إن في الناس رجلين يحيران الكاتب عندما يحاول الكتابة عنهما : رجلاً لا يستطيع أن يجد الكاتب ما يقوله فيه ، ورجلاً لا يستطيع الكاتب أن يختصر ما يعرفه عنه ، ومن هذا النوع الثاني هو سماحة الشيخ حسن بن سعد الدين بن الحاج حسن بن الحاج محمد بن قاسم آل خالد . ولد عام 1921 في بيروت ، وتلقى دراسته الابتدائية في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت . وقد بدأ حياته العامة ، إثر تخرجه من كلية أصول الدين بالأزهر الشريف في القاهرة عام 1946، أستاذاً في الكلية الشرعية في بيروت لمادتي المنطق والتوحيد والبحث والمناظرة ، ثم موظفاً في المحكمة الشرعية وواعظاً في المساجد ، يتسم وعظه بالموضوعية والرصانة ، فكان موضع احترام المسلمين من مختلف الطبقات الاجتماعية، كما كان له في بيروت اثر ملحوظ في توجيه الجمعيات الإسلامية سواء في مجال التوجيه الديني أو العمل الاجتماعي العام ، وفي سنة 1954 عين قاضياً في محكمة بيروت الشرعية ثم قاضياً شرعياً لقضاء عكار سنة 1957، ثم نُـقل منه سنة 1960إلى محكمة محافظة جبل لبنان الشرعية . كان لنشأة سماحته الدينية الصالحة أثر في مناحي تفكيره وفي تحريره من الارتباط بأي اتجاه حزبي أو شخصي ،وهو محافظ على أخلاقه الخاصة إلى أضيق الحدود ، متورع في عمله وتصرفاته إلى أبعد ما يمكن ولكنه في تفكيره منفتح متحرر ، فقد تركت دراسته للفلسفة الإسلامية ولعلوم الكلام والمنطق أثرها في سعة مناهج التفكير لديه ، وسماحة البحث الحر والابتعاد عن التعصب ،ولكنه ينتهي دوماً إلى التمسك بأخلاق الدين والتقيد بمناهجه. كان متواضعاً لبقاً معتدلاً في جميع تصرفاته ، ملتزماً دائماً بالاعتدال وعدم التطرف أو الإفراط في التصرف وكان يردد دائماً المقولة الفلسفية المشهورة «الفضيلة هي الوسط العدل بين إفراط وتفريط وكلاهما رذيلة » . كان جريئاً في الحق يعلن رأيه في وجه القادة والرؤساء دون مهاودة أو مساومة ، ولقد ظل مواظباً على هذا الاتجاه منذ ممارسة عمله في الوظيفة ورسالته في التوجيه حتى أجمعت الطائفة الإسلامية بكل فئاتها في لبنان على تقديره وتوقيره ونزاهته ومن ذلك إجماع العلماء والزعماء وأهل الرأي على اختياره لمنصب الإفتاء في الجمهورية اللبنانية . كان ذلك يوم الأربعاء في 21 كانون الأول عام 1966 ، بعد أن كانت معه قلوب المسلمين وتبوأ المنصب ودار ذكره على الألسنة وسار في الأفاق فكان بريده لا ينقطع من الرسائل ، ومكتبه أو بيته لا يخلو من الزوار ، مسلمين ومسيحيين ، علماء وقادة خاصة وعامة، وقد ساعده على ذلك دعوته إلى التسامح والمحبة والتآلف بين المذاهب والطوائف، وعمله الدؤوب للسلام ، وانطباع خلقه على أخلاق الصالحين في السلوك وتأثير حديثه في مجالسيه بالإيمان والصدق ، كان محدثاً لبقاً ، يمتزج حديثه بأجزاء النفس فلا يملك السامع إلا أن يتشربه بسمعه وقلبه . وكان خطيباً جهير المنطق ، حافل الخاطر ، لا يتلجلج ولا يتوقف ، مجادلاً غزير البحر ، قوي الحجة ، بصيراً بمواضع الحق ، قديراً على استنباط الدليل ، فلا يسع المجادل إلا أن يسلم بحجته ، ويصير إلى رأيه . لقد تجلت في خلائقه مزايا الإنسان الرفيع ، وتمثلت في أعماله فضائل المسلم المؤمن وجعل عمره كله لله وللناس وللعلم . وكان في الحق عاصفة لا تهدأ إلا إذا انتصر العدل ، وفي الخير نفحة لا تسكت إلا إذا انتعش الإحسان . وبهذا الخلق الذي استقام له من الغضب للحق والرضا عن الخير ، جرى في الاعتقاد على الإخلاص ، وفي القول على الصراحة ، وفي العمل على الجرأة ، وفي الرأي على الاستقلال ، وغيرها من الخصال التي يتسم بها العلماء العاملون المخلصون الذين يمتازون بصفاء النفس ، ولطف الحس ودقة الفطنة . العلماء هم الذين يدركون النقص في مجتمعهم فيرومون الكمال ويلحظون الخطأ فيطلبون الصواب ، ويلمحون الاعوجاج فيعملون على الاستقامة ، ويشعرون بحاجة العامة فيحاولون إحقاق الحق وإنصاف المظلومين . أقتبس سماحته نور الشريعة ، وكان من الفاهمين لكتاب الله فأتى ببراهين قضاياه من قواعده ، ومضامين مؤلفاته من هديه ، وعناوين مقالاته من آيه ، وكان من أخلص الدعاة إلى سبيل الله . وكان يصدر فتاويه مبيناً أن شريعة الله خالدة ثابتة ، لا تتأثر بالمكان ، ولا تتغير بالزمان، ولا تتسم بالخصوص ، ولا تضيق بالحضارة ، ولا تتبرم بالعلم ، ولا تنبو على التطور . انصرف سماحته إلى خدمة الإسلام بالتعليم والتأليف ، ومصلحة المسلمين بالتوجيه والتثقيف ،و فض الخصومات ، وإصدار الأحكام وفقاً للشريعة الغراء ، فكان حركة لا تهدأ ، وبركة لا تنقطع . |