كلمة صاحب السماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد التي ألقاها في اللقاء المسيحي الإسلامي الذي عقد بدار الفتوى مساء السبت الواقع في 9/1/1971 أيها السادة: نرحب بكم جميعاً ونرجو أن يكون لقاؤنا الليلة تعبيراً عن الرغبة الصادقة في تعاون مستمر، وتلاق موصول على كل ما يرضي الله، ويحقق الخير لعباده. إنه ليس أحب إلى المواطن اللبناني من رؤية رجال الدين وعلمائه من كافة الطوائف والمذاهب يجتمعون لخدمة مفاهيمه، ويتشاورون لحل مشكلاته، ويحملون على إنارة طريقه متكاتفين متضامنين، وقد اختاروا من أجل ذلك مناسبة الأعياد الكريمة المباركة، التي هي عزيزة على قلوبنا جميعاً، مؤكدين أن هذه الأعياد ليست في جوهرها بهرجة وزينة وإنما هي تذكرة وعمل. أيها السادة، إن لقاءنا اليوم بالإضافة إلى لقاءات سابقة يعتبر تجربة روحية رائدة خصوصاً إذا تمكنا أن ننتقل بها إلى مرحلة جديدة من البحث المشترك والعمل المشترك في سبيل الصالح الوطني العام، انفتاح الحرية الذي يعيشه لبنان، ومستويات الثقافة التي بلغها شعبه، وانفتاحه على العالم كله، ان ذلك خليق بأن يواجه بوعي كلي تطورات العصر وتحدياته، واخطار العدوان الفكري والخلقي المندفعة نحوه بكيد وقسوة، ومشكلات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي بدأت تتهدد استقراره وامنه نتيجة تعقدها واهمالها. إن التحديات والأخطار التي تتعرض لها الأديان ومن خلالها كرامة الانسان تكاد تكون في هذا العصر واحدة من حيث مصادرها ودوافعها ومظاهرها. وإن الشقاء الذي يحل بالإنسان نتيجة ضغط القوى والمفاهيم المادية سوف يزيد في تباعد الإنسان أكثر فأكثر عن الوعي الروحي، ويمكننا في سبيل مواجهة ذلك أن نستعرض كل ما في عقائدنا من قيم وموروثات روحية وتنظيمية، جاهدين ما وسعنا أن لا يبقى كل ذلك في دائرة المبادئ والمآثر بل نحولها إلى اعتقاد واعتناق والتزام. إن أهم ما يمكن أن يصدر عن مثل هذا اللقاء هو ضبط لصورة الواقع وتحديد لطرق المعالجة، وكشف عن أساليب توحيد القوى لمقارعة الخطر الماثل على صعيدي الدين والأخلاق. إننا نلاحظ في كثير من الأوساط نفورا من التدين، غير أننا نلاحظ في الوقت نفسه أن هذا النفور لم يكن وليد صدفة، كما أنه لم يكن نتيجة حتمية لعصر العلم والتقنية والتحرر ولكنه تصميم كيدي ومغالطات شريرة، ولقد توسعت رقعة هذا النفور بالإضافة إلى ذلك بسبب جهل كثير من الدعاة بروح العصر وأسلوبه، وبتطور الحياة والفكر فيه، وبسبب المواجهة الفردية غير المنظمة، وبسبب الممالأة على حساب الحقيقة، أو المداواة بدافع الخوف. إن العودة إلى التدين بهذه الأوساط ليست أمراً مستحيلاً رغم كل موجات الرفض والنفور. لقد كانت مشكلتنا من قبل تنحصر في الاهتمام بعدم التزام المؤمنين بأمور دينهم فأصبحت اليوم تهجس بمشكلة الإيمان في ذاته من حيث رفضه جملة وتفصيلا. إننا ندرك جميعاً ما بين معتقداتنا الروحية من فروق، ولكننا في الوقت نفسه نؤمن الإيمان كله أننا نستطيع في هدى هذه المعتقدات ولصالحها ولصالح الإنسانية بالذات أن نقيم أمتن جسور التلاقي فأعظم وسائل التعاون. إن الإنسان عدو ما يجهل، وهذه العداوة تبدو في التباعد والتنافر واللامبالاة ولا شيء غير المعرفة والتعارف يمكن أن يكون طريقا للتصافي البريء من الخداع، الخالص من الرياء، المشحون بالطهر والمحبة. إن مشكلات البشر في كل مكان، ومنها مشكلاتنا نحن، مبعثها الجهل بموقف الآخرين وبآرائهم. وإن الجمود في مناخ العداوة الصامتة الذي أقامه لنا المتعصبون المتاجرون إنما مرده إلى ما زرعوه بين جنباتنا من بذور الحذر والتجافي والارتياب. إن مستقبل الدين متوقف على مقدرة رجاله في بلورة تعاليمه التي تدعو للعدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر، ونشر المحبة والسلام على كل صعيد، ان نضال رجال الدين في سبيل تحقيق ذلك هو الطريق القويم الذي تتفق أديان السماء على السير فيه بصبر وإصرار قبل أن يعصف التمرد البشري بكل شيء ويجتاح كل معتقد، ويقضي على إنسانية الإنسان. أيها السادة: في هذا السبيل فعلينا أولاً، كما نرى، أن