ذكرى حصار بيروت معركة بيروت 1982 – التجربة والدلالات الأستاذ معن بشور (15/09/1998) إنه لمصدر اعتزاز كبير لي أن أتحدث في ذكرى حصار بيروت وتحريرها وانطلاقة المقاومة المستمرة منذ 16 عاماً ، ومن هذا المنبر بالذات الذي يحمل اسماً كبيراً في حياة لبنان والعروبة والإسلام، هو اسم المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد الذي كان لي شرف التواصل مع إبان معركة بيروت الخالدة صيف 1982 حين كنا نستمد منه إيماناً وعزماً وتصميماً على مواجهة الحصار والغزو. وأن أنسى لا أنسى صبيحة ذلك اليوم من شهر آب الذي تلا يوماً كاملاً من القصف الجوي والبحري والبري لأحياء العاصمة، حيث زرنا صاحب السماحة للاطمئنان إليه بعد أن تركز جزء وافر من قصف ذلك اليوم على محيط منزله المؤقت في فردان. كان سماحته جالساً في شرفة منزله، والدمار يحيط به من كل جانب، وكان البشر والإيمان يشعان من عينيه الصافيتين، موزعاً الطمأنينة والثقة بين زائريه مردداً آيات كريمة تحث على الصبر والجهاد والثبات في وجه اعتى هجمة على مدينة منذ الحرب العالمية الثانية، وقد قيل يومها إن قوة النار التي حملتها القذائف التي انهالت على بيروت تفوق قوة القنبلة الذرية التي أسقطها الأميركيون فوق مدينة هيروشيما اليابانية. بل إنه لمصدر اعتزاز كبير أيضاً أن أتحدث من هذا المكان بالذات والذي تفصله أمتار قليلة عن الملعب البلدي الذي شهد صلاة العيد الشهيرة التي أمخا سماحة المفتي الشهيد عام 1983 ففتحت بشهادة كثيرين الطريق لسقوط حكم الهيمنة ولإسقاط اتفاق 17 أيار نفسه ولتعزيز مسيرة المقاومة التي انطلقت أيضاً من هذه المنطقة بالذات، منطقة الطريق الجديدة، حيث دمرت أول دبابتين على محور كلية الهندسة وسقط أول شهيدين للمقاومة من أبناء بيروت هما محمد الصيداني وعصام اليسير صبيحة 125 أيلول 1982 ليرسما مع خالد علوان وجورج قساطلي وغيرهما من الشهداء والجرحى والمناضلين ملامح مقاومة أسطورية تمكنت أن تحطم أسطورة الجيش الذي لا يقهر وتضطره للانسحاب مهرولاً من بيروت دون قيد أو شرط إلا ما إذاعته مكبرات الصوت الصهيونية المتوسلة من أبناء بيروت أن لا يتعرضوا قواتها الموجودة وهي تغادر العاصمة التي «احترقت لكنها لم ترفع الإعلام البيضاء» كما قالت (السفير) فيتلك الأيام . تساؤلاً ما زال مطروحاً أيها الأخوات والأخوة، لم نستعد هذه الصور القليلة من معركة بيروت بدافع وجداني، أو لمجرد حنين لأيام نعتز بها، بل لكي نسأل لمرة جديدة سؤالاً طالما طرحناه ولم نجد له جواباً شافياً. لماذا لم تحظ معركة بيروت من كل لبنان، الرسمي والشعبي، من المسؤولين والإدارات الرسمية، كما من الأحزاب والمؤسسات الثقافية والفنية والمبدعين، بما تستحقه من اهتمام يليق بعظمتها، وبصمودها، بل وبانتصارها الساحق، على كل صعيد، في واحدة من أهم معارك العرب ضد الغزاة الصهاينة. نعم، لماذا لم يتحول يوم تحرير بيروت وانطلاقة المقاومة إلى يوم وطني لبنان، بل يوم عربي ودولي، تسلط فيه الأضواء على جوانب متعددة من تفاصيل الحصار والصمود والمقاومة في كل بيت من بيوت العاصمة وضاحيتها الجنوبية، كما على معارك خالدة كمعركة المتحف والمطار والليلكي والمرفأ وجسر المصيطبة ومحطة أيوب وغيرها وغيرها. إلا يستحق كل تفاصيل وكل معركة إلى