في 16 أيار تطل علينا ذكرى عزيزة على قلوبنا وعلى قلوب اللبنانيين المؤمنين بلبنان الواحد الموحد الحضاري والمشرق ألا وهي الذكرى الثامنة لإستشهاد مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد رحمه الله .
يعتمرني في هذه الذكرى إحساسان : * إحساس بالحزن والأسى والخسارة لرجل كان مثالاً وقدوة في العمل الديني الموحد والوطني الصادق والداعي إلى وحدة الصف والكلمة وما كانت صبغة العيش المشترك إلا عملاً يمارسه في كل حياته وتصرفاته فلم تكن شعاراً يرفعه في بعض الظروف والأحوال. * وإحساس بالفخر والإعتزاز على نهج رسم للمواطنين المخلصين معالم الطريق القويم والصحيح لبناء لبنان الحديث تظلله العدالة والمساواة والقيم الإجتماعية والأخلاقية وتفضيل المصلحة العامة على حب الذات والمشاركة على الإستئثار والتسلط. وإنني في هذه المناسبة لا بد أن أقف عند بعض مناقب الشهيد وهي كثيرة ومواقفه الشهيرة وهي أكثر من أن تحصى. لقد سبر غور القضية اللبنانية فعرفها حق المعرفة ووقف على أسبابها وخفاياها القديمة والحديثة وإطلع على خيوط المؤامرة اليهودية الحاقدة والصهيونية التوسعية والإستعمارية، فكان يرسل الصرخة تلو الصرخة محذراً ومنذراً ويسعى بكل ما أوتي من قوة وحنكة وحكمة لتجنيب لبنان من التقسيم متخذاً المواقف الجريئة التي ترضي الله تعالى والضمير . في خطبة عيد الفطر الشهيرة في الملعب البلدي عام 1983 كانت له المواقف الكبيرة والواضحة حول ما يجري على الساحة اللبنانية وكيف يمكن أن يبنى وطن قويم وسوي. فقال: يخطئ كثيراً من يظن إن قضية تحرير الوطن، وهي قضية المصير، يمكن أن تتحقق بعيداً عن قضية تحرير المواطن الذي يمثل ركيزته الأساسية . فلا سبيل إلى تحرير وطن لا يحتضن مواطناً حراً، ولا كرامة لوطن يفتقد فيه المواطن عزته وكرامته. إن حقنا في وطننا ليس ملكاً يتصرف به البعض، كما يهوى ويشتهي وإن شريعة لبنان الحضاري ، هي شريعة الدين والعقل لا شريعة الهوى والقتل، وهي شريعة اللقاء والحوار لا شريعة الخصام والدمار. وإن في الوطن -على صغر مساحته- متسع لجميع أبنائه على أساس من العدالة وصون الحريات، وإن أية فئة من الفئات لا يمكنها أن تبني لبنان على صورتها، سواء كانت حزبية أم طائفية أم عنصرية. لأن لبنان لا يمكن أن يكون إلا على صورة من التجانس البديع بين جميع طوائفه، تظلله الكرامة وتحفظه فواعد العدالة والمساواة. لا نريد أن تكبر بيروت ليصغر لبنان ، ولبنان الكبير الذي نتمسك به سيبقى كبيراً بمواطنه الكبير في ذاته، والكبير بكرامته . إن رؤية اللبنانيين حول مسألتهم الوطنية ما تزال مهزوزة لم يتكامل فيها الصفاء إذ ما زال فيهم المشرق والمغرب حتى أصبح المواطن بين تشريق هذا وتغريب ذاك، كالعربة المصدعة الجوانب . إن تحرير الوطن ينبغي بالضرورة أن توازيه حركة تحرير المواطن ، وذلك يعني وجوب العمل على تحرير بعض المواطنين أولاً من عقدة الخوف التي تحولت إلى عقدة للسيطرة، وتحرير البعض الأخر من عقدة الغبن التي تحولت فيهم إلى عقدة للإستسلام . إن تحرير المجتمع اللبناني لا يقوم إلا على توازن جديد يقوم ويتكامل بين الطاقات الإسلامية والمسيحية لأن الطاقات المسيحية المتآلفة والقيادات المسيحية الموحدة ، والمؤسسات المسيحية المتكاملة، تبقى ناقصة التحرر، ضعيفة العطاء ، إذا بقيت الطاقات الإسلامية اللبنانية متنافرة، والقيادات الإسلامية متفرقة، والمؤسسات