ندرس مشكلة شبابنا التي تكاد تصبح صورة كاملة لمشكلة شباب العالم، إن أغفالنا لدورهم الكبير في الحاضر والمستقبل قد أفسح المجال أمام المتاجرين بالأفكار المنحرفة، ليصوروا لهم الباطل بصورة الحق، حتى ضل منهم الكثير وانتابتهم موجة مؤسفة من الشرود الفكري، وسيطرت عليهم أعراض مؤلمة من القلق النفسي، أصبحت تتجلى بشكل مأساوي موجع، على شكل تمرد على العائلة حيناً، أو على صورة ثورة على التقاليد حيناً آخر، أو على هيئة استهتار بالمظهر المحترم الذي يترتب على الإنسان أن يتحلى به في كثير من الأحايين. إن أساس المشكلة على ما نعتقد هو أن هؤلاء الشباب باتوا يرون في أي توجيه أو أرشاد نوعاً من الوصاية الفكرية الخارجية، ونحن إذا نجحنا في غرس المفاهيم الروحية والأخلاقية في نفوسهم منذ الطفولة واستمرينا على رعايتها بدراية وحكمة خلال مرحلة الشباب فإن هذه المعطيات التي نريدها، تصبح شيئاً يريدونه لأنفسهم، شيئاً أصيلاً نابعاً من الداخل، هو أقرب ما يكون إلى الالتزام، وابعد ما يكون عن الإلزام. إن مما يؤسف له حقا أن الطالب الجامعي غير مزود بتعاليم روحية كافية اللهم إلا ما اكتسبه منها وهو صغير على مقاعد الدراسة أو بين جنبات الأسرة. أن هذه التعاليم المرحلية لم تعد كافية لمتطلبات الشباب في مواجهة التيارات الفكرية والوجدانية التي أصبحت تتحرك اليوم في هذا العصر بذكاء مستغل، ودهاء مدروس. لهذا فإننا نطرح بين أيديكم فكرة إعادة النظر في أساليب التربية الدينية في شتى الأوساط لتتكرموا بجهد مشترك بدراستها وطريقة دعم الدولة لها بحيث تستمر تعاليمها مع الطالب وهو في جامعته ومع الشباب في نواديهم، وبحيث يبقى النمو الروحي لدى الشباب مواكبا لنموه العلقي والعلمي في مختلف مراحل حياته. إن علينا في الوقت نفسه أيها السادة أن نبادر إلى تدعيم كيان العائلة التي أخذت تعاني من تفسخ في العلاقة بين أعضائها بسبب تردي المفهوم الخلقي ـ والضغوط الاقتصادية والتفسيرات المادية، الوقوف بقوة في وجه العبث الخلقي ودعاوى الانحلال التي تزداد مظاهرها كل يوم والتصدي اللاباحية المنكرة التي تطل علينا بشكل مخجل في أغلب الصحف والمجلات وأجهزة الإعلام ووسائل اللهو والتسلية، حتى حطمت أو كادت قواعد الأخلاق وزعزعت أركان الفضائل دونما وازع من ضمير أو تقدير الإنسانية. أيها السادة نحن لا نريد أن نستقصي كل مبررات اللقاء ومجالات العمل المشترك ووسائله وإمكانات التعاون، ولكننا نريد أن ندعو إلى ضرورة بدء لقاء جدي للعمل المشترك لمجابهة كل هذه المتاعب والأخطار التي يتعرض لها الدين والأخلاق وبالتالي يتعرض لها الوطن بأغلى ما لديه. أننا أيها السادة لا نستطيع أن ننسى أن تلاقينا وتعاوننا في سبيل ما تقدم هو بالتالي مشاركة فعالة ومجدية لكشف أباطيل الخصوم، خصوم الحقيقة والأمل والنور، هؤلاء الخصوم، بل الأعداء الذين سلبونا حقنا في أرضنا المباركة التي احتلت، أننا عن هذا الطريق طريق بناء الشخصية اللبنانية المؤمنة نكون في حدود رسالتنا قد أسهمنا على نحو ما في رد عدو مشترك لدود ونكون الصوت الداوي هنا أولاً ثم بعد ذلك في محافل العالم وضمائر الشعوب. أيها السادة: إننا من هذا الوطن الحبيب ومن هذا المكان بالذات نرسل بتحية التقدير والشكر للمجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني على تحيته الكريمة التي خص بها المسلمين وكرم فيها تعاليم الإسلام وعباداته ودعاهم للتعاون معه للعمل باجتهاد صادق في سبيل التفاهم والمحبة من أجل جميع الناس عن طريق تحقيق العدالة الاجتماعية بين البشر وترسيخ قيم الروح والسلام والحرية والعدل. إنها تحية صادقة يأمر بها الإسلام ويدعو إليها الشعور بالواجب والحرض على المصلحة العامة. وتحية ثانية للقاء الفاتيكان والمجلس الإسلامي الأعلى في مصر الذي تم مؤخرا في الفاتيكان ولسروح التعاون التي تجلت فيه والامال الطيبة المعلقة عليه، كما هي معلقة أيضاً على لقائكم الكريم هذا المساء. أهلاً بكم مرة أخرى وشكراً لكم على تلبيتكم هذه الدعوة المتواضعة والى الامام في سبيل التعاون للصالح المشترك والخير العام. |