فيلم خاص، وإلى مسلسل تلفزيوني، إلى روايات وقصص للكبار والصغار، إلى قصائد ومهرجانات شعر، إلى لوحات فنية ومنحوتات وجدرانيات، إلى أغان ومسرحيات بل إلى أوبريت تنقل، كما أوبريت الحلم العربي، تجربة بيروت إلى الأجيال خاصة وأنه قد ولد اليوم أكثر من جيلين بعد تلك المعركة. إن الدعوة إلى الاهتمام الرسمي والشعبي، والإعلامي والإبداعي، بهذه المعركة ليست مجرد تمجيد لمعركة نعتز بها فحسب، بل لفهم موقع هذه المعركة ودلالاتها في الحاضر، كما في المستقبل، على حد سواء. معركة بيروت تركت الصراع مفتوحاً أول هذه الدلالات إن معركة بيروت مثلت نقطة تحول نوعي في تاريخ الصراع العربي- الصهيوني، لا في إنها أجبرت الغزاة على الانكفاء عن العاصمة العربية الثانية التي تحتلها بعد القدس خلال أيام فحسب، بل لأنها المعركة التي ما زال ملف الصراع المسلح مع العدو مفتوحاً منذ وقوعها قبل 16 عاماً . فقبل معركة بيروت، شهد هذا الصراع، ومنذ بداية القرن، مواجهات ومناوشات وانتفاضات وحروباً متعددة، لكنها كلها كانت تتوقف لمدة ليخيم الهدوء من جديد، فيستفيد العدو الصهيوني من كل هدنة، ومن كل وقف للكفاح المسلح ضده، لكي يعزز أوضاعه من جهة، ولكي يسهم في إضعاف قوانا من جهة ثانية. لكن الملاحظ إنه منذ بيروت 1982، لم يتوقف الصراع المسلح لحظة واحدة، فالمقاومة ضد المحتل وحلفائه الأطلسيين لم تهدأ في كل منطقة لبنانية غزتها قوات الاحتلال، والانتفاضات في فلسطين تتالي وكذلك العمليات النوعية والاستشهادية ولم تتمكن كل المتغيرات الدولية والانكسارات العربية، وكل الاتفاقات والمعاهدات المعقودة من وقف هذا الصراع. إنه استنزاف للعدو وحلفائه بدأ في بيروت ولبنان، وهو مرشح للاستمرار والتصعيد حتى انكسار المشروع الصهيوني نفسه، ومعه المشروع الاستعماري على مستوى العالم بأسره إذا عرفنا كيف نمده بأسباب القوة والقدرة والنمو. بذور المشروع الوحدوي وثاني هذه الدلالات إن معركة بيروت ضد الحصار والغزو حملت في حناياها أيضاً بذور مشروع الوحدة اللبنانية على الصعيد الشعبي، رغم بعض المظاهر المحدودة المعاكسة. فالذين عايشوا تلك التجربة عن قرب أدركوا كيف عبر أغلبية اللبنانيين في سائر المناطق اللبنانية عن تعاطفهم مع عاصمتهم، وهي تحترق، سواء عبر تصريحات لسياسيين، أو بشكل خاص عبر البيوت والقرى والمدن التي فتحها أهلها لعائلات نزحت من بيروت إلى المتن وكسروان وجبيل كما إلى الشمال والبقاع. وتعترف معظم المصادر الإسرائيلية التي أرخت للحرب أن القيادة العسكرية الإسرائيلية فوجئت بحلفائها المحليين ينكثون بعهودهم لها بمساعدتها على اقتحام بيروت الغربية، وهي بالتالي لم تجد سوى قلة محدودة ارتضت لنفسها أن تقف على حواجز التماس لتمنع الخبز والماء عن أبناء العاصمة المحاصرة، أو لقلة أخرى شكلت غطاء للمجازر الصهيونية التي ارتكبت في مخيمي صبرا وشاتيلا في مثل هذه الأيام قبل 16 عاماً. ولقد تجلت هذه الروح الوحدوية أيضاً حين تجاوز الكثير من سكان بيروت ومراجعها وزعمائها كل الجراحات، بل والاعتراضات القوية على انتخاب رئيس للجمهورية عام 1982 يمثل فريقاً من أفرقاء الحرب، فأبدت احتراماً لمشاعر مؤيديه يوم مصرعه في 13 أيلول، فلم تطلق رصاصة ابتهاج واحدة، وشارك كثيرون شخصياً أو برقياً في مراسم الدفن