الإسلامية مستضعفة ، وعكس الأمر صحيح في هذا السياق ، ولذلك فإن وحدة المسيحيين اللبنانيين أصبحت مسؤولية سياسية إسلامية ، ووحدة المسلمين اللبنانيين مسؤولية سياسية مسيحية ، ووحدة المسلمين والمسيحيين في وطن واحد أصبحت مسؤولية لبنانية مشتركة. إن دعوتنا لوحدة المسلمين ليست إلا دعوة لوحدة اللبنانيين فنحن الذين رفضنا ونرفض أي شكل من أشكال التقسيم في لبنان ، لا يسعنا إلا أن نعمل لوحدتنا التي نرى فيها وحدة للبنان وقوة له وعزاً لكيانه. أما فيما يختص بالوضع العربي أبان الحرب اللبنانية فقد كان يرى سماحته رحمه الله من خلال ما يجري في لبنان التقصير العربي الكبير ويخشى من جراء ذلك سقوط الأمة بأسرها. فنداءاته الشهيرة التي أطلقها للأمة العربية مناشداً إياها التحرك السريع بإتجاه لبنان لإنقاذه وإلى جامعة الدول العربية للعمل على قضية لبنان حتى لا يتم تدويل قضيته فيضيع ساطعة كنور الشمس في سماء تاريخ لبنان. إن كل هذه المواقف بإتجاه الأمة العربية بأسرها لتتحمل مسؤولياتها تقف شاهداً له ولإيمانه بأمته العربية والإسلامية في وجه مخططات الشرذمة والتقسيم . كما تشهد له مواقفه وقوفه إلى جانب القضية اللبنانية بوقوفه إلى جانب الرعاية للدولة الشقيقة التي كان لها دورها الإيجابي في سلامة لبنان وأمته وقيامته من بين الأنقاض. ففي خطبة عيد الفطر في الملعب البلدي: قال: ولئن كنا جميعاً قد وقفنا هذه الوقفة في مواجهة الأعداء، بل وفي مخاطبة الأشقاء، إلا أننا في قرارة الذات ، أن لغة التخاطب مع العدو الدخيل على الجوار، تختلف عن لغة التخاطب مع الشقيق المتعاون في حمى الديار، ولغة التخاطب مع هذا وذاك ، ليست ألفاظاً تطرح، وتعابير تنمق، بقدر ما هي تعبير عن قيم وأخلاق وترجمة لعقائد وأخلاق. وفي خطبة عيد الفطر عام 1985 قال:إذا كان لكل القوى التي شاركت في المقاومة، وشاركت في إسقاط إتفاقية السابع عشر من أيار حق شرعي في المشاركة في صياغة قرار المصير، فإن لسوريا الحق الشرعي الأول في المشاركة في هذه الصياغة لأنها هي التي قادت، وهي التي ضحت ، وهي التي ساندت، هي التي خاضت كل المعارك الوطنية وعلى الجبهات. لقد كان لسوريا كل جبهة الإصلاح السياسي في لبنان دورها الكبير، وإننا اليوم ، وفي هذا المأزق الخطير الذي نعيشه ، نتطلع إلى عودته لتمارسه بوعي كبير ومسؤولية تاريخية . أيها اللبنانيون: إنها صورة مصغرة جداً عن أراء ومواقف الشهيد خلال حقبة طويلة صعبة من تاريخ لبنان. رحمك الله أيها الشهيد الكبير ولعل ما سوف يفتقدون بغيابك صورة ذلك القائد الوطني الذي تصدر المسيرة والمواجهة من أدق المفاصل وأصعبها فكنت مفتي اللبنانيين جميعاً ومفتي قمة عرمون ومفتي خطبة الملعب البلدي التاريخية ومفتي الثوابت الإسلامية ، والموقف الإسلامي واللبناني والوطني. لقد كنت ذلك الرجل الذي جمع بين التقى والورع والمحبة والتسامح وبين الإلتزام الوطني والإيمان بوحدة الوطن وعروبته. لقد إستُهدفت لما كنت تمثل من قيم وكنت ثمناً لقضيتنا الوطنية الغالية،وإن الأمن والسلام وكل الإنجازات على الصعيد الوطني والعيش المشترك ، ومسيرة الإنماء والإعمار التي تشهدها اليوم والتي ننعم بها ما هي إلا ثمرة لنضالك الحثيث مواقفك الثابتة ولإستشهادك ، لك منا الكثير أكثر من دمع العين لك منا غصة القلب في القلب، وعلينا الكثير . لك علينا الوفاء لكل القيم والمبادئ التي آمنت بها ونذرت حياتك من أجلها.
|