الصندوق الحديد الأخضر في بيروت فارغ من 36عاماً: شعرات النبي محمد لا تزال مسروقة! صرير أجش خرج منه، بقدر ما اثقلته الاعوام. الغطاء صارع كل محاولات فتحه، صدّها، أفشلها. فارغا كان من 36 عاما، عتيقا جدا. ومع ذلك، يبقى الصندوق الاخضر الشهير الذي احتضن يوما من الايام "امانات مقدسة" في بيروت. على الشرفة، يستقر اليوم وحيدا في زاوية، ويأخذ الذاكرة الى مرحلة ربما نسيها كثيرون، وكثر آخرون لم ينسوا بعد ذلك اليوم المشؤوم. ابن بيروت، حسان فاخوري (*)، يعرف جيدا شعرات النبي محمد، التي خُصَّت بها المدينة قبل نحو 123 عاما. حملها بيديه، اعتنى بها كحدقة العين، اقفل عليها في الصندوق الاخضر... بمفتاح لا يُقهَر بفعل حجمه الكبير. "شيء هائل جدا. لا يمكن تصور خشوع الناس وتعالي تكبيرهم لدى اقترابهم من الشعرات للتبرك. كانت اصواتهم تملأ الجامع، ويصل صداها الى الشارع"، يتذكر.
اتصال هاتفي، فلقاء واستيضاح. هذا ما اوجبته ملاحقة اثر شعرات النبي المختفية من "حصة" بيروت. الكتابة عن الامانات المقدسة عند المسلمين أشعلت لدى فاخوري نارا قديمة. الشعرات التي وصلت اليه، امانة من والده الراحل الذي حصل عليها بدوره من عمه، لا تزال "مخطوفة". يقول: "كانت المسؤولية كبيرة، هدّت كتفيّ. كنت انتظر موعد اخراجها كل سنة على احر من الجمر، على غرار مئات، بينهم شخصيات بيروتية كبيرة، كانوا ينتظرون وصولي الى الجامع لافتح صندوقها".
في الجامع العمري الكبير، حفظت الشعرات في حجرة خاصة... من اللحظة الاولى لوصولها الى بيروت. ويكتب المؤرخ الشيخ طه الولي في كتابه "بيروت في التاريخ والحضارة والعمران" انه "في الجهة الجنوبية الغربية من الجامع، غرفة معروفة بحجرة الاثر الشريف، لان فيها ثلاث شعرات منسوبة الى النبي، اهديت مدينة بيروت ايام السلطان عبد المجيد الاول العثماني اواسط القرن التاسع عشر". وتبيّن براءة من السلطات العثمانية يرجع تاريخها الى 9 تشرين الاول 1888 "ان الاثر الشريف هي الشعرة النبوية. وصار وضعها ضمن صندوق صغير داخل الحجرة في الجامع الشريف العمري... وحصل التنسيق ليكون مفتاح الصندوق موجودا ومحفوظا بيد الشيخ محي الدين الفاخوري. وصار تسليمه ليده...". البراءة وقعها اعيان من بيروت: نصرالله، فرعون، وروفائيل، اضافة الى نائب الوكيل العام محمد سعيد، ووكيل متصرفية بيروت احمد حمدي.
وما عرفه ايضا حسان من والده هو ان "الشعرات احضرتها الى بيروت مدمرة عثمانية رست في مرفأ المدينة. ونزل الوالي شخصيا بعربته، وحملها على رأسه الى الجامع، بينما اصطف العسكر عند جانبي الطرق. وكان في الجامع اعيان بيروت، اؤلئك الذين وقعوا البراءة".
الشيخ محي الدين المذكور في البراءة هو عم والد فاخوري، الشيخ رائف. والشعرات انتقلت من الاول الى الثاني، وبقيت في عهدة الاخير حتى يوم وفاته العام 1956. ثم انتقلت الى عهدة الابن، حسان، بعدما صعب على شقيقيه الآخرين تولي المسؤولية لضرورات المهنة او الدراسة. وقد تولى مسؤوليتها 19 عاما، بحيث لم يكن مسموحا لسواه بان يحملها، كما كان يحصل مع راعييها السابقين. "كنت أخرج الشعرات من الصندوق بعد العصر، كل 27 من شهر رمضان، اي ليلة القدر، ليتبرك منها الناس. وكانوا يأتون، مئات والوفا، ليقبلوها في علبتها"، يتذكر.
كانت علبتها "من البلور، مستطيلة، عرضها نحو 4 سنتيمترات، وملحومة بالذهب. وقد ثُبِّتت فيها الشعرات بشمع- وكانت احداها بطول نحو سنتيمترين، واخرى نحو سنتيمتر- وكانت علبة البلور تحفظ في علبة اكبر مرصعة بحجارة نصف ثمينة، وملفوفة بأقمشة سوداء من ستارات الكعبة". وبقي فاخوري راعي الامانة طوال هذه الاعوام قبل ان تقع الواقعة العام 1975. الجامع تعرض للسرقة، الصندوق الاخضر خُلِع، والشعرات اختفت، "سُرِقَت خلال الحوادث التي عمّت البلاد خلال الحرب الاهلية العام 1975 وما بعدها"، ارخ الولي. ولم يبق من تلك السرقة سوى الصندوق الذي احضر الى منزل فاخوري، ولا يزال فيه حتى اليوم. "لا اعتقد ان تحقيقا اجري. من سيحقق مع من؟ يومذاك، كان هناك الفلسطينيون وقوات الردع و"القوات اللبنانية" وغيرهم. كانت "مخبوطة".
آنذاك، وجه المفتي الراحل الشيخ حسن خالد برقيات الى قوى الامن الداخلي وقائد قوات الردع العربية اللواء سامي الخطيب. غير انه ما امكن القيام باي شيء. "التحقيق لم يتوصل الى معرفة تاريخ حصول السرقة، ولا هوية الفاعلين"، اجاب الخطيب مديرية الاوقاف الاسلامية في 27/2/1979، ردا على برقية لها.
أقمشة سوداء يخرجها فاخوري من الصندوق العتيق. "انها اقمشة من ستارات الكعبة التي كانت علبتا الشعرات ملفوفتين بها. وقد سلمت من السرقة"، يقول. بعد مضي كل هذه الاعوام، لا يطالب بشيء، لادراكه ان استعادة الشعرات حلم. واذا كان يصعب عليه ان يغض الطرف عمن سرقوها، و"لا يمكن القول الله يسامحهم"، فان تمنيه الوحيد: "يا ليت الشعرات لم تُسرَق، او عرفنا مصيرها كي نسترجعها". وتبقى له ذكريات كثيرة عن ايام عبقت فيها بيروت بايمان مؤمنين تائقين الى "لمسة" صغيرة من النبي. (*) الرئيس السابق لضريبة الاملاك المبنية، الرئيس السابق للجنة الادارية والمالية في المجلس الشرعي الاسلامي الاعلى. |