والعزاء، ليؤكدوا أن إيمانهم بوحدة لبنان تبقى فوق كل اعتبار. ورأى كثيرون أن هذا الموقف الوحدوي لبيروت أثار جنون الغزاة فبدأوا يخططون وهم يخرجون منها، لإبقائها أسيرة القهر والفوضى والتشطير لسنوات. هذه الروح الوحدوية عادت لتبرز بشكل أقوى أيضاً خلال حرب الإلغاء عام 1990، يوم فتحت بيروت وكل لبنان المساجد والبيوت لاستقبال أبناء الشطر الشرقي من العاصمة الهاربين من جحيم تلك الحرب، تماماً كما برزت يوم انطلقت في أديرة انطلياس وجبيل وجونيه وزحلة ومدارسها وكنائسها حملة تضامن كبرى مع أبناء الجنوب والبقاع الغربي أيام عملية عناقيد الغضب عام 1996. وحدة النضال العربي وثالث هذه الدلالات إن وحدة النضال العربي لم تبرز خلال فترة قصيرة من الزمان، وفي مساحة محدودة جداً من المكان، كما تجلت إبان معركة بيروت التي دافع عنها خلال حصار الثمانين يوماً المقاتل اللبناني، والمقاوم الفلسطيني، والجندي السوري جنباً إلى جنب مع مئات المتطوعين العرب من مصر والعراق واليمن وليبيا والسعودية والكويت وتونس والجزائر بالإضافة إلى متطوعين من دول إسلامية في أفريقيا وأثيوبيا، ومتطوعين من أحرار العالم كافة. لقد مثلت تلك الوحدة خميرة ثورية انتشر مناضلوها، كما دروسها، إلى مواقع للنضال في مناطق متعددة من العالم، الأمر الذي جعل الانتقام من الأمة يجري على مستوى العالم بأسره فأخذت طائرات العدو وعمليات الكوماندوس الإسرائيلي تصل إلى حمام الشط التونسي والطائرات الأميركية تضرب في قلب طرابلس الليبية، بعد أن كانت قد ضربت المفاعل النووي في العراق، كما كانت أساطيل الأطلسي تسعى لتدمير العراق ومحاصرة ليبيا، ناهيك عن الصواريخ الأميركية التي وصلت مؤخراً إلى السودان وأفغانستان، بالإضافة غزو الصومال وإقامة القواعد الإسرائيلية في ارتريا والقرن الأفريقي ومنابع نهر النيل. ولقد توجت هذه الاعتداءات، بالجسور العسكرية الأميركية والأطلسية الدائمة في مياه الخليج وبلدانه، كما في الانقضاض الصهيوني والأميركي على أسواق المال في ماليزيا واندونيسيا، كما في اليابان وروسيا، إلى أن وصل الأمر برئيس وزراء ماليزيا الإسلامي مهاتير محمد المعروف بصداقته للولايات المتحدة إلى الحديث عن مؤامرة إمبريالية ضد بلاده، ناهيك بدور رجل المال الصهيوني في تفجير الأزمة المالية هناك ثم في الإتحاد الروسي. لقد جعل صراعنا مع العدو الصهيوني وحليفه الأميركي، ومعركة بيروت إحدى أبرز محطاته، من الوطن العربي خصوصاً، والعالم الإسلامي عموماً، ساحة الممانعة الرئيسية للهيمنة الصهيونية الأميركية على العالم بعد أن سقط القطب السوفيتي من جهة، وبعد أن استكانت قوى كبرى في أسيا وأوروبا للطاغوت الأمريكي وفعلت سياسة الممالأة له على التصدير لسياسته على مدى السنوات التي أعقبت نهاية الحرب الباردة. ولا نغالي كثيراً في القول أن بوادر الوهن في القطب السوفيتي نفسه قد انكشفت في معركة بيروت، يوم انكشفت عجز موسكو عن تقديم أي دعم ملموس خلال الحصار الطويل، بل يوم صمتت حتى عن التطاول الصهيوني على سفارتها في بيروت التي تعرضت للقصف أكثر من مرة، كما للمحاصرة وربما للمداهمة. صحيح أن الرئيس السوفيتي اندروبوف حاول بعد توليه السلطة لفترة قصيرة، أن يثأر لكرامة بلاده بتسليح سوريا ودعم القوى الوطنية في لبنان، لكن