مأساة فلسطين .. مأساة الإنسان العصري
أصدقائي الأعزاء، لقد تشرفنا وسعدنا بوجودكم بيننا ذلك بأن لقاءنا هذا يحمل بالنسبة لنا أعمق المعاني الروحية. فمؤتمركم هو تلبية صريحة لنداء شعب مضطهد, إنه شهادة إخلاص ووفاء لتراثنا الديني ( التوحيدي). وإنه دلالة على أمانتنا على المهمة الروحية التي هي في أعناقنا: مهمة تحرير كل المضطهدين المستضعفين في الأرض. ولقد استلهم شاعرنا الكبير سعدي هذه الرسالة الأزلية فذكرنا في قصيدته: « حديقة الورود» بأن « زفرة مستضعف واحد هي كافية لقلب العالم رأساً على عقب»، وزفرة شعب بأسره مستضعف في فلسطين هي تأكيد بأن إيماننا بالمسيحية والإسلام إنما هو الدافع لنا للالتزام علناً وبقوة بتحويل عالم المستضعفين والمسلوبين الذين يتعذبون ويتألمون إلى عالم من السعادة ينعم فيه الجميع بالحرية والإحسان والإخوة والسلام. مأساة فلسطين ليست بالنسبة لنا مأساة عربية محضة.. إنها أيضاً مأساة الإنسان العصري الذي حطمت التقنية والرفاهية روحه أكثر مما حررتها, فوسائل التنقل والاتصال الحديثة أبعدته عن الحقيقة بدل ان تقربه منها. والناس بدل أن يتم تفاهمهم بصورة أفضل تم بالأحرى بينهم عدم التفاهم تهالكوا على الماديات بدل ان يتمسكوا بالقيم الروحية. وهنا علينا ان نتذكر هذه العظات لبيفي Paguy :« إن كل ما ينتزع من قوة روحية, أية قوة كانت, فهو سيكون كسباً ليس لقوة روحية أخرى بل للمال». ذلك بان حضارة الإستهلاك والمال هي حضارة من كذب، والشعب الفلسطيني كان الضحية الكبرى« للمعجزة الكاذبة» للقرن العشرين. إن وجودكم بيننا هو محاولة لإعادة الحقيقة الى مكانتها: حقيقة الغرب والحقيقة في الغرب, حقيقة المسيحية والحقيقية في المسيحية، حقيقة فلسطين والحقيقة في فلسطين.. فسياسة الغرب المعادية لفلسطين والموقف المعادي لفلسطين والسائد بين المسيحيين في الغرب قد زعزع ثقتنا في الغرب. فنحن بعد أن خذلنا الغرب المثالي ودعمنا الشرق المادي اشعرنا بان نسمات العدالة بالنسبة للشعوب المضطهدة تهب من جهة الشرق أكثر مما تهب من جهة الغرب. ولربع قرن مضى، كتب أستاذنا ومفكرنا الكبير شيخ الأزهر الشيخ مصطفى عبد الرزاق، يقول :« لا أجد أي سبب حقيقي للتعارض بين الإسلام والغرب, لان الإسلام في ذاته لا يحوي أي شيء مناقض لفكرة الإسلام. والصراع بين المسلمين والغربيين الذي لم يزل التاريخ يحتفظ بذاكره، هذا الصراع العارض لا ترجع لا إلى روح الإسلام ولا الى روح الغرب» .إن حب هذه الروح في الاتصال الخلاق بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، وحب هذه الروح في التآخي المجدد بين المسيحيين لا جواب روح الغرب ولا جواب روح المسيحية، بل جواب الاستعمار والصهيونية. إننا سعيدون بان نلقاكم بيننا ي مرحلة دقيقة من تاريخ علاقاتنا مع الغرب، فنحن نجد أنفسنا منعكسة منكم نقرأ في تعطشكم للحقيقة وللعدل الروح العقلانية الشاملة والمسالمة التي هي روح تراثنا الروحي وتراثنا الثقافي أما مشترك والساعة الحاضرة هي