب الشهداء تزدحم بها واحات العراق وصحاريه، لتلتقي في الطريق إلى خالقها مواكب عزّ أخرى آتية ومعها أريج الكرامة المعانق عشقاً وفخراً رجالاً (صدقوا ما عاهدوا الله عليه) وأبوا أن يتركوا شوارع فلسطين وأزقتها إلا مجاهدين مكرّمين برضى الله عليهم ومحمولين على أكف المقاومين المنتظرين دورهم في ساحات المجد المسيجة حدودها بأكاليل النصر والشهادة. ماذا نقول ونحن نغرق وسط هذا الضباب الذي يلف العالم الإسلامي المشبع بهذا الصمت وهذا العجز في الحركة عن مواجهة بعض من "ينطقون" باسم الدين وأحكامه ليبرروا أفعالهم، فيلقون بالاتهامات والافتراءات ذات اليمين وذات اليسار، ويحركون أيديهم في أرجاء أرض الله الواسعة ودون مراعاة للحرمات أو للمصالح الدينية أو القومية أو الإنسانية. ماذا نقول ونحن نقبع في ظل هذا الجو القاتم المخيم على عراق العرب والمسلمين، الحامل معه بذور إحياء فتنة كامنة بين أسلحة محتل ظالم، جاء بها من مخلفات ماضي ثكل به المسلمون بفعل جهل الجاهلين وطيش الضآلين، لتكون أساساً لأمجاد غد يريد بناءه فوق عرق المسلمين ودمهم وقبورهم، لتكون مستقراً له وحصناً استعمارياً صلباً يؤمن من خلاله السيطرة الآمنة على المغانم والثروات. وكل هذا يجري ولا نرى مواجهة أساسية وفعلية له، لا على الأرض ولا في النصوص، ولا نعرف لما كل هذا التقاعس عن القيام بالاجتهادات العصرية اللازمة والضرورية لزيادة مناعة الوحدة بين المسلمين بعد أن أصبح المعتدي مفترشاً بعدوانه وجهة قبلتهم من كل ناحية وخطوط تواصلهم من كل حدب وصوب. ماذا نقول ونحن نرى جزار القرنين شارون يتطوع مستفزاً المجاهدين في فلسطين باغتيال قادتهم بحثاُ عن ثأر يؤمن له "ركيزة" هادئة لصناديق اقتراع اميريكية تبحث عن تجديد زمن آخر من الجنون، لم يجد لها ما يثبت هدوءها سوى في خلق توازن مدفوع الأجر ما بين النعوش الإسرائيلية التي يمكن أن تتراكم بفعل الثأر والنعوش الأمريكية التي يمكن أن تتزايد بفعل المقاومة، ما يسمح في تشريع ما لم يعد له شرعية، وتبرير ما لم يعد له مبررات. ماذا نقول وقد أصبحت دول الطوق المحيطة بالعراق بعربها وعجمها بحاجة إلى طوق يحميها من سيف الإرهاب والابتزاز المسلط فوقها لمنعها من مد يد العون لضحية يتلذذ الوحش في إهانتها قبل أن يفترسها ويرمي عظامها فتات ليرسم به دربا لخنوع أمة واستسلامها. ماذا نقول وقد أصبح الاغتصاب في العراق اغتصاباً للأرض والجسد معاً، وأصبحت الديمقراطية الممنن بها جمعاً للأشلاء والأملاء معاً، وأصبحت الحرية المحرر بها قيداً للأحياء والأموات معاً. ماذا نقول وقد ضاقت أرض الكرامة في فلسطين في عقول مغتصبيها لتصبح "حلا" في جواز سفر، ليس مطروحاً لنجدة شعب، بل بديلا له عن وطن. ماذا نقول وقد أصبحت القمم بحاجة الى قمم لتمهد الطريق اليها بعد أن امتلأت عوائق بفعل صدأ الزمن، وجاءت تحديات الحاضر لتعيد الانتشار ومعه الخوف على تاريخ على وشك أن يصبح في مهب الريح، وجغرافيا على وشك أن تصبح تحت مقصلة التفتيت، وقومية على وشك أن تصبح عارية من ثياب حشمتها ومجبرة على الانعزال في ثياب جديدة داخل أسوار أقطارها. وحدهما قمتان ما تزالان تشعان أملاً بالرغم من كل هذا اليأس المخيم في الأجواء والخوف المعشعش في القلوب: قمة للصمود والجرأة في دمشق، وقمة للتضحية والمقاومة في فلسطين والعراق. وما بين القمتين خيط من التاريخ يجهد العدوان لتقطيعه، وخيط من الايمان يعجز عن تفسيره، وما بين الخيطين لوحة تكتمل خيوطها يوماً بعد يوم لتنقل صورة حية عن واقع يبحث عن النصر أو الشهادة. عزاؤنا، هو في وجود الخيرين من أبناء هذه الأمة التي تكاثر جلادوها وقل المدافعون عنها. دعوتنا، هي الى المزيد من رص الصفوف الوطنية والقومية من أجل تجاوز الصعوبات والمخاطر. عهدنا، هو أن نبقى أوفياء لذكرى الذين قدموا لهذا المجتمع ولم يبخلوا، وقدموا لهذا الوطن ولم يهنوا، وقدموا لهذه الأمة ولم يتقاعسوا، وأن نبقى أوفياء لمبادئك ورسالتك واعتدالك. عهدنا أن نبقى أوفياء للدم الذي قدمته في سبيل نصرة وطنك ووحدة ابناءه ومؤسساته، فلك منا الوفاء الدائم وأمانة العهد بأن نبقى على دربك سائرون. رحمك الله يا مفتي العيش المشترك والإنصهار الوطني وفي جنات الخلد مع الشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا. |