تلك الصحوة لم تدم طويلاً إذ سرعان ما تراجعت بعد وصول غورباتشوف إلى السلطة وهو الوصول الذي قاد إلى انهيار سريع لأركان الدولة الصديقة الكبرى للعرب. المجازر والحصار أما الدلالة الرابعة فهي أن معركة بيروت قد اختزنت من الأحداث والمعاني والمؤشرات ما يصلح لأن يكون سلاحاً هاماً للبنان والعرب في كشف الطبيعة العنصرية النازية للكيان الصهيوني وفي كشف التواطؤ المكشوف للسياسة الأميركية معه أيضاً. فأهمية المجازر التي ارتكبت في مخيمي صبرا وشاتيلا لم تكن في إنها الأولى من نوعها التي ارتكبها العدو الصهيوني بحق الفلسطينيين فقد سبقتها مجازر دير ياسين وكفر قاسم في فلسطين، وحولا في جنوب لبنان، ومدرسة بحر البقر في مصر ، لكن أهميتها إنها جاءت في وقت سمح التكور العالمي في وسائل الاتصال أن تصل صورها إلى كل بيت في العالم. واعتقد أنه لم يكن ممكناً لمجزرة قانا أن تترك كل هذا الوقع والتأثير العالمي، لو لم تظهر إنها، بعد صبرا وشاتيلا، تعتبر عن نهج عنصري ثابت تعتمده تل أبيب في ممارسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بل في ممارسة «هولوكست» جديد بحق شعوب المنطقة ( كما قال الرئيس الهاروي من منبر الأمم المتحدة، بل لقد أعادت هاتان المجزرتان إلى ذاكرة العالم صور لمجازر أخرى لم يتح للعامل بأسره أن يتعرف إليها عند وقوعها خلال الخمسين سنة الماضية، بل أتاحت هذه المجازر لمؤرخين يهود داخل الكيان الصهيوني نفسه، أطلقوا على أنفسهم اسم المؤرخين الجدد، أن يبدأوا بالتشكيك بالتاريخ الرسمي لجولتهم نفسها ولادعاءاتها. وما يقال عن ننهج الإبادة الجماعية عبر المجازر البشرية الذي انكشف بوضوح عبر معركة بيروت، يمكن أن يقال أيضاً عن نهج الإبادة الجماعية عبر الحصار التمويني والمائي والكهربائي الذي تجلى خلال معركة بيروت وبدأ يتحول إلى نهج يومي يعتمد ضد بلدان عربية وإسلامية ومتحررة بكاملها ، كما هو الحال العراق اليوم، وقد أتحفنا اليوم المستر بتلر بأن حصار العرق قد يستمر إلى الأبد، وحال ليبيا، والسودان، وإيران، ناهيك عن كوبا وكوريا الشمالية، وصولاً إلى الهند وباكستان. وكما كشفت معركة بيروت عن خطورة هذا الأسلوب في الإبادة الجماعية عبر الحصار، وعن مجافاته لأبسط المواثيق والأعراف الدولية وعن تنكره لمبادئ حقوق الإنسان، فهي كشفت أيضاً عن قدرة الشعوب على الصمود أيضاً ، كما كشفت أيضاً عن حجم التقصير العربي والعالمي في التصدي لهذه الظاهرة. وبقدر ما يحس الواحد منا بالألم والقهر وهو يرى الحصار على العراق عامه التاسع مودياً بحياة مليون طفل حتى الآن، ويرى الحظر على ليبيا يدخل عامه السابع تاركاً أقسى النتائج على حياة الشعب الليبي، فإنه يشعر أيضاً بالاعتزاز لصمود العراق بوجه الحصار، واستعصائه على مؤامرة تفتيته إلى دويلات، وعلى بداية تحول عربي ودولي لصالحه، كما يشعر بالاعتزاز لصمود ليبيا ولقرارات منظمة الوحدة الأفريقية بكسر الحظر عليها، داعياً إلى قرارات عربية مماثلة تسقط الحصار على العراق وليبيا والسودان. كما يشعر بشكل خاص أن بيروت لم تنجح في مواجهة الحصار والانتصار عليه، بل إنها نجحت في أن تعطي نموذجاً، ولو مصغراً، لقدرة الشعوب على الصمود، مجددة بذلك الدور الريادي للبنان في حياة العرب، ليس في المجال الثقافي