ساعة اختيار دقيق بالنسبة للرب وبالنسبة للعرب، فالغرب عليه ان يختار بين واجبات هذا التراث المشترك وبين غوايات الروح الانفرادية التي هي غوايات تعصبية بالية. عليه أن يختار بين مبادئه الإنسانية وبين مبادئه الاستعمارية، بين أهل السلم فيه وبين أهل الحرب، بين بنائي السلام أمثال ديغول وبومبيدو وبين صناع الحروب أمثال جونسون ونيكسون.. والعرب عليهم هم أيضاً أن يختاروا بين أصدقائهم وبين أعدائهم، والغرب حتى يسترجع صداقته مع العرب عليه ان يعود الى خير ما قدمه من روحه للإنسانية، ألا وهو روحه في العدل وقيمة الروحية وتقاليده الثورية، عليه ان يكتشف نفسه كما نجده نحن فيكم وفي حبكم للحقيقة وللحرية وللعدالة والسلام. ونحن لقد قمنا بواجب الإختيار فإخترنا السلام على أساس العدالة، ولقد علمنا تعالى في كتابه بأن الناس جميعاً خلقوا من نفس واحدة، وأمرنا بان نعدل بين كل الناس: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ». ونحن نطلب العدالة ليس فقط لشعب فلسطين بل لكل الشعوب المستضعفة، فكل المجاهدين من أجل العدالة سواء في أمريكا أو إفريقيا او آسيا أو اوروبا هم إخوتنا في الروح، وفي فلسطين نطلب من الشعب اليهودي ان يختار بين الروح الشاملة لعدالة إبراهيم وزكريا ومندلون Mendeloon وبوبير Buber وبين الروح الأنانية الإستعمارية والتوسيعية لهرتزل وبن غوريون وموسى ديان. فهذا الإختيار الاخير يرتبط عليه مصير السلام في فلسطين وفي الشرق وفي العالم. إننا نسعى لأن يكون في فلسطين وفي العالم سلام عادل وذلك لأننا نعمل من أجل سلام مشرف ودائم, فنحن نؤيد سلام الرجال الأحرار وليس سلام الفاتحين, إننا مع السلام الذي هو سلام الإخوة المتساوين وليس مع سلام الغالبين والمغلوبين مع سلام الأبطال وليس مع سلام العنصريين المتعجرفين:« وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً » وهكذا فبالكرامة والتواضع وليس ابداً بالإذلال والكبر يمكننا ان نقيم سلاماً حقيقياً في فلسطين. ولقد رسمت لنا الثورة الفلسطينية الطريق الأقوم حين طالبت بديمقراطية فلسطينية حيث اليهودي والمسيحي والمسلم يعيشون إخوة احراراً ومتساوين. ولبنان يعطينا المثل الملموس لفلسطين الغد, فهو نموذج للتآخي في التوحيد وللتعايش السلمي بين مختلف الطوائف. ولقد وجه الرئيس عبد الناصر الى الغرب نداء تلو نداء حتى يعيننا هذا الغرب على بناء مثل هذا السلام. وها انتم تعطون جوابكم الإيجابي لهذا النداء. وإننا لنأمل بان يحذو حذوكم الرئيس نيكسون وكل المسؤولين في الغرب. ومهما يكن من أمر فإننا نشعر بفضل وجودكم بيننا بأنه إن كانت قضية السلام على أساس العدالة يمكن أن تخذل على يد الحكومات ورجالات المتعطشة للسلام والعدالة. وإسمحوا لي مرة اخرى بان أشكركم لوجودكم بيننا, وبان أعبر لكم عم أملنا بان نكتب معكم صفحة جديدة في تاريخ نضال الشعوب والجهاد العادل للرجالات الأحرار من أجل تحقيق السلام والعدل والحرية للناس أجمع ولشعوب العالم أجمعين .. |