والاقتصادي والحضاري والديمقراطي فحسب، بل في مجال مقاومة الاحتلال والعدوان والحصار. تصحيح البوصلة الدلالة الخامسة هي أن معركة بيروت قد أعطت المثل والنموذج لكيفية نجاح شعب في توجيه طاقاته إلى مقاومة عدوه رغم محاولات إشغاله بحروب داخلية صغيرة ومدمرة. لقد أعادت معركة بيروت توجيه البوصلة الوطنية بالاتجاه الصحيح، وكانت المقاومة التي انطلقت منها دعوة للجميع من متاريسهم وعصبياتهم الضيقة، فالمعركة الكبرى هي مع العدو المحتل أما ما تبقى فهو خلافات أبناء البيت الواحد مهما بدت كبيرة. صحيح أن معركة بيروت لم تنجح في تحقيق هذه النقلة النوعية فوراً، أو في أسابيع أو في أشهر، لكن علينا أن نعترف اليوم أن إجماعاً لبنانياً قد قام اليوم على أن القتال الوحيد المشروع في لبنان هو القتال مع العدو حتى تحرير أرضنا، وهو تطور لا يشكل انتصاراً للبنان فحسب، بل يشكل نموذجاً يحتذى به في ا لعديد من أقطار الأمة العربية والإسلامية حيث السباق يقوم بين نزعتين إحداهما تعطي الأولوية للصراع مع عدو الأمة والأخرى مستغرقة في حروب القبائل والمذاهب والحدود، دون أن تأبه لما يحاك لها من مخططات ومؤامرات وهذا ما نشهده اليوم على الساحة الأفغانية كما على ساحات عربية أخرى حيث تنجر بعض المعارضات إلى حروب أهلية وفتن ومشاريع انفصال. فالمعارضة ضرورة ومشروعة، بل وواجبة، في كل ساحة عربية لكنها تفقد مشروعيتها، مثلما يفقد النظام شرعيته، حين يغلب صراع الداخل على تحديات الخارج، وحين يجري الاستقواء بالخارج لتحقيق انتصار في الداخل. في هذا الإطار لا يمكن إلا أن ندين تطور العنف في أكثر من قطر عربي أو إسلامي ليأخذ أشكالاً لا يقبلها دين أو ضمير، كما لا يمكننا إلا أن نعترض على معارضات تقبل بتقسيم أوطانها، أياً كانت الذرائع، وترتهن لأعداء أمتها لتحقيق ذلك، طبعاً وفي جميع الأحوال، لا يعني اعتراضنا على هذا النوع من المعارضات، إننا نقبل أو نبرر أي نظام لا يحترم الحريات العامة والشخصية، ولا يلتزم شرعة حقوق الإنسان، ولا يرتكز على الحد الأدنى من القواعد الديمقراطية. كما لا يمكننا إلا أن نقلق من دق طبول الحرب بين دول وقوى إسلامية على نحو يتيح الأمر لواشنطن أن تبدي قلقها على بلد على بلد كانت قد وجهت إليه صواريخها قبل أسابيع. إننا ندعو الجميع في أفغانستان وجوارها إلى ضبط النفس وعدم الانجرار إلى أفخاخ أميركية تريد إطلاق فتنة مذهبية كبرى لتدمير الإسلام من داخله، كما لإشعال حرب خليج ثالثة تمكنها من وضع قواتها في حراسة أبار النفط والغاز في بحر قزوين والأنابيب على غرار ما هو حاصل في الخليج. معركة بيروت في احد أبرز دلالاتها كانت حصيلة مناخ وحدوي، كما كانت بنت جو ديمقراطي نسبي في لبنان حيث الحرية توفر الحرية والحيوية هي التي تسمح بالانتقال بين أشكال النضال المتعددة. حركة عربية استثنائية أيها الأخوات والإخوة، في لحظة الاستعادة التاريخية لمحطة نضالية مشرقة في حياة وطننا وأمتنا لا بد من التوقف أمام جملة تطورات بالغة الخطورة تمر بها أمتنا وتحتاج إلى حركة عربية استثنائية على مستوى الأنظمة، كما على مستوى القوى الحية لإعادة الاعتبار إلى الحد الأدنى من الحقوق العربية، والكرامة العربية. إن نقطة البداية في هذه الحركة تكمن في انعقاد قمة عربية شاملة لا لتكريس الأوضاع والسياسة القائمة بل لإيجاد وقائع جديدة تسمح لشعب فلسطين أن يستعيد المبادرة السياسية جنباً إلى جنب مع المبادرة النضالية بعد أن سجنته اتفاقات أوسلو وما أعقبها في زنازين النسب المئوية المضحكة المبكية التي نسمع بها اليوم. بل المطلوب قمة عربية شاملة تسقط الحصار الظالم والجائر المفروض منذ سنوات على العراق وليبيا، وتضع قواعد نظام أمني عربي وإسلامي متكامل لا سيما في الخليج يوفر الطمأنينة لدول المنطقة بعيداً عن الأمن الأمريكي المستورد والباهظ التكاليف على كل صعيد، فلماذا لا تحل جيوش عربية من مصر وسوريا والمغرب مثلاً في تلك المنطقة بدلاً من الجيوش الأطلسية، ولماذا لا يجر حل لمشكلة الأسرى والمفقودين الكويتيين والعراقيين، في إطار الأخوة العربية الإسلامية وعلى نحو حازم ونهائي. والقمة العربية مطلوبة أيضاً لوضع إستراتيجية متكاملة لجذب تركيا بعيداً عن المحور الأمني مع الكيان الصهيوني، وهو محور تريد من خلاله تل أبيب أن ترهب سوريا، وتمزق العراق، وتحجم مصر، وتهدد إيران، وتصل على منابع النفط في الخليج، وتحرس لواشنطن طريق النفط والغاز من قزوين. ومن يدرس هذه الأهداف الإسرائيلية يلاحظ أنه ليس لتركيا أي مصلحة فيها، بل على العكس من ذلك أن مثل هذا المحور يهدد مصالح تركيا الحيوية مع جيرانها العرب والمسلمين، ويعطل أي دور لها في جمهوريات أسيا الوسطى حيث الشعور الإسلامي يرفض الانتصار لمن يحاول تهويد القدس. ولعلها من المفارقات في هذا المحور القائم بين الحكم التركي، والحكومة الصهيونية، إن جنرالات أنقرة يحاربون الإسلام في تركيا باسم العلمانية، ثم يتحالفون مع نتنياهو الذي يعتبر إن مهمته الرئيسية هي تطبيق التلمود اليهودي. إن إستراتيجية استعادة تركيا إلى موقعها الحضاري والروحي والجيوسياسي مهمة ليست مستحيلة إذا عرفت الدول العربية والإسلامية مجتمعة كيف تنفذ الخطوات الآيلة إلى تحقيقها بعيداً عن روح الاستفزاز، والتناحر العصبي، والخطابات المنغلقة، بل عبر حوار عقلاني هادئ، دعت إليه سوريا، يضع المصالح والروابط في المقدمة، ويستند إلى رأي عام تركي واسع، في المجتمع كما في القوات المسلحة، يرفض هذا النهج في التمحور مع تل أبيب ضد كل العرب والمسلمين، بل ضد كل الدول المحيطة بتركيا. أما النقاط الأخرى فقد باتت معروفة تبدأ في تفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك واتفاقاته وفي مقدمها السوق العربية المشتركة، لتصل إلى إحياء مؤسسات المشاركة الشعبية في القرار السياسي، بعد أن بات واضحاً إن الديمقراطية ليست إضعافاً للحاكم وصلاحياته، بل هي تحصين للحكم وتمتين له بوجه المخاطر الزاحفة التي لا تميز بين الأوطان والمجتمعات والأنظمة. ولعل لنا في مصير زعماء الهنود الحمر في أمريكا العبرة حيث لم تنفع كل محاولات بعضهم في استرضاء الغزاة أو استمالتهم، فالكل بالنسبة للغواة خدم تنتهي مع انتهاء الحاجة إلى خدماتهم. الاستحقاق الرئاسي أيها الأخوة والأخوات، إن معركة بيروت 1982، تجربة ودلالات، يجب أن تبقى ماثلة في أذهاننا ونحن على أبواب استحقاق دستوري هام يمكن أن يشكل انتقالاً بالبلاد من مرحلة انتقالية عاشتها عبر السنوات السابقة إلى مرحلة الاستقرار الدستوري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي التي يتطلع إليها كل اللبنانيين. فلقد بات واضحاً إن الإنجازات الوطنية الهامة التي حققها لبنان منذ معركة بيروت حتى اليوم، سواء على صعيد دحر الاحتلال الإسرائيلي من أجزاء كبرى من البلاد أو على صعيد إرباك قواته حيث ما زال محتلاً ، أو على صعيد وقف الحرب واستعادة وحدة الوطن ومؤسساته، أو على صعيد استعادة بعض دوره العربي والعالمي المميز، أو على صعيد بناء بنيته التحتية التي يهدد العدو بضربها بين الفتنة والأخرى، تحتاج مع العهد الجديد المرتقب إلى تحصين متواصل عبر معالجة اختلال مشكو منه، على كل صعيد ، سواء في مجال الممارسة الدستورية كما النص الدستوري، أو في مجال مجابهة الاختناقات الاقتصادية والاجتماعية، وما تؤدي إليه من بطالة وهجرة وانخفاض في مستوى المعيشة، ناهيك عن ا لعلاقات السياسية حيث ما زال لبنانيون كثيرون يشعرون إنهم خارج المعادلة السياسية، فيما يرتبك أداء من هم في داخلها، وترتفع بينهم السجالات، بحيث يشعر اللبناني أمامها إنه أمام أحد طريقين، أما مساومات على حساب الدستور والقانون والعمل المؤسسي أو مشاحنات تسهم في زعزعة الاستقرار السياسي. وعلى الرغم أن دستورنا الجديد قد وضع صلاحيات السلطة الإجرائية بيد مجلس الوزراء مجتمعاً، باعتباره القيادة السياسية العليا في البلاد، إلا أن شخصية الرئيس تبقى لها أهميتها الاستثنائية كرمز وكعنوان للمرحلة المرتقبة والعهد الجديد. فإذا كانت المرحلة القادمة تحتاج إلى إقامة حكم المؤسسات، لا الأشخاص الذين يختزلون المؤسسات فيهم، فإن الرئيس المفضل وهو ا لذي يكون قد أثبت التزاماً بالعمل المؤسسي وإيماناً به عبر تجربته في التعاطي مع الشأن العام، بل أن يؤمن بالعمل الجماعي ويمارسه، يمتلك رؤية ويرتكز فريق عمل يعاونه في كل مجال فيدخل إلى مجلس الوزراء وهو مطلع بدقة على كل الملف مدرك بجوانب الموضوعات المطروحة كافة فيقود البلاد بالمعرفة وبالحكمة والشجاعة وبالروح الجماعية. وإذا كانت المرحلة القادمة تستدعي تعزيز روح الوفاق الوطني وتقاليده باتجاه توسيع نطاق المشاركة اللبنانية في صناعة القرار فإن شخصية هذا الرئيس يجب أن تكون موحية بالثقة لكل اللبنانيين، وأن يكون في تربيته ومبادئه وعلاقاته وممارسته قد جسد قيم الميثاقية اللبنانية فكان لجميع اللبنانيين من كل طوائفهم وبيئاتهم والمشارب ودون تمييز. الحصون الطائفية والمذهبية وإذا كانت المرحلة القادمة تستوجب إصلاحاً إدارياً للإصلاح السياسي وناجماً عنه ومعززاً له فإن الرئيس المقبل يجب أن يكون مشهوداً له بنظافة الكف، وحزم القرار، وبعدم الارتهان لمصالح ضيقة أو اعتبارات ذاتية، بل رئيس يقود البلاد في مسيرة الخروج من النظام الطائفي برمته، فلا يجوز أن تبقى بعض المواقع الوظيفية حصوناً طائفية أو مذهبية فيما نتحدث كل يوم عن إلغاء الطائفية والمذهبية. وإذا كانت المرحلة القادمة تتطلب تطويراً في العلاقات اللبنانية- السورية باتجاه مؤسسي، وتكاملي، وتكافؤي، واحترام متبادل لسيادة البلدين ومصالحهما، فإن الرئيس المطلوب هو الذي جسد في ممارساته وعلاقاته وقناعاته هذا الفهم القائم على الأخوة والثقة والمصارحة، بل القادر على أن يقيم جسور ثقة بين سوريا وبين فئات لبنانية ما زالت أسيرة الإرث المتوتر في العلاقة بين البلدين، بل الرئيس الذي يدرك أن التعاون مع سوريا هو تعاون بوجه الأعداء المتربصين بها وبلبنان، كما هو تعاون بوجه الأعباء التي باتت وطأتها على سوريا كما على لبنان ثقيلة أيضاً . وإذا كانت المرحلة القادمة محكومة بأولوية العمل لتحرير الأرض من المحتل الصهيوني، سواء عبر تعزيز المقاومة، أو عبر الاستثمار في الصمود، أو من خلال تعميق وحدة المصير والمسار مع سوريا، فإن الرئيس الذي يحتاجه لبنان مدعو لأن يكون قد من المقتنعين بهذه الثوابت، ومن الذين جسدوها في كافة المواقع والمواقف التي اتخذها، أن يدرك عظمة الشهادة فيرعى ذويهم وعائلاتهم ويكرم ذكراهم، وأن يدرك حجم معاناة الأسرى والمعتقلين فيسعى ليكونوا للدولة، كما للمجتمع، أبناء معززين مكرمين في الأسر كما لدى خروجهم من المعتقل. ترجمة عروبة لبنان وإذا كنا نعتبر أن عروبة لبنان التي كرسها الدستور، تحتاج في المرحلة القادمة إلى ترجمة عملية في الداخل والخارج، في الاقتصاد والثقافة والتربية كما في احترام مبادئ الأخوة العربية في التعامل مع العرب، حكومات وأفراداً، فإننا نريد رئيساً يقود باتجاه دور عربي له رائد في كل مجال وباتجاه أن يكون وطن حقوق الإنسان ليس لأبنائه فحسب بل لإخوانه العرب، لا سيما الأخوة الفلسطينيين المقيمين بيننا الذين ما زالوا يدفعون دون مبرر ثمن الحرب المدمرة التي عاشها لبنان، وكانوا هم أيضاً من ضحاياها، وما زالوا يعانون من سياسة تمييز لا تقرها العروبة ولا الإنسانية، وهي سياسة تسهم عن وعي أو غير وعي، بتيئيس شعب فلسطين وإجباره للقبول بكل الحلول المطروحة وفي مقدمها التوطين المرفوض لبنانياً وفلسطينياً، وطنياً وقومياً. إن عروبة لبنان اليوم تقضي أيضاً أن يلعب لبنان دوراً رائداً في انجاز مصالحه عربية شاملة، والتهيئة لعودة المنظومة العربية إلى العمل الفاعل على غير صعيد، كما تقتضي تحركاً دولياً من لبنان لرفع الحصار عن العراق وليبيا، وإعادة فتح الآفاق الاقتصادية العربية للبنان وعودة علاقاته مع كل أشقائه العرب. جسر نحو المستقبل لا صندوق تعويض عن الماضي وباختصار نريد رئيساً يكون رمزاً لمرحلة تتقدم فيها الكفاءة على العصبية، ومهارة الأداء على المحسوبية، رئيساً يجسد حلم اللبنانيين أن تكون دولتهم القادمة جسراً نحو المستقبل لا صندوق تعويض عن خدمات قدمت في الماضي . نعم نريدها دولة تفتح للبنان أفاق المستقبل، ولا تبقى حبيسة لحسابات الأمس وثاراته. ولعل هذه الذكرى بالذات، ذكرى عطاء عاصمة ووطن بأروع أشكال العطاء، ومن على هذا المنبر الذي يحمل اسماً هو رمز للتضحية بكل المقاييس، نقول للجميع، إن من أعطى فقد أعطى لوطنه، وإن من ضحى في سبيل مبادئه والتزامه ومبادئه، وبالتالي فلوطننا فضل علينا جميعاً، من يطالب بفضله على وطنه لا يكون من أهل الفضل أصلاً . بهذه المواصفات نريد عهداً جديداً، لا مجرد رئيس جديد، يكمل انجازات هذا العهد وهي كثيرة،ويتابع قرارات رئيسه الجريئة وهي متميزة، ولكنه أيضاً يدرك أن متغيرات كبرى حصلت في العالم يجب أن نهيأ بلدنا لملاقاتها، وأن حاجات كبرى ما زال لبنان يفتقدها ينبغي السعي للوصول إليها. حينها فقط تكون بيروت قد استكملت انتصارها على الغزاة الصهاينة، بانتصارها على الثغرات الداخلية، وقد استكملت تحريرها من الاحتلال بتحرير لبنان من كل مظاهر الاختلال. |